مجلة حكمة
المعارضة السياسية المسلحة

في الفكر السياسي العربي الإسلامي من الإمامة والخلافة .. إلى الدولة – عبد العزيز العماري

غلاف تاريخ الفكر السياسي - العماري
في الفكر السياسي العربي الإسلامي من الإمامة والخلافة .. إلى الدولة – عبد العزيز العماري (غلاف الكتاب)

تقديم د. رضوان السيد

ما قرأت للأستاذ عبد العزيز العماري شيئًا من قبل لكن الكتاب الذي بين يدي كتاب بديع وشامل. فهو يقرأ ـ من خلال النصوص المعتمدة ـ الفكر السياسي الإسلامي لدى أهل السنّة والشيعة منذ البدايات والأصوليات عند أهل السنّة في الأزمنة الحديثة.

كما يقرأ الفكر السياسي الشيعي منذ البدايات أيضًا وإلى ظهور تفرعاته المختلفة وتطوراته عبر العصور، وانتهاءً في الزمن المعاصر بولاية الفقيه. وكما سبق القول، فإن هذه القراءة أو هاتين القراءتين لا تتمّان من خلال وجهة أو وجهات نظر معينة، بل من خلال النصوص المعتمدة لدى الطرفين. لقد كانت هناك في الخمسين سنة الأخيرة، كتابات في تاريخ الفكر السياسي لدى المسلمين، وبخاصة بعد أن صار الفكر السياسي الإسلامي مادة تدرَّس في كليات الحقوق، وفي أقسام التاريخ، وأقسام الدراسات الإسلامية. وقد حكمت هذه الكتابات المتكاثرة بعد ظهور الثورة الإيرانية، والإسلام السياسي، أحد أربعة مناهج:

الأول وهو الأقدم، هو نهج التفكير الفلسفي لدى المسلمين في مسائل الدولة. وقد بدأ العمل على هذا النهج المستشرقون الذين كتبوا في سياسات الفارابي وابن سينا وابن رشد، باعتبار تفكير هؤلاء موروثًا متحولاً من موروثات اليونان. وفي المرحلة الأخيرة (بعد منتصف القرن العشرين)، عندما ازدادت إسهامات العرب والمسلمين الآخرين، دخلت أسماء جديدة، وظهرت محاولات لتبيان أصالة المسلمين، وأنهم ما كانوا مجرد مقلّدين لليونان.

أما المنهج الثاني، والذي ساد لفترةٍ طويلة فيعتمد على ابن خلدون. فقد بدأ العمل على مقدمته منذ أواسط القرن التاسع عشر. ثم تلت ذلك حقبتان: حقبة اعتباره مؤسسًا للفلسفة الاجتماعية، أو لفلسفة التاريخ، أو للفلسفة السياسية. وحقبة اعتباره كاتبًا في فلسفة التاريخ والفلسفة السياسية معًا، أو باعتبارهما شيئًا واحدًا. ومع أن كتابات الماوردي وابن تيمية ذات الموضوع السياسي، كانت منشورة،فإن الزمن تأخر بهما للانضمام الى ابن خلدون. لكنهما انضما بعد أواسط القرن العشرين، وإن لم يصل بهما الاعتبار لدى الباحثين العقلانيين واليساريين لاعتبارهما مثله أو ندّين له. وأما النهج الثالث فهو النهج المدرسي. وقد قلتُ من قبل إن الفكر السياسي صار مادةً أو رصيدًا في بعض الكليات الجامعية. وقد عمد مدرّسو المادة الى جمع الميول الثلاثة في صعيد واحد: فلاسفة الإسلام، والماوردي وابن تيمية، وابن خلدون. ويقدم هؤلاء في العادة بمقدمة أو تمهيد في نشوء الدولة في الإسلام والخلافة. والتطورات أيام الأمويين والعباسيين. وإلى هذا النهج اطمأنّ كل من كتبوا في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام بعد الستينيات من القرن العشرين.

والنهج الرابع السائد منذ أربعة عقود وأكثر، استولى على الدراسات والتأملات مع صعود الاهتمام بمسألة الدولة في الفكر والواقع والتاريخ ولدى العرب والمسلمين الآخرين. فقد ظهرت حركات إسلامية تملك تصورات جديدة عن التاريخ والحاضر، وتريد إقامة ما تعتبره دولة اسلامية، كأنما القائم لا علاقة له بالدين الصحيح! وأعني بذلك حركات الإسلام السياسي، وولاية الفقيه، أو ولاية المرشد. لقد صار التفكير بالدولة لدى الإسلاميين الحزبيين ليس باعتبارها هيئة تنشئها الأمة لصون المصالح، والإدارة الصالحة للشأن العام. بل باعتبارها ركنًا من أركان الدين، وهي تتبادل معه الإيحاء والاهتمام: فلا دولة شرعية بدون إسلام وتطبيق للشريعة، ولا إسلام بدون إقامة دولة يكون شغلها الشاغل تطبيقه! ولذلك كثرت المؤلفات في نظام الدين في الاعتقاد، ونظامه في العبادة، ونظامه في الحكم، ونظامه في إدارة المجتمع، وقبل ذلك وبعده نظامه الاقتصادي المتميز!

لا يدخل كتاب الأستاذ عبد العزيز العماري في أي من هذه المناهج أو الطرائق وهو لا يشبهها إلا في المقدمة أو التمهيد عن العهد الإسلامي الأول، عهد قيام الدولة والخلافة. ثم يشتغل عبر مئات الصفحات على الفكر السياسي السنّي من خلال النصوص العقدية والكلامية على مدى المرحلة الكلاسيكية. ثم يصنع الصنيع نفسه مع التفكير الشيعي في الإمامة والدولة. ولا يعني ذلك أنه ليست للأستاذ عبد العزيز العماري آراؤه أو توجهاته أو ترجيحاته الخاصة. لكنه عندما ينصر هذا التوجه أو ذاك، فإنه يورد نصًّا أو نصوصًا تنصر الرأي الذي يذهب إليه. فهو على سبيل المثال لا يعتبر الفقه السياسي السني مستقلًّا عن تصرفات الدولة وإجراءاتها. وهو لا يرى التمييز بين عهدي الخلافة الأموية والعباسية والسلطنات. وبالنسبة للفكر الشيعي فإنه يرى لولاية الفقيه جذورًا تسبق قيام الدول الشيعية في إيران مثل الصفويين والقاجاريين.

لديّ بعض الملاحظات وهي ليست نقودًا أو استدراكات. فالأستاذ عبد العزيز العماري وإن كان يميز في الفكر السياسي الإسلامي القديم بين فكر سياسي ذي مرجعية يونانية، وفكر سياسي ذي مرجعية دينية وتراثية إسلامية: الأول هو جماع ما صنّفه فلاسفة الإسلام في باب الفلسفة السياسية، والثاني هو جماع ما صنفه المتكلّمون، والفقهاء، والمصنّفون في الآداب السلطانية ومرايا الأمراء، فإنه في رصده لأجناس الكتابات الكلاسيكية في الفكر السياسي من مرجعية دينية وتراثية إسلامية، التي شملها موضوع دراسته، لم يأت على ذكر الفكر السياسي لدى الكتاب الإداريين. ولأنني اشتغلت طويلاً على الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي، فإنني رأيت التمييز بين أربع أو خمس «مدارس» في التفكير الإسلامي الكلاسيكي بالدولة: مدرسة مرايا الأمراء أو نصائح الملوك، ومدرسة الفقهاء، ومدرسة الفلاسفة، ومدرسة المتكلّمين، ومدرسة الكتّاب الإداريين. وبالنسبة للمتكلّمين، هل يمكن اعتبار تقديراتهم تفكيرًا سياسيًّا، وبخاصة أنهم يعتبرون آراءهم «اعتقادات»؟ بمعنى أنني أرى أن هناك فرقًا بين «باب الإمامة» في أعمال المتكلّمين مثل الجويني، وكتابه: «غياث الأمم في التياث الظُّلَم». إنما على أي حال، هناك تشابك (وليس اشتباكًا) بين المجالين الديني والسياسي عند السنة، لكن التمييز واضح وقائم. ويختلف الأمر عند الشيعة باعتبار أن الإمامة ركن من أركان الدين، ولذلك يمتزج الديني بالسياسي بقوة، وإن قامت دولة شيعية (شرعية) بدون هذا الدمج في الواقع.

وهناك أمر آخر، وهو يتعلق بالإحيائية الإسلامية في العصر الحديث. فقد استظهرت في كتبي أن التشابه شديد في نطاقها بين السنة والشيعة. فكلا الفكرين صار نظام الحكم عندهما دينيًّا. لكن النظام الإسلامي عند المتأخونين نوموقراطي، بينما ظل ثيوقراطيًّا عند الشيعة. وإذا كنت قد ذكرت هنا بعض الملاحظات غير المتعلقة بأهمية العمل وجديته، فينبغي أن أذكر أمرًا آخر يتصل بطموح قديم ذكّرني هذا العمل به. فمنذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ظهر لديّ طموح خلال العمل على أطروحتي للدكتوراه وهو: أن أكتب تاريخًا للفكر السياسي الإسلامي من زاوية مفهومية. وقد رأيت أن النصوص المطبوعة المعتنى بها من الفكر السياسي الإسلامي القديم لا تزيد على الثلاثة أو الأربعة، وأنها لا تصلح عيّنة ممثّلة للفكر السياسي على أهميتها. والنصوص المقصودة هي: آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، والأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، ومقدمة ابن خلدون. وهكذا فقد أقبلت على أمرين في الوقت نفسه: تحقيق نصوص سياسية اعتبرتها مهمة ونشرتها مع مقدمات دراسية طويلة وكتابة دراسات مستقلة عن المفاهيم السياسية الإسلامية الوسيطة، وكيف تطور الأمر بهذه المفاهيم مضامين واستعمالاً أو إعادة استعمال في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. ومع الوقت نشرت ثمانية نصوص سياسية قديمة، وصدرت لي كتب جمعت فيها دراساتي المفهومية في الفكر الإسلامي القديم.

إن الذي أريد التوصل إليه من وراء هذا الاستطراد، أن كتاب الأستاذ عبد العزيز العماري غطّى نسبة 60% من تاريخ الفكر السياسي الإسلامي. وقد غطّاها من طريقة استقصاء النصوص السياسية/العقدية عند السنَّة والشيعة. والاستقصاء غير الإحصاء، لكنه أهم منه في دلالاته. ذلك أن المهم والمعبر عرض النصوص والأفكار التي قدّر المؤلف أنها مؤثرة. وقد تبين له أن التاريخ يعيد نفسه. وأنا أرى أنه ليس تكرارًا أو ثباتًا لأنه تم ويتم بطرائق مقلوبة ومتحولة، وتأويلات مناقضة للقديم أحيانًا. لقد كانت هذه استئناسات شجع عليها هذا الكتاب الغني والباعث على المزيد من التفكير والتقدير خلال هذا الهول الهائل الذي تمر به الدولة والأمة عند العرب. كتاب الأستاذ عبد العزيز العماري درسٌ تاريخي كبير ومعجب. ولا يخلو الأمر من هناتٍ بسبب الجهد الضخم. لقد تعلمت منه، وأرجو أن يتعلم منه القراء العرب والمسلمون بما يكافئ الجهد المبذول.

المقدّمة

(د. عبد العزيز العماري)

لن يشمل الحديث عن الفكر السياسي العربي الإسلامي هنا التجربة التاريخية الإسلامية على غناها وتنوعها، ولا ما تضمنته المصنفات والمتون القديمة الموضوعة في باب الفلسفة السياسية مثل ما تضمنه كتاب «أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها»[(1)] وكتاب «السياسة المدنية» الملقب بـ «مبادئ الموجودات»[(2)] لأبي نصر الفارابي، وكتاب «الضروري في السياسة»[(3)] لصاحبه أبي الوليد بن رشد، وما سوى ذلك من المصنفات لابن سينا وابن طفيل وابن باجة التي متحت من المرجعية اليونانية القديمة. كما لن يشمل الحديث هاهنا أجناس الفكر السياسي الليبرالي أو الاشتراكي ذي المرجعية الأوروبية أو الغربية المعاصرة، التي يموج بها اليوم قسم مهم من الساحة السياسية والفكرية بدول العالم العربي والإسلامي، كلا؛ وإنما يشمل ذلك الفكر أو الإنتاج النظري السياسي ذا المرجعية الدينية والتراثية الإسلامية.

هذه واحدة. والثانية، أنه في سعينا لمقاربة هذا الفكر، لا نتوخى منه التأريخ للفكر السياسي العربي الإسلامي جملة من خلال رصد مسارات تطوره عبر مختلف المنعرجات والمنعطفات، أو عبر كل المسالك والشعاب السياسية الوعرة التي مرّ منها، ولا إلى تعقب جميع نظريات الفرق والتيارات السياسية الإسلامية التي حفلت بها منظومة الفكر السياسي الإسلامي عبر مسار تطورها التاريخي، وإنما حسبنا أن نقف على أبرز محطاته ولحظاته من خلال رصدنا لأهم نظريتين سياسيتين هما: النظرية الشيعية والنظرية السنية. انطلاقًا من هذه المحددات إذن، سنعمد إلى مقاربة الفكر السياسي العربي الإسلامي مقاربة تاريخية تجعل نقطة بدايتها من وفاة الرسول وما دار بسقيفة بني ساعدة من مفاوضات وسجال ونقاش سياسي بين الأنصار والمهاجرين بشأن شخص الخليفة ومن سيشغل منصب الخلافة: خلافة الرسول، وصولاً إلى ما انتهى إليه الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر: السني والشيعي، في مساره الحركي في ظل الدولة القطرية.

وسعيًا لأن تكون مقاربتنا ملامسة لكل ما أوردنا سنعمد في البداية إلى الحديث عن السياق السياسي والتاريخي لنشأة الفكر السياسي الإسلامي بعد وفاة الرسول . فنقف على أول خلاف سياسي بين المسلمين في السقيفة، وكيف تمّت البيعة على التوالي لأبي بكر الصديق، ثم لعمر بن الخطاب من بعده، فعثمان بن عفان، ثم لعلي بن أبي طالب. وما سجلته هذه المرحلة، مرحلة الخلافة الراشدة، من سجال وخلاف سياسي، بل ومعارضة سياسية ونزاع مسلح، تطور أكثر من مرة إلى حروب ضارية بين الفرقاء، كان أبرزها حرب صفين بين علي ومعاوية.

وإذا كانت الحروب لا تنهي أو تطفئ دائمًا لهيب الصراعات السياسية المشتعلة، ولا تقدم حلولاً نهائية بشأنها، فإنه، وفي مثل هذه الحالات، كثيرًا ما يتمّ اللجوء إلى التسوية السياسية بطرقها المختلفة، فكان من بين الطرق السلمية التي تمّ اللجوء إليها لوقف هذه الحرب الأخيرة المبيدة لكلا الطرفين المتصارعين (جيش علي وجيش معاوية) حول الخلافة (الحكم) كمشكل سياسي هو طريق التحكيم. وإذا كانت الحرب لم تحسم النزاع لفائدة أي طرف من الأطراف المتحاربة، فإن اللجوء إلى التحكيم قد حسم الموقف لفائدة معاوية، لتنقسم الأمة على نفسها إثر هذا الحدث السياسي الكبير إلى فرق وأحزاب ومذاهب: بين من جعلوا ولاءهم السياسي لمعاوية وللخلافة الأموية، ومن جعلوا ولاءهم السياسي لعلي بن أبي طالب، ومن جعلوا ولاءهم لإمام اختاروه من بينهم وهو عبد الله بن وهب الراسبي، ومن التزموا الحياد واعتزلوا الخوض في الصراع من الأصل. ولتنتقل الخلافة (الحكم) بعد التحكيم مباشرة إلى البيت الأموي، وتستقر بالشام بعد أن كان موطنها بالمدينة.

ولأول مرة في التاريخ السياسي الإسلامي سيصبح للأمة الإسلامية خليفتان: معاوية بن أبي سفيان وأنصاره بالشام، وعلي بن أبي طالب ومن ورائه شيعته بالعراق، فضلاً عن عبد الله بن وهب الراسبي ومن ورائه أتباعه من الخوارج بالعراق كذلك. وسيستمر الوضع السياسي العام مأزومًا وسط حالة قصوى من الاضطراب والترقّب والحروب والمناوشات أحيانًا إلى أن تمّ اغتيال علي بن أبي طالب، فبايعت شيعته ابنه الحسن الذي التجأ فيما بعد إلى خيار الاسْتِنْكاف عن أي معارضة سياسية أو منازعة عسكرية أو مسلحة لخلافة معاوية. بل تذكر الروايات أنه، وحَقْنًا لدماء المسلمين، أقدم الحسن بن علي على بيعة معاوية، لتدخل الأمة عقبها مرحلة جديدة من الوحدة، يعمها الأمن والاستقرار والوئام الذي لم يعمّر طويلاً. ذلك لأن وفاة معاوية بعد توليته العهد لولده يزيد، ووفاة الحسن بن علي، وبيعة الشيعة بالخلافة لأخيه الحسين بن علي، قد أعادا عقارب الصراع السياسي بين الشيعة وبني أمية إلى بدايته، صراع سينتهي بمقتل الحسين في وقعة كربلاء الشهيرة. لتستقر وتستمر الخلافة في البيت الأموي حتى مجيء بني العباس الذين تمكنوا من الوصول إلى السلطة السياسية (الخلافة) بعد ثورة عارمة نهضوا بها بمَعِيَّة الشيعة ضد بني أمية. لكن ما إن وصلوا إلى سلطة الحكم (الخلافة)، حتى تنصَّلوا من التشيع الذي كانوا عليه أول الأمر، ليتبنوا المذهب السني الذي سيصبح المذهب الرسمي للخلافة الإسلامية على امتداد مختلف مراحل أطوارها اللاحقة، بما في ذلك أحلك مراحل فتراتها التاريخية: فترات حكم السلطنات والمماليك. وسيستمر المذهب قائمًا مع الخلافة العثمانية التي أسقِطت عند نهاية الربع الأول من القرن العشرين. وبإسقاطها مباشرة سيسقط العمل بالشق السياسي من المذهب السني (الخلافة) ليُكتفَى فقط بمواصلة التمسك العمودي بالشق الاعتقادي منه فحسب.

وإذا كان الشيعة والخوارج قد عمدوا إلى صياغة مذهبيهما العقديين، وبلورة نظريتيهما السياسيتين بشكل مبكر تجاه مشكلة الخلافة، فإن أهل السُّنة لم يعمدوا إلى بلورة مذهبهم السني ونظريتهم العقدية، إلى جانب نظريتهم السياسية الخاصة في الخلافة، إلا مع نهاية العصر العباسي الثاني وبداية العصر العباسي الثالث، وهي نظرية سَوَّغَت وشرْعنت للخلافة الأموية والعباسية معًا، ومن قبلهما لخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وذلك في مقابل النظرية الشيعية التي طعنت في شرعية الخلافة الأموية والعباسية. بل إن منهم، أي من الشيعة، من طعن في شرعية خلافة عثمان، ومنهم من طعن حتى في خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان، معتبرين إياها خلافة غير شرعية ـ على حد زعم الغلاة: الرافضة أو الروافض منهم على الخصوص، بحسب التّوْصيف السني لهم بمصنفاتهم الاعتقادية ـ وذلك بدعوى أحقية آل البيت بها ـ أي بالخلافة ـ من غيرهم، للتنصيص عليهم في مواضع تعريضًا وتلميحًا، وفي مواضع تصريحًا وتعيينًا، هذا فضلاً عن عصمتهم، والوصية لهم…إلخ.

هكذا سيتفجر الخلاف السياسي بين السنة والشيعة إلى جانب الخوارج حول الخلافة، خلاف أحدث شرخًا سياسيًّا كبيرًا، ومزق لحمة ووحدة المسلمين، وكرَّس الانقسام السياسي والمذهبي والطائفي ليستمر قائمًا إلى اليوم خصوصًا بين الشيعة وأهل السُّنة، بعد أن عمد كل طرف إلى بلورة موقفه السياسي في شكل نظرية سياسية تعكس طبيعة رؤيته السياسية لسلطة الحكم (الإمامة/الخلافة). غير أن كل نظرية من هاتين النظريتين لم تولد مكتملة على الصورة التي انتهت بها إلينا اليوم، وإنما عرفت وشهدت تغيرات وتطورات مهمة على امتداد مسار تطورها التاريخي والسياسي الطويل. بعبارة أخرى، إن تطور الواقع السياسي والتاريخي، وكذا تطور سلطة الحكم بالمجتمع العربي الإسلامي، كان له الدور الكبير والهام في إدخال تفصيلات وتعديلات جزئية أحيانًا، بل وتغييرات جوهرية وجذرية أحيانًا أخرى على بنية النظرية السياسية لهذا الطرف أو ذاك من الأطراف السياسية؛ تلك الأطراف التي لا يُماري أحد في كونها تجرُّ وراءها تاريخًا طويلاً من الصراع السياسي حول السلطة السياسية (الإمامة أو الخلافة).

وإذا كنا سنعمد في هذا الكتاب إلى رصد نظرية الخوارج السياسية ابتداء، فإن هذا الرصد يبقى بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، على اعتبار أن القصد الأول من الكتاب إنما هو لرصد تطور النظريتين السياسيتين: السنية والشيعية، وللخلافات والاختلافات البينيّة حتى داخل النظرية الواحدة، دون أن نغفل، كلما اقتضى الأمر ذلك، الإشارة إلى الأسباب والمعطيات التاريخية والسياسية التي شكلت الخلفيات أو العوامل المباشرة في تطور كلتا النظريتين السياسيتين. هكذا سنعمد، بعد الفراغ من الحديث عن السياق السياسي والتاريخي لنشأة الفكرر السياسي الإسلامي، إلى رصد أهم مكوِّنات هذا الفكر، وهي مكوِّنات حددناها في ثلاث:

ـ الفكر السياسي الخارجي.
ـ الفكر السياسي الشيعي.
ـ الفكر السياسي السني.

فبخصوص المكوِّن الأول، أعني الفكر السياسي الخارجي، سنعمد بشأنه إلى بيان أهم جوانب نظريته السياسية، ولخصوصياتها ومميزاتها القائمة على القول بالاختيار، والهجرة، والخروج على الحاكم الجائر، وقتاله بالسيف، وتكفير كل قاعد عن القتال أو الجهاد… إلخ.

أما بخصوص المكوِّن الثاني، أعني الفكر السياسي الشيعي، فسنعمد بشأنه إلى بيانن النظرية السياسية للشيعة جملة، ونظرية الشيعة الإمامية الاثني عشرية على الوجه الأخص، مع تجلية معالمها وسماتها الأساسية، وما به تفرَّدت عن باقي النظريات السياسية الأخرى، سواء داخل المنظومة الشيعية أو خارجها، لا سيما قولها بإمامة الإمام الثاني عشر، وقولها بالنص والعصمة والوصية والغيبة.. وما إلى ذلك. مبتدئين، أول الأمر، بتعقب تطور نظرية الشيعة الإمامية ابتداء من النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، مع الكليني وابن بابويه باعتبارهما من مؤسسي المذهب، وقولهما بتعطيل الرأي والاجتهاد والتمسك بالأخبار والروايات، وتعليق العمل الديني والسياسي في ظل الدولة الغصبية في انتظار عودة وظهور الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري.

غير أن تعاقب قيام دويلات شيعية ابتداء من أوائل القرن الرابع الهجري ستدفع باتجاهه التقارب بين الدولة وفقهاء الشيعة، تقارب دعاهم إلى إعادة النظر فيما قرره مؤسسو المذهب من خط إخباري رافض للرأي والاجتهاد والتعامل مع أي سلطان كان في عصر الغيبة. وكان من أبرز الشيوخ الذين انتدبوا أنفسهم لهذا الغرض، في مواجهة الخط الإخباري عبر مراحل وأطوار تاريخية متعاقبة: الشيخ المفيد، والشريف الرضي، وأخوه المرتضى، والشيخ الطوسي، والشيخ محمد منصور بن إدريس الحلي، ويحيى بن سعيد الحلي، وابن مطهر الحلي، والشيخ الكركي، والشيخ أحمد النراقي، والشيخ النائيني، وصولاً في العصر المعاصر إلى الخميني، ومحمد باقر الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين..إلخ. فإلى هؤلاء وغيرهم يعود أمر تكريس الخط الاجتهادي، وتوسيع دائرة الرأي داخلل الإمامية الاثني عشرية، في صراع فكري وسياسي تاريخي طويل مع دعاة الخط الإخباري، ابتدأ من أوائل القرن الرابع الهجري ليستمر إلى حدود اليوم، مكونًا بذلك طيفًا من التلوينات السياسية المختلفة والمتباينة.

وإذا كان هذا أبرز ما يتعلق ببياننا لأهم محطات المكون الثاني المتعلق بالفكر السياسي الشيعي، فإنه وبخصوص بياننا للمكون الثالث والأخير، وهو المكوِّن السني، فإننا سنعمد بشأنه إلى الوقوف على أهم مراحل تطور النظرية السياسية لأهل السُّنة: أشعرية وحنابلة، وما اختصت به من قول بالشورى والاختيار والبيعة.. وما إلى ذلك من آراء وشروط للخلافة، شكلت في مجموعها الثوابت النظرية للنظرية السياسية لأهل السُّنة. مبتدئين برصد بداية تشكلها النظري في المتون الكلامية السنية الأشعرية مع أبي الحسن الأشعري في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجري، ومن بعده مع أعلام المذهب الأشعري من أمثال أبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، وأبي المعالي الجويني، وتلميذه أبي حامد الغزالي. لننتقل بعد ذلك إلى رصد الفكر السياسي السني من خلال لون آخر من الكتابات التي نحت منحى تقديم النصائح للملوك والسلاطين فيما عرف بمرايا الأمراء أو الآداب السلطانية، مبرزين أهم ما أورده بعض أعلامها من أمثال الماوردي، والغزالي، والطرطوشي. معرجين بعدها على أدبيات الفقه السياسي للفقيه الحنبلي تقي الدين أحمد بن تيمية، وكتابات عبد الرحمن بن خلدون الذي كان على المذهب الأشعري، مرورًا بمعالم الفكر الوهابي مع محمد بن عبد الوهاب، وفكر الحركة السلفية من خلال رشيد رضا، وصولاً إلى مرحلة إسقاط الخلافة العثمانية وما أعقبها من مواقف سياسية على رأسها موقف علي عبد الرازق، وحسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ثم انقسام الفكر السياسي السني المعاصر على نفسه ـ بعد مرحلة حسن البنّا ـ إلى ثلاثة تيارات: التيار الإصلاحي، التيار الانقلابي، ثم التيار الجهادي ممثلاً في عدد من الجماعات الجهادية. وفي سياق الحديث عن هذا التيار الأخير، وعن أهم مكوناته، سنعرض لمرجعياته الفكرية والنظرية المعاصرة، خصوصًا مع أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، ومرجعياته السلفية الحنبلية مع تقي الدين أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب. كما سنعرض للحديث عن بداية انسداد أفقه السياسي الذي سيتوج بظهور عدد من المراجعات الفكرية والفقهية من داخل دوائرها القيادية والمُنظّرة، لا سيما من داخل الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد. مراجعات أعلنت فيها هاتان الجماعتان بصريح العبارة عن نقدهما الذاتي لتجاربهما التاريخية، وعن دواعي تخليهما عن خيار العنف والنزاع المسلح، ورغبتهما في التصالح مع الدولة والمجتمع، وتلويحهما بإمكان الدخول في أفق جديد من العمل السياسي السلمي.

هكذا إذن، سنجعل من هذا الكتاب محاولة لتعقب الفكر السياسي العربي الإسلامي في تاريخيته، من خلال رصدنا لتطور النظريات السياسية لدى أبرز مكوناته وهما: المكوِّن السني، والمكوِّن الشيعي، دون أن نغفل، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، الإشارة إلى تمظهراتهما في تجارب سياسية حركية وحزبية منذ بداية الربع الثاني من القرن الماضي.

ونحن إذ نرغب في حصر رقعة الكتاب في هذين المكوِّنَيْنِ البارزين فقط، فذلك أولاً: لكونهما المكوِّنيْن السياسيين العقديين اللذين استطاعا أن يستمرا في الوجود والحياة والبقاء إلى اليوم، أي لأزيد من عشرة قرون من الزمن على الأقل، وذلك في مقابل العديد من المكوِّنات السياسية التي استنفذت مهامها التاريخية والسياسية منذ زمن قريب أو بعيد، فباتت اليوم في عداد الماضي. وثانيًا: لكون المذهب السني الأشعري، إذا كان قد تمّ تبنيه بشكل رسمي من قبل مؤسسة الخلافة العباسية، ليصبح منذ ذلك الحين إلى اليوم هو المذهب الرسمي السائد في جل دول العالم العربي والإسلامي، فإن المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، في المقابل، يعد اليوم أكبر المذاهب الشيعية، وقد استطاع أن يقيم لنفسه تاريخيًّا أكثر من دولة، لعل آخرها ما سمي بالجمهورية الإسلامية الإيرانية في النصف الثاني من القرن الماضي، لتستمر هي كذلك في الوجود والحياة إلى اليوم. وثالثًا: لكون الخلافة العثمانية إذا كان ولا زال يشكل إسقاطها أحد أهم عوامل ومبررات ظهور وتصاعد مد أحزاب وحركات سياسية إسلامية سنية داعية إلى إعادة إقامة الخلافة الإسلامية على طريق ما كان قد أقره قديمًا متكلمة وفقهاء وأعلام وأئمة أهل السُّنة، مرجعين كل المطبات ـ بما في ذلك الاحتلال، والاستعمار، وأسباب التجزئة، وواقع الدولة القطرية، وتخلف الأمة وعجزها عن النهوض… إلخ ـ إلى عدم وجود خلافة إسلامية أو دولة إسلامية حاكمة بشرع الله، فإنه في الجهة المقابلة، ثمة أحزاب وحركات سياسية شيعية صاعدة، ممن لها قوتها وحضورها الوازن في الساحة السياسية ببلدانها وأقطارها العربية والإسلامية، تعيش اليوم على مفارقة عجيبة وغير مسبوقة بين حالة استمرار تمسكها النظري بموروث معتقدها السياسي الشيعي القديم، وواقع وجودها على رأس السلطة السياسية، أو ـ على أقل تقدير ـ مشاركتها السياسية في إدارة الحكم بالدولة القطرية.

إن ما يفسر تصاعد مد هذه الأحزاب والحركات السياسية السنية والشيعية منذ بداية الربع الثاني من القرن الماضي إلى اليوم ـ بالإضافة إلى العوامل والشروط المعطاة ـ هو عدم وجود سلطة شرعية من منظور معتقدها السياسي المذهبي: فلا خلافة سنية قائمة في العالم السني بعد إسقاط الخلافة العثمانية، ولا إمامة قائمة في العالم الشيعي بعد الغيبة الكبرى لآخر أئمة الشيعة الإمامية الاثني عشرية. فما العمل إذن؟

ذلك هو السؤال الكبير الذي طرح ولا زال يطرح على مختلف المكونات والأحزاب والحركات السياسية الإسلامية: السنية والشيعية. ولعل اختلاف الإجابات السياسية عليه، كل من موقعه المذهبي، ومن موقع قراءته للنص، وقراءته أو نقده لمعطيات الواقع والتاريخ، ما جسد اختلاف الرؤى السياسية، وبالتالي اختلاف التوجهات والتكتيكات والاستراتيجيات الحزبية والحركية. ومع اختلاف هذه، اختلفت التلوينات السياسية، وهياكل الأحزاب والحركات والتنظيمات والفصائل السياسية والحركية العاملة بهذا الحقل حتى داخل المكوِّن الواحد نفسه. كما اختلفت أساليب وطرق التعاطي ومقارعة الواقع السياسي، كل مكوِّن أو تيار من موقعه الخاص، وبأدواته وأساليبه الخاصة، حتى إن منها ـ في مسار مقارعته ـ من أدرك السلطة السياسية وإن بطريق الانقلاب، ليخفق في النهاية في تدبير الحكم وإدارة الصراع السياسي، فسقط. ومنها من حمل السلاح، واختار طريق العنف والنزاع المسلح، في تحدٍّ لمعطيات الواقع الحاضر، وقفز غير محسوب على ميزان القوى المختل لغير صالحه بالداخل، فضلاً عن اختلاله، وعلى أكثر من صعيد بالخارج، أعني على المستوى الإقليمي والدولي. وانتهى به المطاف بعد مخاض عسير إلى الانشقاق على نفسه بين متراجع عن خطه ونهجه السياسي والفكري الجهادي، مقدمًا لنقد ذاتي في صورة مراجعات فكرية وفقهية، وبين متمسك ومستمر على نهج خياره الجهادي. ومنها من فضل خيار الإصلاح، بتبنيه الأسلوب السلمي في المقارعة، القائم على القبول بالمشاركة السياسية والدخول في أتون «اللعبة الديمقراطية».

وإذا كان من المؤكد أن الثورات العربية التي شهدتها المنطقة العربية لم يَقُدْها أيي فصيل سياسي إسلامي، ولم يُرفع فيها أي شعار إسلامي داعٍ إلى إقامة الخلافة أو الدولة الإسلامية، وإنما كانت خلاصة غَضْبَةٍ وهَبَّةٍ شعبية عارمة تَنادَت لها مختلف الفئات الشبابية والشعبية الداعية إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والتحقت بها كيانات سياسية عديدة على اختلاف ألوان طيفها السياسي، فإن مكوِّنات وتيارات الإسلام السياسي مدعوَّة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مباشرة قراءة واقع مرحلة ما بعد الثورات العربية بأدوات ومفاهيم سياسية جديدة، تقطع مع قراءات وخطابات وتجارب المرحلة السابقة، بما يفسح المجال لإمكان التقارب بينها باتجاه مشاركة الجميع في بناء وإرساء أسس دولة حديثة، قائمة على نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي ديمقراطي حقيقي، يُمكِّن من توزيع عادل أو معتدل للثروة، ويفتح المجال فعليًّا وعمليًّا أمام تداول سلمي على السلطة، بما يكفل حق جميع المكونات السياسية والحزبية الوطنية في إدارة وتدبير الشأن العام من خلال مؤسسات ديمقراطية منتخبة.

 الفصل الأول من الكتاب