مجلة حكمة

في فهم الذات: تشارلز تايلور والتأكيد على الحياة العادية – إبراهيم الكلثم

taylor-charles1


  1. منابع الذات : الخيرات الفوقيّة أو كيف نفهم ذواتنا؟

   ثمّة أفكار توجّه حياتنا ونبني عليها أحكامنا وقراراتنا، وغالبًا ما يحدث ذلك دون وعي منا. نردد في العصر الحديث كلمات من قبيل الحريّة أو العدالة، ونطالب بها إلى درجة قد نضع حياتنا نفسها على المحك من أجلها، وقد يكون ذلك من دون معرفة بما تعنيه هذه الكلمات تحديدًا. وإذا قرأنا “أنضجت التجاربُ نفسَه”؛ فنفهم هذه الكلمات بناءً على تصورات أو مفاهيم لدينا تُشكل وعينا وفهمنا، فهي ليست كلمات جوفاء خالية من المعنى، وإن كنّا لا ندرك هذه التصورات تمام الإدراك؛ فمن هذه التصورات مثلًا أن هناك ذاتًا (أو نفسًا، واستعمل الكلمتين بنفس المعنى هنا) تميّز كل واحدٍ منّا عن غيره. وننظر إلى الذات، نحن من يعيش في العصر الحديث، على أنها معطى ثابت عرفه الإنسان منذ وُجد، ولكن هذا -كما يوضّح تايلور- غير صحيح. فالإنسان ما قبل الحديث لم يفهم من هذه الكلمة ما نفهمه الآن منها، بل هي نِتاج تراكمات طويلة وكثيرة.

   من أبرز ملامح الذات -بل نكاد نساوي بين هذا الملمح وبينها- هو وجود باطن، “مساحة داخلية” تميّز كل فرد منّا عن أشياء العالم الخارجي. فنحن لا نعرف أنفسنا إلا ككائنات لها أعماق داخليّة. يتعقّب تايلر فكرة الباطن في التراث الغربي بداية من فكرة “السيطرة الذاتية” عند أفلاطون الذي رأى أن الإنسان يصير صالحًا عندما يسود العقل ويسيطر الإنسان على رغباته(1)، وبعدها في كتابات أوغسطن الذي نقل النظر من ميدان الأشياء المعرفة -باستخدامه للغة الباطن أو الداخل– إلى النشاط المعرفي ذاته بحثًا عن الله، الذي يقول أوغسطن أنه موجود في هذا النشاط “فالحقيقة تقيم في الداخل […] والله هو الحقيقة” (ص210). وتجلّت وتطورت فكرة الداخل في التراث الغربي، حيث نراها في الكوجيطو الديكارتي إلى الذات المتحررة المسيطرة على نفسها عقليًا عند جون لوك. يصعب علينا فهم حزمة كبيرة من المفاهيم والكلمات المتداولة في حياتنا (“الأنا”، “الذات”، “الإيغو”، “الفردانية”، “الاستقلال”، بل وحتى “الموضوعيّة”) من دون فكرة الجوّانية أو الباطن.

    يرى تايلور بأنه يستحيل فهم ذواتنا من دون إطار مُعيّن للخير (أو للأخلاق)؛ فكتابه “منابع الذات” محاولة لسبر مظاهر مختلفة للُهويّة الحديثة يتتبع فيها فكرتنا عما تعنيه الذات الحديثة. لكنّ هذا البحث سيغدو ناقصًا ما لم نفهم نشوء تصوراتنا للخير “فالذات والخير، أو أقول بطريقة أخرى، الذات والأخلاق هما موضوعان مترابطان ترابطًا لا فكاك منه” (ص41). وبهذه النظرة، يقطع تايلر تلقائيًا مع أغلب المقاربات الفلسفية الأخلاقية الحديثة التي تركز على ما يكون فعله صحيحًا وليس على ما يكون خيرًا، وعلى مضمون الواجب وليس طبيعة حياة الخير نفسها. والخير مفردة تدّل على “أي شيء يعتبر ذا قيمة، يستحق الجدارة، يبعث على الإعجاب، من أي نوعٍ أو صنف” (ص159). ويصك تايلور مصطلحين مهمين في هذا السياق : المصطلح الأول هو مصطلح “الخيرات المؤسِسة” (Constitutive goods) ويعني بها الأسُس الضمنيّة للأنظمة الأخلاقيّة، وتشمل هذه الخيرات المؤسسة الأديان أو التقاليد التاريخية. ويتضح الفرق بين الخير والخير المُؤسِس في قولنا مثلًا بأن التقوى مبنيّة على (أو نابعة من) خير مؤسس هو الدين. أما المصطلح الثاني فهو الخيرات الفوقيّة (Hypergoods) “وهي ليست فقط خيرات أهم من سواها […]، وإنما هي التي توفّر وجهة النظر التي بها تُوزن، يُحكم عليها، ويُبت بها” (ص120).

   تكمن أهمية هذه التمييزات في التأكيد على أمرين مهمين من بين عدة أمور : الأول هو أن هناك خيرات توجّه وتحرك قراراتنا (وبالتالي حياتنا) وإن كنّا غير واعيين بها أو حتى ننكرها، فهي محاولة للتأكيد على أهميّة حدوسنا الأخلاقية وما يحرّك حياتنا وإن كان غير واضحٍ لنا. والأمر الثاني هو الانعتاق من الميل الطاغي على الفلسفات الأخلاقية الحديثة التي تحاول توحيد نظراتنا الأخلاقية حول أساس وحيد؛ فمذهب المنفعة (Utilitarianism) مثلًا لا يركز إلا على السعادة، فلا يوجد أعلى أو أدنى “والمعيار الوحيد الذي بقي هو زيادة تحققها” (ص140)، وهذا الميل إلى التوحيد يوجد كذلك في بقية الفلسفات الأخلاقية. يستشهد تايلور ببرنارد ويليامز الذي رأى “بأن هناك خيطًا عامًا مشتركًا في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، وهو : تعريف ‘الأخلاقي’ بمفردة فكرة الواجب” (ص120)، وهذه الفكرة تقودنا إلى مفهوم إجرائي (“إجرائي” في مقابل “جوهري”) للأخلاق. يرفض تايلور هذا الميل لصالح التأكيد على تعدد الخيرات نفسها، وترتيبها بالنسبة لأهميتها(2)، ويحتفظ هذا الترتيب في نفس الوقت بأهميّة خيرات معينة مقارنة مع غيرها(3).

   الأطر الأخلاقيّة التي نتبنّاها غالبًا ما تكون ضمنيّة ومُفترضة مُسبقًا، وقابعة في منطقة نائية وبعيدة في وعينا، حتى إن أدعيّنا حياديّة زائفة؛ فالبشر “ليسوا بأشياء حيادية، فهم موجودون في فضاء من المسائل، وخلال تأليفية معينة. فمسائل الاهتمام تمسّ طبيعة الخير الذي بواسطته أوجّه نفسي، وطريقة وضعي بالنسبة إليه” (ص102)، وهذا، بكل تأكيد، ينطبق حتى على من ينظّر لنظرية أخلاقيّة. نادرًا ما تظهر لنا هذه الأطر بشكل واضح وعلني -تظهر في نقاشٍ حاد حول الإجهاض مثلًا- لكن في الأعم الأغلب تبقى غير ظاهرة؛ لذلك يحرص ويؤكد تايلور على أهمية التعبير اللفظي لهذه الأطر، أي إخراجها من ظلام الضمنيّة إلى ضوء اللفظ. وبفعلنا لهذا سنحقق الغايات التي يحاول تايلور ملامستها، مثل : توسيع فهمنا للقيم الأخلاقيّة (وبالتالي فهم الذات)، ومساعدتنا على ملاحظة تعدد الخيرات (ومنابعها أيضًا)، وزيادة النقاشات حول الخيرات الأخلاقيّة المختلفة (وبذلك نبتعد عن النسبويّة الأخلاقيّة)، وسيساعدنا ذلك أيضًا على الالتزام الأخلاقي بهذه الأطر نفسها. يُمكن القول أن من مهام “منابع الذات” الرئيسية هو فعل هذه المهمة بالتحديد، أي لفظ أهم الخيرات التي تشكل حياة الذات الحديثة، والمصادر (=المنابع) المُختلفة لهذه الخيرات.(4)

 

  1. منهج “منابع الذات”: الخيرات الفوقيّة وأثاث العالم

   “منابع الذات” مكوّن من خمسة أجزاء، يوضح تايلور في الجزء الأول معالم وخلفيات خطته البحثية، ويركّز على نقد سِمات مركزية في النظريات الأخلاقيّة والسياسية الحديثة، منها محوريّة فكرة الواجب وفكرة الحق والتفكير الإجرائي الملازم لها، ويؤكد على استحالة فهم ومقاربة العالم من دون افتراضات مُسبقة أو تمييزات نوعية كما تتطلّب وتزعم هذه النظريات؛ فأي حيادٍ مزعوم (في ادعاءات الإجرائية أو الواجب أو الحق) دائمًا ما يقام على أطر غير ملفوظة وضمنيّة، وهي أطر -كما وضحّنا أعلاه- تستلزم تمييزات نوعية وغير حياديّة. فمن المهم لفظ هذه الأطر، وهذا ما يحاول فعله في بقيّة الأجزاء الأربعة للكتاب : البحث عن منابع الذات في خيرات فوقيّة تحدد هذه الذات الحديثة، ويبحث ذلك في ثلاثة مصادر كبرى سمّاها : الجوانيّة أو الباطنية (inwardness) و تأكيد الحياة العاديّة (The Affirmation of Ordinary Life) وصوت الطبيعة، ويرى أن هذه المصادر حاضرة بشكل أو بآخر في الذات الحديثة بنفس القدر منذ العصر الفيكتوري، الحضور الذي يسبب الصراع والقلق فيها.(5)

   ويعالج تايلور ذلك من خلال الجمع بين ما هو تحليلي وما هو تاريخي بتسلسل زمني. ومع ذلك ما يفتأ يُذكر بأن طريقته هذه ليست طريقة “سبب ونتيجة”؛ فهو لا يبحث عن مُسببات الذات الحديثة، بل عن منابعها. فهذه المنهجية لا تتنكر لأهمية البحث في الجوانب الاجتماعية والسياسية وغيرها لعصر ومجتمع ما. يرى تايلور بأن الفلاسفة والفنانين هم أفضل من عبّر عن (ولفظ) هذه المنابع. لذلك فهو يركّز على أعمالهم لتحديد المصادر الأخلاقيّة، ليس لأنهم خلقوها -وإن كان لبعضهم شيء من التأثير في ذلك- بل لأنهم أفضل من لفظها وعبّر عنها.

   سأركز في هذا المقام على مصدر واحد من المصادر التي تكلّم عنها تايلور، ألا وهو “التأكيد على الحياة العاديّة”. لكن قبل ذلك، ثمّة اعتراض محتمل يناقشه تايلور، هذا الاعتراض يأتي من أصحاب المذهب الطبيعي (Naturalism) العلمويين على هذه الطريقة، وبالتحديد، اعتراض على الخيرات كما ذكرها تايلر في كتابه؛ فكما يرون، ما يُسميّه تايلور بالخيرات ليست في نهاية المطاف إلا مشاعر وأحاسيس، وهذه بدورها ما هي إلا تفاعلات فيسيولوجية عصبية تجري في الجسم الإنساني، والأهم من ذلك كلّه : “أين يُمكن وضعها في أثاث العالم؛ كما يكشف عنه علم الفيزياء؟” (ص141).

   إن ما جعل شيئًا مثل “الخيرات الفوقيّة” تبدو ككائنات غريبة هو احتلال العلوم الطبيعية مكان الأنموذج (paradigm) لجميع أشكال المعرفة، ومن ذلك ما يتعلق بشؤون البشر. إن “الخير” أو “المطلق” لا يؤلفان جزءًا من العالم كما يدرسه العلم الطبيعي، لكن هذا لا يعني أن نقول “إنهما ليسا حقيقيين، موضوعيين، ولا [حتى] نسبيين مثل أي جزء آخر من العالم الطبيعي” (ص109).(6)

   إن طريقة البحث (الفينومينولوجية، في جزء كبير منها على الأقل) التي اتخذها تايلور تتحدى الصورة التي يقدمها المذهب الطبيعي تحديًا عنيفًا، من حيث إن الأخيرة تُقدم لنا صورة لشخص مُتحرر من جميع الأطر. فإذا كنّا -ولابد- نتبنى أطرًا أخلاقية ولو ضمنيًا، أطر لا نتحرك إلا بها؛ فإن هذا الشخص “العديم الإطار سيكون خارج فضاء محادثاتنا؛ [فلا موقف له] في الفضاء الذي نكون فيه. ونحن نعتبر ذلك بمنزلة المرض النفسي” (ص77، والتشديد من عندي).

   شغل النقاش حول أحقيّة مقاربة تايلور ضد اعتراض المذهب الطبيعي جزءًا كبيرًا من القسم الأول للكتاب، ويحاجج باستخدام ما سمّاها بمبدأ التفسير الأفضل (BA Principle) : بما إن الذات لا تعرف نفسها إلا من خلال شبكات علاقات مع الغير، الذات التحاورية (Dialogical Self) كما يُسمّيها، فنحتاج إلى تقديم أفضل تفسير لهذه العلاقات، التفسير الذي لن يُبنى على نظرية فيزيائية، ولا بمفردات علم الفيزياء (ص112-113). فأساس قبول أي من هذه النظريات يكمن في “أنها تعطينا معنى عن أنفسنا أفضل مما تفعل المنافسة لها” (ص78). ونظريات البحث العلمية   -كما يرى تايلور- لا تقدم لنا أفضل تفسير للأمور التي يشتغل عليها: الذات، والهوية، والأخلاق، والعلاقات الإنسانيّة.

 

  1. الحياة العاديّة بوصفها مصدرًا أخلاقيًا للذات

لكن ما هي الحياة العاديّة؟

 يقصد تايلور بتعبير “الحياة العاديّة” التدليل بشكل واضح على حياة الإنتاج والأسرة. التأكيد على أهمية أنشطة كانت توضع في مقابل ما سُمّي في عصورٍ خلت بـ”العليا”، ينتج عن هذا التأكيد إعطاء مركزٍ بارزٍ للحرية وضبط النفس وتجنّب الآلام، وللحب الرومانسي أيضًا.

   وليتضح مقصود ما يرمي إليه تايلور، دعونا نفكّر في الأزمنة ما قبل الحديثة ونظرتها لما يُسمّيه تايلور بالحياة العاديّة. فعلى سبيل المثال، كانت تعتبر أخلاقُ المحارب الحياةَ العادية جزءًا يتعارض مع ما هو أعلى ولا مثيل له؛ فعلى المحارب ألّا يكترث بسفاسف الأمور. حياة الحرب، الحياة البطوليّة، هي ما كانت تمنحه المعنى. “كانت تعتبر حياة المواطن الجندي أعلى من مجرّد الوجود المكرّس لفنون السلام والحياة الاقتصاديّة الجيّدة؛ فقد رسمت الحياة العليا وأحيطت بهالة الشهرة والعظمة المرتبطة بها، ونسبت إلى من نجحوا فيها نجاحًا باهرًا” (ص64). هناك استعداد بوضع الطمأنينة والثروة -بل والحياة نفسها- على المحك، الاستعداد الذي كان يصنع عظمة هؤلاء “والذين عجزوا عن أن يوصلوا أنفسهم إلى تلك المرتبة، كان يُحكم عليهم بالازدراء ويُشبّهون بالـ’نساء’ ” (نفسه). وتختلف الأخلاق الأفلاطونيّة عن أخلاق المحارب والشرف من حيث أنها ترى الحياة الفاضلة، الحياة العليا، هي تلك التي يحكمها العقل الذي يكبح الرغبات. ومع ذلك فهي تتفق معها في أن الحياة العليا لا تكون في الحياة العاديّة.

   بينما ترى الأخلاق الأرسطية أن هذه الحياة العاديّة “مهمة بوصفها الخلفية الضرورية والسائدة ‘للحياة الفاضلة’، حياة التأمل الفكري وعمل الإنسان بوصفه مواطنًا” (ص55). وشملت أخلاق الكرم في القرون الوسطى الغربية معنى من معاني التراتبية، حيث كانت فيها “حياة المحارب أو الحاكم ذات الشرف والمجد لا تُقارن بحياة الناس ذوي المرتبة الدنيا، والمعنيين بالحياة فقط” (ص 325)، وكان يُرى أن الاهتمام المحموم بالكسب المادي يتعارض مع تلك الحياة الرفيعة، بل في بعض المجتمعات “كان العمل في التجارة يُعدّ بمنزلة الحط من قدر المرتبة الأرستقراطيّة” (نفسه). إذن، فالتأكيد على الحياة العاديّة بهذا المعنى اختراع حديث؛ حيث كانت قبل ذلك إما تعارض أنشطة “عليا”، أو لها مكانة ثانوية تكون رافدًا للحياة الفاضلة، أي الحياة الحقيقية، إن جاز التعبير.(7)

   ثمّة انتقال قَلب تلك الأنظمة التراتبية، ونقل مكان الحيّاة الفاضلة (الجيّدة/الخيّرة/…) من مجموعة مُعينة من النشاطات العليا (التأمل/البطولة/أخلاق الشرف/…) ووضعها داحل الحياة نفسها؛ فتُعرّف الحياة الإنسانيّة كلها الآن “بمفردات العمل والإنتاج، من جهة، والزواج والحياة [الأسريّة] من جهة أخرى. وفي نفس الوقت، خضعت النشاطات العليا لنقد شديد” (ص326).

   يرى تايلور بأن هذه النقلة ظهرت في الإصلاح البروتستانتي؛ فإذا كانت الكنيسة هي مكان ووسيلة المقدّس؛ فلا نتقرّب إلى الله إلّا من خلال انتسابنا إليها والمساهمة فيها؛ فإنه حالما يُرفض المقدّس “سيُرفض ذلك النوع من التوسط أيضًا. فكل شخص يقف وحيدًا وبمفرده في علاقته مع الله : فمصيره أو مصيرها -سواء أكان خلاصًا أم لعنة- يُقرّر منفردًا” (ص331). إن رفض المقدس والتوسط، وبالتالي انحلال المهمات الرهبانية (العزوبية المربوطة بالراهب في المذهب الكاثوليكي القروسطي مثلًا) قاد إلى تعزيز رتبة ومكانة الحياة العاديّة. إن نفي البروتستانتيين لأن يكون أي شكل من أشكال الحياة مكانًا للمقدّس أدى في نهاية المطاف إلى نفي التمييز بين ما هو مقدّس وما هو دنيوي، وأكدوا على تداخلهما؛ فوضعية الراهب لا تتميز عن أي مؤمن آخر، وكان نفي الوضعية الخاصة للراهب تأكيدًا “على الحياة العادية، على كونها أكثر دنيوية، وأنها ذاتها مقدّسة، وليست من المرتبة الثانية بأي شكل” (ص332). لم تعد الحياة العاديّة شيئًا لا قيمة له، أو له مكانة ثانوية، إن أمورًا كالزواج والحرفة ليسا مجرّد خيارين إضافيين، بل هما أسس من أساسات الحياة. جعلنا الإصلاح البروتستانتي نرى الله في أمور الزواج، وفي العمل والإنتاج، أو باختصار : جعلنا نرى الله في الحياة العاديّة.

   ثمّة مثال بديع يضربه تايلور للتوضيح بأن التأكيد على الحياة العاديّة نابعٌ من الدين، من المسيحية، وليس من -مثلًا- الرواقية. فيعقد مقارنة بين قصة موت المسيح وقصة موت سقراط؛ فعلى الرغم من التوازي بين القصتين، هناك اختلاف جوهري بينهما؛ “فقد حاول سقراط أن يبرهن لأصدقائه أنه لم يخسر شيئًا ذا قيمة، وأنه كسب خيرًا عظيمًا […] حينئذ لم يبد سقراط انزعاجًا. في حين نجد أن يسوع كان يعاني من ألم مبرّح في الروح، في الحقيقة، ودفع إلى حافة اليأس وهو على الصليب، وظهر ذلك عندما صرح : “لماذا هجرتني؟” فلم يكن في أي مرحلة من مراحل العاطفة رائقًا هادئًا وغير مضطرب” (ص334). ويقول : “المفارقة المنطقية [في إنكار الذات بين المسيحية والرواقية] هي في أن إنكار الذات في المسيحية هو تأكيد على خير ما يُنكر. أما عند الرواقيين، فإن خسران الصحة والحرية والحياة لا يؤثر في سلامة الخير” (نفسه).

   ويرى تايلور بأن مكانة الحياة العاديّة قد عزّزتها الثورة العلميّة مع بايكون؛ فلقد استبدلت البراهين المنطقية عند علماء القرون الوسطى بمتطلبات التقييم العملي التجريبي، والملاحظة المباشرة لمجريات الطبيعة، وانتقاص من قيمة التفكير التأملي واللفظي، الأمر الذي قاد إلى رفع قيمة العمل اليدوي والعمّال. وهي أمور يُمكن أن نراها بوضوح في الذات الحديثة(8) (347-349).

   ينتج من التأكيد على الحياة العاديّة فهمنا الحديث لاحترام الإنسان، الذي له سِمتين مترابطتين أخريين : الأولى هي أهميّة تجنّب الآلام، أي تلك الحساسيّة العالية التي يمتلكها الإنسان الحديث تجاه الآلام، ومن هنا يأتي شجبنا للعقوبات “البربرية” (من تقطيع وتمثيل وحرق إلخ) التي مارسها أسلافنا. نتملّك حساسيّة عالية تجاه هذه العقوبات بوصفها آلامًا يجب أن تُجتنب. و ليس المقصود أن “حوادث مروّعة شبيهة لا تحدث في القرن العشرين في الغرب. وإنما المقصود هو أنها -الآن- تعتبر ظواهر شذوذٍ مروّعة ومثيرة للاشمئزاز لا بدّ من إخفائها” (ص 54). إن أهميّة تجنّب الآلام “تُلوّن كل فهمنا لما يعنيه [بحق] احترام الحياة والكرامة الإنسانيتين” (ص 55)، وهي السِمة الثانية(9).

   إن معنى الكرامة والاستقلال الذاتي(10) عند الإنسان الحديث لا ينفكّ عن أهمية التأكيد على الحياة العاديّة؛ فشعوري “بنفسي كصاحب منزل، ربّ لأسرة، له وظيفة، ويعيل صغاره، كل ذلك يُمكن أن يشكل الأساس لشعوري بالكرامة. تمامًا مثلما أن غياب كلّ ذلك قد يكون كارثيًا، قد يبعثر ذلك الشعور عبر تدميره شعوري بالاعتبار الذاتي” (ص58).

   مهّد ما سبق ذكره الطريق إلى تغييرات منحت الشعور أهمية كبيرة، وهذا أدى إلى أهمية قيام أسرة قائمة على المحبة (يتعقّب تايلور ذلك في القرن الثامن عشر في الأقطار الأنجلوسكسونية وفرنسا). لقد “صارت مشاعر الحب، الاهتمام، ومحبة الزوج والزوجة من الأمور التي تتطلّب تعلّقا وابتهاجًا وصياغة. والشيء ذاته انطبق على محبة الوالدين لأولادهما” (ص433). ولا يعني ذلك أن الحب في الزواج لم يكن موجودًا فيما مضى، وإنما الشعور بأهمية حضور هذا الحب، والشعور بمكانته الهامة هو الذي حدث؛ “فلم تكن التغيرات ماثلة في أن الناس بدأوا بحب أولادهم أو الشعور بحب زوجاتهم، وإنما في أن تلك التصرفات صارت تُرى كجزء حاسم مما يجعل الحياة تستحق العيش وأنها مهمة” (ص434).

   إذا تأملنا في العديد من الأمور التي توجه حياة الذات الحديثة، مثل ذلك الميل نحو الانتقاص من قيمة التفكير التأملي إذا ما قارنّاه بالاشتغال التجريبي (ص425)، والارتياب من كل ما هو نخبوي، أو يحمل ادعاء بأن له وعي من مستوى أعلى (ص129)، والمنزلة الهامة التي تحتلها نشاطات كالزواج والعمل والإنتاج (ص55)، والإغراء الكبير في الدفاع عن السعادة الحسيّة (ص175)، وأهمية الحب في الحياة الزوجية (ص433-436)؛ فسنرى بأن ثمّة دافعًا (مصدرًا أخلاقيًا/خيرًا فوقيًا/…)، وراء كلّ ذلك(11)، شعور بأن شيئًا هامًا سيُفقد من الحياة إذا لم نفعل هذا الأمر أو ذاك، أو بأن علينا أن نفعل ونقول هذا الشيء وليس الآخر، أو أن ثمّة ما يجذبنا نحو هذا الأمر وليس غيره، هذا الدافع هو أهميّة التأكيد على الحياة العاديّة.

 

  1. سرديّة أكثر ملاءمة لفهم الذات

   في تعريفه للذات -التي هي نِتاج تراكيب معقدة تدمج مواريث ثقافية وخليط مجرّد من التفكير والتجارب المُعاشة- يمّمَ تايلور شطر السرديّةَ(12)، واتكأ على تصوراتنا الأخلاقيّة في هذا المسعى، محاولًا خلق المساحة الفكريّة الضروريّة لبحث بدائل للوصف التقليدي للذات؛ فمن خلال تبيين أن المواقف والاتجاهات عن الذات هي مواقف حديثة تكوّنت عبر تواصل تاريخي ما(13)، يفتح تايلور إمكانيّة تكوين بديل، بدلًا من رؤية بنية الذات كمعطى ثابت لا يتغير، يحررنا هذا الفتح لكي نبحث في علاجات للمشاكل التي تستلزمها تلك البنيات، وهذا ما نستشفّه من بحثه المطول عن مصادر الذات الحديثة كالحياة العاديّة.

   ففي “منابع الذات” -كما في كتابه الخطير الآخر “عصر علماني”- يحاول تايلور “فهم ظاهرة الحداثة بطريقة أنجع وغير أحاديّة كما جرت العادة” (ص35)؛ فبدلًا من أن يتخلى عن السرديات الكبرى -كما تفعل ذلك اتجاهات ما بعد الحداثة-، يريد تايلور أن نبحث عن صياغة أكثر ملاءمة لفهم هذه الظاهرة. وبفعله لذلك، سنجد أن ما كنّا نعتبره شيئًا ثابتًا، أو طريقة أحادية في تفسير الحداثة ليست إلا الصياغة الرسميّة المُتبنّاة على نطاق واسع. ولا يقتصر عمل يرسم صورة كيفية تكوّن الذات الحديثة في قيمته العلمية العظيمة، بل إن عملًا كهذا سيمنحنا فهمًا مهمًا لهذه الذات، والفهم قيمة جليلة بحد ذاتها.

 


 الهوامش :

(1)     “فعلى مرّ القرون بدا من البديهي أن يقوم [الإنسان] بذلك إذا لم تمنعه العاطفة. وقد ظلّت الروابط الخلفية التي تقع في أساس هذه النظرة هي ذاتها، أي: اعتبار الشيء اعتبارًا عقليًا معناه الوقوف موقفًا لا عاطفيًا نحوه.” (ص189).

(2)     يُطلق تايلر اسم التقييم القوّي strong evaluation)) على عملية ترتيب الخيرات، من خلال التأكيد على أن خيرات معيّنة أهم من غيرها.

(3)     لتفصيل أكثر حول هذا التمييز، يقول تايلر “بعض الناس يعيشون طبقًا لتعارض من درجة أعلى بين الخيرات أيضًا. فهم يعرفون قيمة التعبير الذاتي، العدالة، الحياة الأسرية، القيم الأخرى، عير أنهم يعتبرون إحداها -ربما علاقتهم بالله، أو العدالة- ذات الأهمية العليا. وهذا لا يعني القول أنهم يضفون أولويّة ثابتة في تفكريهم وفي قراراتهم. فقد يكون هناك جميع أنواع البحث الذي يمتد من الشعور بحدودهم الخاصة إلى معرفة أن الخيرات الأخرى قيمّة أيضًا، مما يكبحهم عن ذلك. وقد يُتهمون بأنهم ناقصو الشعور من قبل آخرين من ذوي العقلية الفردية من أنصار الخير ذاته، فيسألون : لماذا لم يقضوا وقتًا أطول في الصلاة؟ أو لماذا لا يكرّسون كل حياتهم للنضال للعدالة في المجتمع؟ ومع ذلك -بالنسبة إليهم- يظل ذلك الخير يحتلّ مكانًا لا يُضاهى في حياتهم.” (ص118، والتشديد من عندي).

(4) ثمّة نقطة هامة وجديرة بالذكر : إن المشترك بين هذه الأطر جميعها وعلى اختلافاتها -كما يقول تايلور- هو الشعور بعدم وجود إطارٍ يشترك به الجميع، شعور يمنعنا أن نعتبره هو الإطار الذي يمكن أن يغوص إلى مرتبة ظواهر الحقيقة الواقعية التي لا يتطرّقها الشك، وحتى من يقولون بأن هناك ما يبدو أنه المصدر الروحي الذي يمكنهم أن يربطوا حياتهم به، يعون شكوكهم الخاصة، ومقدار بعدهم عن أن يكونوا قادرين على معرفة صياغة محددة بثقة قصوى؛ فثمّة حضور دائم للشك والإحساس بالارتباط المؤقت والبحث المتواصل، وينطبق هذا على من يتبنى الأطر التقليدية التراثية “فليست المسألة مقتصرة على أنهم يتقبّلون تلك التقاليد -بشكل مؤقت- بل تراهم غالبًا ما يضعون أيضًا ترجماتهم لها، أو ينشئون تركيبات خاصة منها أو إشعارات منها، أو يقومون بشبه اختراعات في داخلها” (ص60، والتشديد من عندي). وهذا يقودنا إلى مسألة أزمة المعنى في العصر الحديث؛ فإذا كان الإطار هو ما يمنح حياتنا معنى ووجهة؛ فإن عدم حيازة هكذا إطار يعني عيش حياةٍ لا معنى لها. ولا يُمكن الحديث عن “بحث” من دون الحديث عن “معنى”؛ “فالبحث، إذًا، هو بحث عن معنى، وهو دائمًا كذلك” (ص60). وهذه حالة تَسم العصر الحديث؛ فلا معنى للحديث عن فقدان المعنى في ما قبل الأزمنة الحديثة، وحتى أولئك الذين يبدو وكأنّهم يعيشون حالة فقدان المعنى، أو أزمة هوية -ويراوح تايلر بين “الذات/النفس” و”الأخلاق” و”الهُوية” مستخدمًا إحداها مكان الأخرى لتذكيرنا بالترابط اللازم بينها- في تلك العصور لم يخرجوا تمامًا من أطرهم الأخلاقية/الروحية، “فكّر بلوثر وهو في كربه الشديد وأساه قبل أن تكون لحظة الرؤية المحرّرة الخاصة بالخلاص عبر الإيمان وشعوره بالحكم الذي لا مفرّ منه، وإدانته نفسه بواسطة وسائل الخلاص ذاتها، الأسرار المقدّسة […] ‘فمعنى’ الحياة كان أبعد ما يكون عن الشك عن ذلك الراهب الأوغسطيني، كما كان الحال في عصره كله” (ص 61).

(5) لو أردنا أن نذكر مثالًا لهذا الصراع في صياغة مختزلة تبتعد عن عمق وتعقّد الاشتغال الذي قام به تايلور في الكتاب، يُمكن أن نذكر النزاع بين الذات العاقلة لعصر التنوير (لوك) والذات التعبيريّة المرتبطة بالطبيعة للعصر الرومانسي (روسو).

(6) ولا يعني ذلك أيضًا أن نتبنى شيئًا كالمُثل الأفلاطونية، بل هذه الأخيرة -في نظر تايلر- مهّدت الطريق لتشكيل نظرة المذهب الطبيعي للعلم الحديث (التي تقول بأن القيم ثانوية وذاتية وُتفرض على كون ميكانيكي) من حيث أن المثل الأفلاطونية معايير حقيقية وموضوعية للخير؛ بالتالي “عندما تفقد ذلك الدور -كما حصل في العصر الحديث، وبشكل نهائي- فإن الإغراء قويّ لاستنتاج بأنها فقدت كل ادعاء لمرتبة أنطولوجية موضوعية أيضًا” لهذا يصل تايلور إلى استنتاج مفاده أن “الأفلاطونية ونموذج العلم الطبيعي متحالفان تحالفًا موضوعيًا لخلق صورة خاطئة عن مسألة الخيرات الأخلاقية. فعلينا أن نتحرّر من كليهما ونعود إلى بحث المسألة من جديد.” (ص110).

(7) يُمكن أن نجد شيئًا من هذا في نظرة أسلافنا العرب للحِرَف اليدوية؛ فقد كان يُنظر إليها كشيء مُهين (ومن هنا جاء أصل كلمة “مهنة”، في إحدى التخريجات)، فهذه الحِرَف مما يقصده تايلور بالحياة العادية.

(8) تجاوزت في عرضي لمشروع الكتاب عن أمرٍ هام يحرص تايلور على تأكيده مرارًا، ليس في كتابه هذا، بل حتى في بقية كتبه (مثل “عصر علماني” و”المتخيلات الاجتماعية الحديثة”)، هذا الأمر هو أن بحثه هو بحث في الذات الحديثة الغربية، وليس غيرها. فعلى الرغم من أنه يوسّع من مصطلح “التقليد اليهودي-المسيحي” في بعض مواضع الكتاب ليشمل “التقليد اليهودي-المسيحي-الإسلامي”، ويقول أيضًا بأن أنماطًا معينة لما يبحثه قد انتشرت في أجزاء أخرى من العالم، لكن مع هذا يؤكد بأن بحثه يركز على الغرب؛ فيقول في المتخيّلات الاجتماعية الحديثة شارحًا مشروع الكتاب “أود أن أرسم مخططًا مجملًا لأشكال المُتخيّل الاجتماعي التي وَسمت نهوض الحداثة الغربية. وينصب تركيزي على الحداثة الغربية؛ أي إنه يترك صنوف الحداثات البديلة في زماننا هذا من غير أن يمسها” (ص12)، وفي عصر علماني يفتتح الكتاب بقوله : “ماذا يعني أننا نعيش في عصر علماني؟” ثم يفسّر هذه الـ’نحن’ فيقول ” أعني الـ”نحن” التي تعيش في الغرب، أو ربما في شمال غرب، أو -بعبارة أخرى- عالم شمال الأطلسي” (ص1). ومع ذلك، يحذّرنا فتحي المسكيني من الوقوع في فخّ قراءة تايلور قراءةً هُووية، حيث يقول في مراجعته لكتاب عصر علماني “قد تبدو “النحن” غربية من الناحية السردية؛ إلاّ أنّها من الناحية الإشكالية لا تلبث أن تقنعك بأنّها لا تعدو أن تكون “نحن” الإنسانية الحالية بكل أعضائها”، بل يذهب أبعد من هذا ويذكّر أيضًا بـ” أصلنا الإبراهيمي المشترك والذي لا يؤخذ في الاعتبار حقّ قدره إلاّ عرضاً”، هذا الأصل الإبراهيمي الذي يجعلنا، نحن المسلمون، الذين نتملّك معجمًا سرديًا مشتركًا -أو لأقولها بمصطلح تايلور : منابع ذات مُشتركة- مع عالم شمال الأطلسي، يُمكننا هذا من فهم فلاسفة غربيين -مثل هايدغر- بدرجة أسهل من المترجمة الصينية -مثلاً- التي تفتقر إلى مفاهيم دينٍ توحيدي.

 انظر فتحي المسكيني، التفكير بعد هايدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ (بيروت : جداول للنشر والتوزيع، 2011)، ص30-31.

(9) هل يُمكن أن نترجم الجدل الحديث في السياق العربي الإسلامي حول الحدود الجزائية (قطع يد السارق – قتل المرتد – الرجم إلخ) بمصطلحات تايلور فنقول بأن من يحاول التخلص أو التخفيف من هذه الحدود (بأية صيغة كان هذا التخلص أو التخفيف، مثل القول بأن الحدود تعني أقصى الشيء، أي أنها الحد الأقصى الذي لا يجب تجاوزه في عقوبة الجاني، بينما ما هو أدنى من ذلك فهو ما ينبغي تنفيذه. أو انطلاقًا من منطلق القراءة التاريخيّة للنص، بمعنى أن هذه الحدود كانت شيئًا لازمًا لمجتمع بدوي ما قبل الدولة الحديثة، أما الآن فقد تجاوزها الزمان والمكان. أو من منطلق القراءة المقاصديّة التي تبحث في مقاصد هذه الحدود وتحاول التوفيق بين هذه المقاصد وبين التخلص أو التخفيف من هذه الحدود، إلى آخره من هذه الصياغات) أقول، هل يُمكن ترجمة من يحاول التخلّص أو التخفيف من هذه الحدود بمصطلحات تايلور فنقول : إن قيمةَ الحياة العادية بوصفها خيرًا فوقيًا قد أحتلت مكانًا أعلى من خيرات أخرى؟ وبالتالي فإن هذه المكانة الهامة للحياة العادية (وما تستلزمه من تخفيف الآلام) قد شكّلت الخير الأخلاقي الذي تنطلق منه كل هذه الصياغات، حتى وإن كانت لا تدرك ذلك.

 (10) للاستقلالية الذاتية مكانة مركزية في فهمنا للاحترام، وفي هذا يتفق حتى من تتعارض محاولاتهم في صياغة هذا الاتفاق؛ فمن تلك الصياغات: “أننا كائنات عاقلة (الصورة الكانطية) أو أننا نفهم أنفسنا بلغة الاستعارات العضوية وبمفهوم التعبير الذاتي (الصورة الرومانطيقية)” (ص53) فيوجد نزاع حاد حتى وإن اتفقوا في أهمية الاستقلالية الذاتية، “وهنا أيضًا تحوّل إجماع أخلاقي إلى نزاع جدلي على مستوى الشرح الفلسفي” (نفسه).

(11) إن ظهور النمط الجديد للقصة (والرواية) والإغراء الذي يجذبنا نحوها يعود -في جزء كبير منه على الأقل- إلى أنها عكست صورة الحياة العادية وزادت ترسيخها وتأكيدها، “فلم تكن مجرد إفادة عن أن أشخاصها كانوا -في أغلب الأحيان- من الطبقة المتوسطة، أو أن الكتابات أعلت من شأن فضائل مقاولات الأعمال (ديفوDefoe ) أو تناولت -أخلاقيًا- قضايا الحب والزواج (ريتشاردسون). فشكل الكتابة ذاته اشتمل على المساوة. […] المأساة صوّرت الأبعاد البطولية لحياة الشخصيات المجمّدة بالأسلوب الملائم وهناك أسلوب آخر خصّ الحقيقة الواقعية اليومية للناس العاديين” (ص427). ويقول بأن هذا الأسلوب هو الذي وضع معايير الأدب القصصي الحديث، والتي جعلت الأساليب القديمة للقص تبدو غريبة بالنسبة لنا، كما “تتعارض القصة الحديثة مع الأدب السابق كله في تصويرها للجزئي. فهي تحيد عن حبكات القصص التقليدية وعن القصص البدئية، وتنفصل عن التفضيل الكلاسيكي لما هو عام وشامل. فهي تروي حياة الناس بأفرادهم، وبتفصيل” (ص428).

(12) “نرى أن معنى الخير هذا يجب أن يكون منسوجًا في فهمي لحياتي بوصفها قصةً تتكشّف. غير أن هذا يفيد ذكر شرط إضافيّ أساسي آخر من شروط تكوين معنى لأنفسنا، ألا وهو فهم حياتنا بشكل حكاية” (ص98).

(13) “لا أحد يعيش بحسب نظرات نشأت حديثًا” (ص709).

 

 

 

مراجع :

  • تشارلز تايلور، منابع الذات، ترجمة حيدر حاج اسماعيل (بيروت : المنظمة العربية للترجمة، 2014). (كل الاقتباسات المذكورة من هذه النسخة من الكتاب، مالم أذكر غير ذلك)
  • تشارلز تايلور، المتخيّلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان (الدوحة : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
  • فتحي المسكيني، التفكير بعد هايدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ (بيروت : جداول للنشر والتوزيع، 2011).
  • فتحي المسكيني، “الزمن العلماني” وعودة الدين : نموذج تشارلز تايلور. (موقع حكمة) : https://goo.gl/KvzS8A).
  • Charles Taylor, A Secular Age, Cambridge: The Belknap Press of Harvard University Press, 2007.

قراءات مقترحة :

  • مصطلح “الخيرات الفوقيّة” من المصطلحات المُربكة التي استعملها تشارلز تايلور. وعلى عكس العديد من مصطلحاته، المصطلح من المصطلحات قصيرة الأجل في معجمه الفلسفي؛ فهو لم يختفِ فقط من كتبه اللاحقة، بل في النصف الثاني من “منابع الذات” نفسه، الكتاب الذي قدّم فيه هذا المصطلح. لقراءة حول هذه الإشكالية، انظر : Hypergoods: Diagnosis, not Ontology, 2010. Daniel Blaikie,
  • ثمّة مشكلة في انتقاد تايلور للنزعة الاختزالية في العلم خلال القسم الأول من الكتاب، فيبدو في الفصول الأولى بأنه يساوي بين المذهب الطبيعي (naturalism) والاختزالية العلمويّة. فموقفه غير واضح من بعض التقاليد الفلسفية الأنجلوسكسونية (البراغماتية تحديدًا) التي تؤكد على مذهب طبيعي غير اختزالي، الأمر الذي يُمكن أن نراه عند وايتهيد وديوي على سبيل المثال. لمناقشة مطوّلة حول هذه النقطة، انظر : Warren G. Frisina, The Unity of Knowledge and Action, New York: SUNY Press, 2002: P.13-29.
  • قدّم تايلور في مركز بيركلي في جامعة جورج تاون ثلاث محاضرات (21-23/10/2008) عن تكوّن ظاهرة الحداثة، وعن ضرورة تبنّي السرديات الكبرى، لا طرحها جانبًا بحجة أن هكذا سرديات مفروضة على التاريخ قد تعيق فهمنا. انظر : Charles Taylor, Master Narratives of Modernity, 2008: (https://goo.gl/5evuY1).