مجلة حكمة
المعارضة السياسية المسلحة

مشكلة المعارضة السياسية إلى النزاع المسلح – عبد العزيز العماري

غلاف تاريخ الفكر السياسي - العماري
غلاف الكتاب

الباب الأول: في السياق السياسي: الفكر السياسي العربي الإسلامي

الفصل الأول: في مشكلة المعارضة السياسية إلى النزاع المسلح


مقدمـة

معلوم أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم في شبه الجزيرة العربية دولة، ولا مملكة، ولا إمارة، ولا سلطنة، ولا ولاية، ولا أي نظام سياسي، أو حتى أي شكل من أشكال الحكم المعروفة، وإنما كانوا يعيشون على شكل جماعات تنتظم في إطار نظام قبلي يرعاه رؤساء القبائل العربية في حال السلم أو الحرب عند اعتداء أو إغارة قبيلة على أخرى. ومعلوم كذلك أن النبي محمد بعد البعثة بالرغم من أنه كان على رأس جماعة المسلمين، وكان هو قائدهم وموجههم، والهادي والمرشد لهم، فإنه رفض، مع ذلك، وبشكل قاطع، ما عرض عليه من ملك مقابل تخليه عن الدعوة، ذلك لأن هدفه لم يكن إنشاء مملكة أو دولة، ولا إقامة نظام حكم أو سلطة سياسية، وإنما كان غرضه تبليغ الرسالة، والدعوة إلى دخول الناس وانتظامهم فيها، لما يوفره لهم هذا الانتظام من تنظيم لشؤون حياتهم العامة والخاصة، أفرادًا وجماعات، وفوز في حياتهم بالدارين: الدنيا والآخرة.

ومع أن النبي محمدًا حرص على توحيد جماعته، وتنظيمها تنظيمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا متدرجًا، وفق قواعد وأحكام الشريعة التي نزلت بالتدرج. ومع أنه خاض حروبًا، وقاد جيوش المسلمين في غزوات وفتوحات لنشر الدين. بل ومع أنه عين أمراء ونصّب قضاة وعمالاً له بعدد من البلدان بعد الفتح.. فإنه لم يقم بجميع ذلك باعتباره ملكًا أو حاكمًا أو رئيس سلطة سياسية، وإنما باعتباره نبيًّا رحيمًا مرسلاً للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *}[(4)]، وإن كان هذا لا ينفي أن الدعوة ستتطور تدريجيًّا لتفرز لاحقًا نظامًا سياسيًّا محددًا غير مسبوق فيما عرف عند البعض بـ«دولة المدينة» يطبعها الإسلام كدين، وعلى رأسها قيادة، هي قيادة النبي محمد .

غير أن وفاته، أعني وفاة الرسول ، ستترك، وسط جماعة المسلمين، فراغًا كبيرًا على أكثر من صعيد، إذ بمجرد وفاته ستطرح ابتداء مشكلة من سيخلفه على مستوى القيادة السياسية، وتدبير أمور المسلمين الدنيوية. أما خلافته على المستوى الديني فلم تطرح أبدًا أي مشكل، لوعي الصحابة بأن النبوة إنما تنقطع بانقطاع الوحي.

إن خلافته على مستوى القيادة السياسية والدنيوية ستشكل، إذن، مشكلة فعلية، لكون القرآن الكريم لم ينص صراحة أو ضمنًا على من يخلفه، ولا أقدم النبي علانية أو أمام الملإ على تعيين أحد أقربائه قبل وفاته بهذا المنصب، منصب الخلافة، سيما وأن الرسول لم يخلف ولدًا ذكرًا يخلفه من بعده، هذا عدا أنه لا القرآن الكريم ولا السنة النبوية شرَّعا بتفصيل أو بشكل واضح المعالم لنظام حكم معين في الإسلام، وبالتالي لنظرية سياسية إسلامية، لكون هذه المسألة، مسألة الحكم، من المسائل والأمور الدنيوية التي قال بشأنها الرسول : «أنتم أدرى بشؤون دنياكم». وتبعًا للمراجع السنية فإن الرسول أراد بذلك أن يترك الأمر شورى بين المسلمين وفق ما نص عليه القرآن والسنة النبوية ليختاروا من يصلح لهم لشغل هذا المنصب الدنيوي، منصب الخلافة، الذي كانوا يطلقون عليه في البداية لفظ «الأمر». ورغبة منهم في ملء هذا الفراغ/المنصب (الخلافة/الأمر/الحكم)، وفي الحفاظ على وحدة الأمة، وتجنيبها كابوس العودة إلى سابق عهدها كما في الجاهلية حيث انقسامها إلى قبائل مشتتة ومتناحرة أحيانًا، رغبة منهم في ذلك، وفي غيره، سارعوا إلى تعيين قيادة جديدة للمسلمين تدير أمورهم الدنيوية، وتصون وحدة أمتهم الفتية والناشئة. غير أن هذه القيادة الجديدة، الممثلة في شخص أبي بكر الصديق، ستلقى، منذ أول أمرها، معارضة سياسية قوية من قبل أطراف متعددة حتى من داخل آل بيت الرسول . لكن بفعل حنكة هذه القيادة، وبفعل قوة عزمها وإيمانها بمهمتها ورسالتها استطاعت أن تحتوي هذه المعارضة.

ومع أن خلافة عمر بن الخطاب قد لقيت هي الأخرى معارضة شديدة من جهات وأطراف عدة منذ اللحظات الأولى لخلافته، فإن ولايته ما كادت تنتهي بوفاته حتى أحبَّها من كرهها على حدّ عبارة ابن قتيبة. وابتداء من خلافة عثمان بن عفان، ثم خلافة علي بن أبي طالب فيما بعد، ستتطور المعارضة السياسية تجاه الخليفة من معارضة سلمية هي خلاصة حالات فردية مشتتة ومعزولة أحيانًا إلى معارضة مسلحة بزعامة وقيادة منظمة، نجم عنها انقسام المسلمين على المستوى الفكري والعقدي إلى فرق وشيع ومذاهب وطوائف، وعلى مستوى الواقع السياسي إلى خلافة في العراق وخلافة في الشام. فكيف، إذن، تولد الصراع السياسي بين المسلمين فشق وحدة صفهم؟ وكيف تطور من معارضة سلمية إلى نزاع مسلح؟ وكيف اتخذ هذا الصراع فيما بعد شكل صراع مذهبي وعقائدي؟ وبالتالي ما هي الصورة التي آل إليها الوضع العام للمسلمين بعد هذا الانقسام السياسي والمذهبي؟.

1 ـ خلافة الرسول.. وأول صراع سياسي بين الأنصار والمهاجرين
تذكر روايات مؤرخي التاريخ الإسلامي أنه ما إن علم بخبر وفاة الرسول يوم الاثنين 12 ربيع الأول من عام 11هـ حتى بادر الأنصار للاجتماع بسقيفة بني ساعدة لمبايعة أحد رؤساء الخزرج وزعمائها وهو سعد بن عبادة، دون إعلان أو إشعار بنبإ اجتماعهم، أو دعوة المهاجرين إليه، لاعتقادهم أن أهل المدينة بحكم كثرتهم وأغلبيتهم وإيوائهم للمهاجرين ونصرتهم للإسلام هم أولى بتولي هذا الأمر من غيرهم. فكان أن خطب فيهم سعد بن عبادة فقال: «يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله لبث في قومه [قريش] بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا قليل؛ والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله ، ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على من تخلف منكم، وأثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا لأمر الله تعالى طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داحرًا حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو راض عنكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر[الخلافة/الحكم]، فإنكم أحق الناس وأولاهم به»[(5)]. فكان جواب الأنصار حول ما انتهى إليه سعد بن عبادة من رأي داعٍ لأحقية الأنصار بالأمر: «أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر»[(6)]. ولا تذكر المصادر التاريخية ما إذا كان هذا الاجتماع، الذي انعقد دون دعوة المهاجرين إليه، قد حركته دوافع غير معلنة، كأن يكون انعقاده قد تمّ على خلفية قبلية، أو نزعة استقلالية وانفصالية، أو حكمته رغبة في قطع الطريق على المهاجرين حتى لا يصبحوا أولي الأمر على الأنصار في بلدهم : المدينة. لكن ما هو في حكم المؤكد هو أن هذا الاجتماع استقر على توافق سياسي بين مكونات الأنصار: الأوس والخزرج، بتولية سعد بن عبادة.

لكن ما إن بلغ إلى علم أبي بكر الصديق ما يدور في سقيفة بني ساعدة، حتى قام ومعه عمر بن الخطاب فخرجا مسرعين إلى السقيفة[(7)]. وبينما هما في طريقهما إليها، لقيا أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما، إلى أن دخلوا بثلاثتهم سقيفة بني ساعدة. فقام أبو بكر مخاطبًا الأنصار بغرض إقناعهم بالعدول عما انتهوا إليه، مبينًا لهم كيف أن أحق الناس وأولاهم بمنصب الخلافة هم المهاجرون وقريش منهـم على الوجـه الأخص، فقـال: «إن الله جل ثناؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامًا، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشيرة رسول الله ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابًا ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أيضًا والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله ، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى وشركاؤنا في دين الله عزَّ وجلَّ وفيما كنا فيه من سراء وضراء والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عزَّ وجلَّ ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، وأحق الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم»[(8)]. ليختم أبو بكر كلامه بدعوة الأنصار إلى الاختيار بين أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب في خلافة النبي. لكن الرجلين امتنعا عن أن يتقدما على أبي بكر في الخلافة، معتبرين إياه أنه أحق الناس بهذا الأمر، بحجة أنه لا يليق لأحد من الناس أن يسمح لنفسه بأن يتقدمه أو يسمو عليه، ويتولى هذا الأمر عليه، لأنه: «صاحب الغار، ثاني اثنين»[(9)]. وأنه: «أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين»[(10)].

غير أن الأنصار سرعان ما أبدوا تخوفهم من هذا المقترح، ليطرحوا مقترحًا آخر بديلاً عنه توخوا منه مراعاة اتخاذ الحيطة من أي مفاجأة غير محسوبة العواقب في المستقبل، فقالوا: «والله [يا معشر المهاجرين] ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وإنا لكما وصفت يا أبا بكر والحمد لله، ولا أحد من خلق الله تعالى أحب إلينا منكم، ولا أرضى عندنا ولا أيمن، ولكنا نشفق مما بعد اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدًا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد ، وأن يكون بعضنا يتبع بعضًا، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي»[(11)].
لكن أبا بكر الصديق لم يرقه مقترح الأنصار هذا الداعي إلى اقتسام السلطة السياسية بتنصيب رجلين أو خليفتين: واحد ممثل للأنصار والآخر للمهاجرين، فكان أن رفض المقترح وتشبث بموقفه القائم على القول بأحقية المهاجرين بالخلافة، معللاً ذلك بصحبتهم للرسول، وسبقهم للإسلام، وأنهم من عشيرة الرسول ، فضلاً عن حجم ما لاقوه من معاناة زمن بداية الدعوة. وبعبارته التي علّل بها رفضه لمطلب الأنصار، قال إن الله تعالى قد خص: «المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على الشدة من قومهم وإذلالهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس مخالف عليهم، زارٍ لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وإزراء الناس بهم واجتماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد الله في الأرض، وأول من آمن بالله تعالى ورسوله ، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعد، لا ينازعهم فيه إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصارًا لدينه ولرسوله، وجعل إليكم مهاجرته فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا نفتات[أي لا نحكم] دونكم بمشورة، ولا تنقضي دونكم الأمور»[(12)].
وتذكر الروايات أن أبا بكر الصديق ما إن فرغ من مقترحه القائم على حصر الخلافة في المهاجرين عمومًا، وفي عشيرة وقبيلة الرسول قريش خصوصًا، حتى نهض الحباب بن المنذر فهاجم المقترح بأسلوب لا يخلو من شدة، حيث قال في الأنصار: «يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم، وتقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم، فأنتم أعظم الناس نصيبًا في هذا الأمر، وإن أبى القوم، فمنا أمير ومنهم أمير»[(13)].
وبعد أن تبيّن تمسك ابن الحباب بالموقف القائل «منا أمير ومنكم أمير»، أي بموقف تقاسم السلطة، بادر عمر بن الخطاب بالرد عليه بأسلوب أشد، فقال: «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوّة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدْلٍ بباطل، أو مُتَجَانِف لإثم، أو متورِّط في هَلكة»[(14)].
والملاحظ أن هذا التدخل من عمر تدخل تجاوز فيه مسألة أحقية قريش بالخلافة إلى جعلها أمرًا وراثيًّا محصورًا فقط في أهلها. أي إن عمر، ومن خلال هذا التدخل، خرج بمجرى التداول والنقاش السياسي من دائرة أحقية قريش بالخلافة إلى دائرة جعل سلطتها، أو ما أسماه بسلطة محمد ، إرثًا متوارثًا في قريش. وبالتالي، فإنه ليس من حق أي أحد أيًّا كان أن ينازع قريشًا هذا السلطان، بمبرر أن النبوة كانت فيهم، وأن النبي من عشيرتهم، والعشيرة أولى بميراث من هو منها وأحق به من غيرها.
لكن، وبعد هذا الكلام من عمر الذي أراد به حسم كل شيء: سلطة الحكم، وتوارثه بين قريش، سيندفع ابن الحباب بأسلوب لا يخلو من تصعيد ليقول: «يا معشر الأنصار: املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يردّ عليّ أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف»[(15)].
غير أن عمر بن الخطاب لما رأى من ابن الحباب ما صدر منه من تصعيد واندفاع، وما بدا منه من توتر وانفعال، وفي محاولة منه لتهدئة الأجواء التي بدأت في التشنج، وبالتالي تخفيف حدة التوتر ومنعه من أي انزلاق غير مرغوب فيه، قام عمر فقال: «لما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام، لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله ، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوءه أبدًا»[(16)].
وفي الاتجاه نفسه، اتجاه تلطيف أجواء المفاوضات والسجال أو النقاش السياسي، تدخل أبو عبيدة بن الجراح فقال: «يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى، فلا تكونوا أول من يبدل ويغير»[(17)].
ويقول ابن قتيبة إن بشير بن سعد لما رأى ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد ابن عبادة، قام مدافعًا عن رأي عمر بأحقية قريش في وراثة سلطة الخلافة عن محمد فقال: «يا معشر الأنصار، أما والله لئن كنا أولي الفضيلة في جهاد المشركين، والسابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكرم لأنفسنا، وما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضًا من الدنيا، فإن الله تعالى ولي النعمة والمنة علينا بذلك. ثم إن محمدًا رسول الله رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه، وتولي سلطانه، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم»[(18)].
بعد هذا الكلام من بشير بن سعد، وما لقيه من ردود فعل مختلفة ومتباينة، حاول أبو بكر مرة أخرى حمل الأنصار على الاختيار بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، فيبايعوا من شاؤوا منهما. فقال: «أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم»[(19)]. لكن عمر بن الخطاب أصر ثانية على موقفه الرافض لمبايعته، مجيبًا أبا بكر الصديق بشبه ما أجابه به عندما طرح المقترح ذاته أول الأمر، بل وزاد عليه حين قال: «معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أحقنا بهذا الأمر، وأقدمنا صحبة لرسول الله وأفضل منا في المال، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، ويتولى هذا الأمر عليك»[(20)]. ويروي لنا عمر على لسانه أنه لما: «كثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة»[(21)]. ويضيف ابن قتيبة على هذا الكلام أنه لما هَمَّ أبو عبيدة بن الجراح بالنهوض لمبايعة أبي بكر سبقهما إليه بشير بن سعد الأنصاري فبايع. عندها ناداه الحباب بن المنذر فقال: «يا بشير بن سعد، عقك عقاق، ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة». فأجاب بشير: «لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًّا لهم»[(22)].
بعد ذلك تسارعت تطورات الأحداث على ما يذكر ابن قتيبة، إذ ما إن: «رأت الأوس ما صنع قيس بن سعد وهو من سادة الخزرج، وما دعوا إليه المهاجرين من قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير (رض): لئن وليتموها سعدًا عليكم مرّة واحدة، لازالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيبًا فيها أبدًا، فقوموا فبايعوا أبا بكر (رض)، فقاموا إليه فبايعوه»[(23)]. عندها، وعندها فقط، تأكد بالقطع للحباب بن المنذر أنه أخفق في مسعاه وفيما كان يدفع في أفقه من تولية الأنصار الخلافة وجعلها فيهم. ولما يئس من ذلك، أي لما يئس من إمكان أن تكون الخلافة في الأنصار وبالضبط في الخزرج دون قريش من المهاجرين، حتى لا يعود هؤلاء أولي الأمر عليهم في بلدهم: المدينة، لما يئس من ذلك قام: «إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه، فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة»[(24)].
هكذا رفض الحباب بن المنذر مبايعة أبي بكر الصديق. أما سعد بن عبادة، وبعد فراغ الناس من البيعة، فقد غادر السقيفة إلى منزله غير راض على مبايعة أبي بكر. ولما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس قد وُليتُ عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»[(25)].
وبعد أن بايع الناس أبا بكر بيعة عامة، وتُرك الحباب بن المنذر أيامًا، بعث أبو بكر الصديق في طلبه ليقدم بيعته كما قدمها الناس وكما قدمها قومه من الأنصار، لكن سعدًا رفض الاستجابة لطلب أبي بكر، مجددًا رفضه لمبايعته بالقول: «والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، وأعلم حسابي»[(26)]. فلما بلغ هذا الكلام أبا بكر، استشار عمر في الأمر، فكان رأيه أن لا يدعه حتى يبايع. وأما بشير بن سعد فقد كان له رأي آخر في الأمر نفسه، إذ قال لأبي بكر إن سعد بن عبادة: «قد أبى ولجَّ وليس يبايعك حتى يُقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه، وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتى تُقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرًا قد استقام لكم، فاتركوه، فليس تركه بضاركم، وإنما هو رجل واحد»[(27)]. فكان أن : «تركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد»[(28)].
هكذا تُرك سعد بن عبادة على حاله، فبقي على هذه الحال ـ على ما يذكر ابن قتيبة ـ رافضًا للبيعة حتى توفي أبو بكر، وولي عمر بن الخطاب، فخرج سعد بن عبادة إلى الشام، فمات بها، ولم يبايع لأحد.
غير أن ما يمكن الانتهاء إليه كخلاصة لما سبق، أن ما دار بسقيفة بني ساعدة من تداول ونقاش ساخن بين الأنصار والمهاجرين بسبب اختلافهم السياسي حول شخص من سيخلف النبي لم ينته بسلِّ السيوف، أو باعتماد أساليب العنف والاقتتال البيْني، وإنما انتهى إلى ما انتهى إليه من خلال سلك طرق الحوار والنقاش والتداول السلمي بين رموز الصحابة من الأنصار والمهاجرين. وتكرَّس التزام العمل بهذا الأسلوب السلمي فيما بعد باعتماد العمل بالشورى التي سبق أن أعلن التزامه بها أبو بكر الصديق عندما قال في عبارة صريحة: «لا نفتات[أي لا نحكم] دونكم بمشورة، ولا تنقضي دونكم الأمور»[(29)].
هذا من جهة، من جهة أخرى فإن ما جرى من تداول ونقاش حام$ٍ بين الأنصار والمهاجرين في السقيفة لم يكن عند عموم أهل السُّنة تداولاً ونقاشًا دينيًّا حول مسألة دينية، وإنما كان بالأساس، وفي واقع الأمر، نقاشًا سياسيًّا حول مسألة سياسية اجتهادية هي مسألة الإمامة أو الخلافة. لذلك حاول أن يجتهد كل برأيه في المسألة بحكم طبيعتها التي أملت على الصحابة الاجتهاد وإدلاء كل طرف بدلوه وحجته ما دام ليس في المسألة نص، لأنه لو كان في المسألة نص على شخص بعينه ـ لشغل منصب الخلافة ـ لما كان هناك داعٍ لرأي أو اجتهاد، لعلم الصحابة بأنه لا اجتهاد مع وجود النص. كما أنه لو كان هناك بالفعل نص، لكان هذا النص متداولاً، بل مشهورًا ومعلومًا من قبل صحابة الرسول ، أو من قبل بعضهم على الأقل؛ ولما كان ثمة معنى لعرض العباس بن عبد المطلب البيعة على علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول مباشرة[(30)]، بل ولا كان هناك مبرر لاجتماع السقيفة ذاته، فأحرى أن ينشب به خلاف بين الصحابة من الأصل. هذا عدا أن الصحابة ـ كما هو معلوم ـ هم في واقع الأمر من نقلوا لنا الشريعة الإسلامية (القرآن والسنة)، فلو كان ثمة نص أو وصية من الرسول ، ولم يعمد أحدهم أو جميعهم إلى نقلها، لشككنا في نقلهم للشريعة الإسلامية ولدين الإسلام عمومًا، وهذا باطل جملة وتفصيلاً.

ولأن مسألة الخلافة، بحكم طبيعتها السياسية، كانت من المنطلق مسألة خلافية، فإن الخلاف والاختلاف حولها قد استمر حتى بعد بيعة أبي بكر الصديق.

2 ـ في المعارضة السياسية لخلافة أبي بكر
تذكر المصادر التاريخية أن ابن الحباب وسعد بن عبادة ليسا وحدهما من تخلّف وامتنع عن مبايعة أبي بكر الصديق، بل إنه ومباشرة بعد مبايعته اجتمعت بعض القبائل مع زعمائها بالمسجد الشريف: فاجتمع بنو هاشم إلى علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، ومعهم الزبير بن العوام، واجتمع بنو أمية إلى عثمان، واجتمع بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف. ولما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر، قال لهم عمر: «ما لي أراكم مجتمعين حلقًا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايعته وبايعه الأنصار». فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوا أبا بكر، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوه أيضًا، وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، فذهب إليهم عمر صحبة نفر من الناس منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم، فقالوا لعلي والعباس ومن معهما: «انطلقوا فبايعوا أبا بكر، فأبوا، فخرج الزبير بن العوام (رض) بالسيف، فقال عمر (رض)ه: عليكم بالرجل فخذوه، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده، فضرب به الجدار، وانطلقوا به فبايع، وذهب بنو هاشم أيضًا فبايعوا»[(31)]، وهكذا: «تتابع القوم على البيعة»[(32)]، وكانت بيعته عام 11هـ. أما علي بن أبي طالب فلما أتي به إلى أبي بكر وطُلِب منه أن يبايعه، امتنع عن ذلك متمسكًا بموقفه الرافض للبيعة بمبرر أنه أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق، واحتج على من بايع أبا بكر من المهاجرين وعلى من دعاه لمبايعته منهم بالقول: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر[أي الخلافة] من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبًا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيًّا وميتًا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون»[(33)]. وما كاد علي بن أبي طالب ينتهي من كلامه هذا حتى نهض عمر بن الخطاب غاضبًا فقال له: «إنك لست متروكًا حتى تبايع». لكن عليًّا أصرّ على موقفه، حتى إنه أقسم على أن لا يبايع، بحسب ما تذكر بعض الروايات. ولما احتد النقاش والسجال، وأضحت الأجواء مشحونة بالتوتر، واتسعت شقة الخلاف بين علي من جهة، وأبي بكر وعمر من جهة ثانية، تدخل أبو عبيدة بن الجراح، لتلطيف الأجواء، فخاطب عليًّا بأسلوب مرن، قال له فيه: «يا بن عم، إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً واضطلاعًا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر»[(34)]. فأجاب علي: «فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به، لأنّا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم»[(35)]. وبعد أن طرح علي حجته القائلة بأحقية أهل بيت رسول الله بميراثه من أهل القبيلة (قريش)، قام بشير بن سعد الأنصاري منصفًا علي بن أبي طالب، فقال له: «لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان»[(36)].
وتضيف الروايات أنه لما استعصى على علي بن أبي طالب إقناع المهاجرين بحجته في أحقيته بالخلافة، بعد مبايعتهم لأبي بكر الصديق، خرج ليلاً يحمل فاطمة على دابته يطوف بين مجالس الأنصار يسألهم نصرته، لكن دون جدوى. وكان جواب الأنصار لفاطمة أن قالوا لها: «يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل [أبا بكر]، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر، ما عدلنا به». فرد عليهم علي بالقول: «أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه[أي خلافته]؟». أما فاطمة، فقد ردت بما دافعت به عن رأي علي، إذ قالت: «ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم»[(37)].
ورغم دعوات أبي بكر المتكررة لعلي ولفاطمة بالبيعة، فقد امتنعا عن ذلك: أما علي فقد كان يقول إن أبا بكر: «قد ادعى ما ليس له». وأما فاطمة، فقد قالت: «لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقنا»[(38)].
هكذا إذن، لم يتمكن علي بن أبي طالب من المشاركة في المفاوضات السياسية الساخنة التي دارت بسقيفة بني ساعدة، وظل بِمعيَّة فاطمة، ومعهما عدد من بني هاشم، ثابتين على موقفهم السياسي الرافض لبيعة أبي بكر الصديق إلى أن ماتت فاطمة وليس في عنقها بيعة على ما تذكر بعض الروايات، وإن كانت روايات أخرى ترفض هذا الكلام بحجة أن البيعة لا تؤخذ من النساء، وأنه مما هو من المعلوم عند أهل السُّنة أنه لا تجوز بالقطع بيعة النساء للإمام. إذ يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني بهذا الصدد: «ما نعلمه قطعًا، أن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة، فإنهن ما روجعن قط، ولو استشير في هذا الأمر امرأة لكان أحرى النساء وأجدرهن بهذا الأمر فاطمة رضي الله عنها، ثم نسوة رسول الله أمهات المؤمنين، ونحن بابتداء الأذهان، نعلم أنه ما كان لهن في هذا المجال مخاض في منقرض العصور ومكر الدهور»[(39)]. ويذهب البيهقي في رواية أخرى أن فاطمة لما مرضت أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: «يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: تحب أن آذن له، قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وقال: والله ما تركت الدار والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت»[(40)]. ويذهب المسعودي في مروج الذهب إلى أن أبا بكر: «لم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها»[(41)]. ولم تمكث فاطمة حية بعد أبيها إلا خمسًا وسبعين ليلة. وأما علي فلم يبايع إلا بعد وفاتها بستة أشهر، وقيل بثلاثة أشهر، وقيل بأربعين يومًا، وقيل بعشرة أيام[(42)].
وتذكر الروايات أن علي بن أبي طالب وبعد وفاة فاطمة أرسل في طلب أبي بكر الصديق، فلما دخل أبو بكر على علي وبداره بنو هاشم، قال: «يا أبا بكر: فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًّا، فاستبددت علينا». ثم أعقب قائلاً: موعدك غدًا يا أبا بكر في المسجد الجامع للبيعة إن شاء الله[(43)].
وحين جاء يوم الغد، خرج أبو بكر إلى المسجد الشريف، وخطب في الناس ملتمسًا لعلي العذر الذي اعتذر به عنده، ثم قام علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم تقدم إلى أبي بكر وبايعه.
هكذا يظهر، إذن، أن علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة لم يكونا وحدهما من المعترضين على خلافة أبي بكر الصديق، وإنما تذهب بعض الروايات إلى أنه قد كان على موقفهما ممن: «تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبيّ بن كعب (…) وأبو سفيان بن حرب»[(44)]، فضلاً عن الحباب بن المنذر وسعد بن عبادة.
وفي الوقت الذي كانت فيه المعارضة السياسية لازالت لم تهدأ بعد، انطلقت حركة أخرى أخطر وأوسع بكثير من هذه، هي حركة الردة التي كان من الصعب اختزالها في مجرد مسألة الكفر أو الإيمان، لكونها كانت في واقع الأمر تعبيرًا سياسيًّا عن رفض الخضوع للسلطة السياسية القائمة، وهو بالفعل ما رآه فيها أبو بكر الصديق عندما اعتبرها بحق تهديدًا صريحًا للمستقبل السياسي للأمة الإسلامية الوليدة، ولاستمرار النظام الإسلامي الجديد بالعودة إلى النظام القبلي الجاهلي. وقد عمَّت هذه الحركة معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية حتى قيل إنه لم يَنْجُ منها، أي من الردة، غير مكة والمدينة والطائف. وأمام ذلك لم يجد أبو بكر الصديق بُدًّا غير ضرورة العمل من أجل الحفاظ على استمرار النظام الإسلامي الجديد بالإمساك بزمام الأمر بيدٍ من حديد، والتصدي بصرامة شديدة لمواجهة موجة الرفض والتمرد تلك التي اتخذت، بالتعبير المعاصر، شكل نزعات استقلالية وحركات انفصالية، فكان أن قطع أبو بكر العهد على نفسه على أن يقاتلهم حيثما وجدوا، حتى إنه قال: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، ولو لم أجد أحدًا أقاتلهم به لقاتلتهم وحدي، حتى يحكم الله بيني وبينهم»[(45)].
وبالفعل، فقد تمكن أبو بكر الصديق من القضاء على الردة، لكن وبالرغم من قضائه عليها، وبالرغم من إطلاقه لعملية الفتوحات الإسلامية الكبرى، فإن مظاهر عدم الإجماع على خلافته ـ لا على وجوب الخلافة ـ ظلت أمرًا قائمًا حتى آخر أيام حياته. ومعلوم عند أهل السُّنة ـ إلا ما ذهب إليه الأشعري بشأن إمامة أبي بكر الصديق[(46)] ـ أن الإمامة لا تنعقد بالإجماع، أي إن الإجماع ليس شرطًا في عقد الخلافة أو الإمامة كما سنرى بشيء من التفصيل في موضعه، لكونها من الأمور السياسية التي لا يكون عليها في العادة إجماع كما الأمر بالنسبة للأمور الدينية.
وهكذا، لم تدم خلافة أبي بكر الصديق أكثر من سنتين وشهورًا معدودة، ثم مرض المرض الذي مات فيه[(47)]، وكانت وفاته مساء يوم الاثنين 22 جمادى الثانية من عام 13هـ.

3 ـ في خلافة عمر بن الخطاب
وتذكر المصادر التاريخية أنه وقبل وفاة أبي بكر، وبالضبط بعد أن اشتد عليه المرض، أمر أن تجتمع له الناس، فاجتمعوا فقال فيهم: «أيها الناس، قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وإنه لا بدّ لكم من رجل يلي أمركم، ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، فيأمركم، فإن شئتم اجتمعتم فأتمرتم ثم وليتم عليكم من أردتم، وإن شئتم اجتهدت لكم رأيي،(…) فقالوا: يا خليفة رسول الله، أنت خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا، قال: سأجتهد لكم رأيي، وأختار لكم خيركم إن شاء الله»[(48)]. ويذكر الطبري أنه: «لما نزل بأبي بكر رحمه الله الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل؛ ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمَّقتُه، فرأيتني إذا غضبتُ على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنتُ له أراني الشدَّة عليه؛ لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا، فقال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبرُ به، فقال أبو بكر: عليَّ ذاك يا أبا عبد الله! قال: اللَّهم علمي به أن سريرته خيرٌ من علانيته؛ وأن ليس فينا مثله(الأفضل). قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرت لك شيئًا، قال: أفعل، فقال له أبو بكر: لو تركتُه ما عدوتُك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألاّ يلي من أموركم شيئًا، ولوددتُ أني كنت خلْوًا من أموركم؛ وأني كنتُ فيمن مضى من سلفكم؛ يا أبا عبد الله، لا تذكرنّ مما قلتُ لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئًا»[(49)].
وبعد مشاورات عديدة أجراها أبو بكر الصديق قبل وفاته مع عدد من الصحابة، أرسل في طلب عمر، ولما أتاه قال له: «يا عمر، أحبك محب، وأبغضك مبغض، وقديمًا يُحبّ الشرّ، ويُبغض الخير. فقال عمر: لا حاجة لي بها. فقال أبو بكر: لكن بها إليك حاجة، والله ما حبوتك بها، ولكن حبوتها بك. ثم قال: خذ هذا الكتاب، واخرج به إلى الناس، وأخبرهم أنه عهدي، وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم، فقالوا: سمعًا وطاعة»[(50)]. وكان أبو بكر قد دعا عثمان بن عفان من قبل، فقال له: اكتب عهدي، فكتب عثمان ما أملاه عليه أبو بكر، وهو ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحًا عنها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم، فذلك ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغير فالخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»[(51)].
لكن، وإن استشار أبو بكر عددًا من الصحابة كعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وأسيد بن حضير الأنصاري، وسعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم في شأن اختيار عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين من بعده، فإن هؤلاء ـ وهم من كبار الصحابة ـ وغيرهم لم يخفوا معارضتهم السياسية، أول الأمر، لخلافة عمر. بل تذكر الروايات أن أبا بكر، ما إن ختم كتاب تعيين عمر حتى: «دخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته، وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا وأنت لاق الله عزَّ وجلَّ فسائلك، فما أنت قائل؟»[(52)].
كما أن أهل الشام لما بلغهم خبر مرض أبي بكر، أبدوا تخوفهم من ولاية عمر، فقالوا: «إنا لنخاف أن يكون خليفة رسول الله [أبا بكر] قد مات وولى بعده عمر، فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب، وإنا نرى خلعه»[(53)]. ولما قدم رجل من الشام سأله عمر: «كيف الناس؟ قال: سالمون صالحون، وهم كارهون لولايتك».
هذا، ويذكر ابن قتيبة أن رجلاً من عامة الناس دخل يومًا على عمر وهو جالس في المسجد مقعد الخلافة عقب وفاة أبي بكر، فقال: «يا أمير المؤمنين، أدنو منك فإن لي حاجة؟ قال عمر: لا. قال الرجل: إذًا أذهب فيغنيني الله عنك، فولى ذاهبًا، فاتبعه عمر ببصره، ثم قام فأخذه بثوبه، فقال له: ما حاجتك؟ فقال الرجل: بغضك الناس، وكرهك الناس، قال عمر: ولم ويحك؟ فقال الرجل: للسانك وعصاك»[(54)].
لكن ومع ما يشبه أن يكون معارضة سياسية من لدن بعض عامة الناس وخاصتهم لولاية عمر في بداية الأمر، ومع قصر مدة ولايته التي لم تتجاوز عشر سنين بعد أبي بكر، فإن صاحب «الإمامة والسياسة» يقطع بالقول إن عمر: «ما فارق الدنيا حتى أحبَّ ولايته من كرهها». ثم يضيف معلقًا: «لقد كانت إمارته فتحًا، وإسلامه عزًّا ونصرًا، اتبع في عمله سنة صاحبيه وآثارهما، كما يتبع الفصيل أثر أمه»[(55)].
لكن هذا كله لم يشفع له عند بعضهم. إذ بينما كان : «يومًا يطوف في السوق، لقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وكان نصرانيًّا، فقال: يا أمير المؤمنين، أعْدِني على المغيرة بن شعبة؛ فإن عليَّ خراجًا كثيرًا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال: وأيَشٍ صناعتك؟ قال: نجّار، نقاش، حداد، قال: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال؛ قد بلغني أنك تقول: لو أردتُ أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت؛ قال: نعم؛ قال: فاعمل لي رحى، قال: لئن سلمتُ لأعملنَّ لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه؛ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لقد توعَّدني العبد آنفًا! ثم انصرف عمر إلى منزله»[(56)]. وفي صباح اليوم الثالث، أي فجر يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر ذي الحجة عام 23هـ : «خرج عمر إلى الصلاة؛ وكان يوكّل بالصفوف رجالاً؛ فإذا استوت جاء هو فكبّر(…) ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سُرّته»[(57)]. ويرجح البعض أن يكون اغتيال عمر: «اغتيالاً عاديًّا، ظاهريًّا بلا مضمون سياسي»، بينما يرجح البعض الآخر أن يكون مقتل عمر بفعل مؤامرة خارجية سياسية في مضمونها ـ بفعل الفرس (إيران حاليًّا التي فتحها عمر)[(58)] أو اليهود أو النصارى الذين كانت في نفوسهم حفيظة على العرب بعامة وعلى عمر بخاصة، بعد أن غلبهم المسلمون على أمرهم وتولوا حكم بلادهم ـ مستبعدين الدافع الشخصي لأبي لؤلؤة، بمبرر أن تذمره من الخراج المفروض عليه للمغيرة ومقداره درهمان لا يستحق في الواقع كل هذه المجازفة[(59)].

4 ـ في المعارضة السياسية لخلافة عثمان
تذكر الروايات أن عمر بن الخطاب لما نقل إلى بيته دخل عليه المهاجرون فقالوا له: «يا أمير المؤمنين، استخلف علينا، قال: والله لا أحملكم حيًّا وميتًا». لكن لما : «أحس بالموت قال لابنه: اذهب إلى عائشة، وأقرئها مني السلام، واستأذنها أن أقبرَ في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر، فأتاها عبد الله بن عمر، فأعلمها فقالت: نعم وكرامة، ثم قالت : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدَع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدَعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة؛ فأتى عبد الله فأعلمه»[(60)]. فأشار إليه من كان معه من الصحابة رضوان الله عليهم أن يستخلف ابنه عبد الله، إذ قالوا: «يا أمير المؤمنين إن فيه للخلافة موضعًا فاستخلفه، فإنا راضون به». لكن عمر أبى وامتنع، مجيبًا إياهم بالقول: «حسب آل الخطاب تحَمُّل رجل منهم الخلافة»[(61)]. غير أنه اقترح عليهم ستة أسماء من كبار صحابة رسول الله كلهم من قريش، وهم: علي بن أبي طالب، من بني عبد المطلب ابن عمّ الرسول وزوج ابنته فاطمة. عثمان بن عفان، من بني أمية، وسليل بني عبد المطلب من جهة النساء. عبد الرحمن بن عوف، من بني زُهرة، عشيرة أم النبي، وصهر عثمان بن عفان. سعد بن أبي وقاص، من بني زُهرة أيضًا. الزبير بن العوام، من بني عبد العُزّى بن قُصيّ، أمه عمّة النبي، وينتسب إلى عبد المطلب من جهة النساء. طلحة بن عبيد الله، من تميم عشيرة أبي بكر. وقبل أن يدعو عمر بن الخطاب هؤلاء الستة إلى اختيار رجل واحد منهم لمنصب الخلافة، دعاهم للاجتماع إليه، فحضر جميعهم إلا طلحة الذي كان يومها غائبًا، فقال لهم: «إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم؛ ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم؛ وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض؛ إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم؛ ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها، فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم. ثم [استدرك و] قال: لا تدخلوا حجرة عائشة؛ ولكن كونوا قريباً (…) فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد؛ فأسمعه فانتبه فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصلّ بالناس صهيب[(62)]، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم؛ ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر؛ فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم؛ وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم»[(63)]. وأضاف: «أنشدك الله يا علي إن وليتَ من أمور الناس شيئًا أن لا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس أن لا تحمل بني أبي مُعيْط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئًا أن لا تحمل أقاربك على رقاب الناس»[(64)]. ثم أوصى ابنه عبد الله بأن لا يترشح أو يتولى هذا الأمر، فقال له: «يا عبد الله إياك ثم إياك لا تتلبس بها»[(65)]. كما أوصى المرشحين الستة لمنصب الخلافة بوجوب احترام أي كان منهم لقرار الأغلبية في الاختيار، حتى إنه أوصى بوجوب إخضاع الأقلية للأغلبية ولو دعا ذلك استعمال القوة التي تصل حد السيف، فقال يا صهيب: «إن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه ـ أو اضرب رأسه بالسيف ـ وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان، فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر؛ فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس»[(66)]. وبعد وفاة عمر، اجتمع المرشحون الستة لمنصب الخلافة: «فتشاوروا ثلاثة أيام، فلم يبرموا فتيلاً»[(67)]. وبعد أن تأكد فشل المشاورات في اليومين الأولين، عمد عبد الرحمن بن عوف في اليوم الثالث والأخير إلى طرح وسيلة بديلة لإنقاذ الموقف، تنازل بموجبها عن حقه في الخلافة مقابل سماحهم له باختيار الخليفة منهم. وهكذا يذكر صاحب «الإمامة والسياسة» أنه: «لما كان في اليوم الثالث قال لهم عبد الرحمن ابن عوف [أي للمرشحين للخلافة]: أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم عزم عليكم صاحبكم أن لا تتفرقوا فيه حتى تستخلفوا أحدكم، قالوا: أجل. قال: فإني عارض عليكم أمرًا، قالوا: وما تعرض؟ قال: أن تولوني أمركم، وأهب لكم نصيبي فيها [أي أتنازل لكم عن حقي في أمر الخلافة]، وأختار لكم من أنفسكم، قالوا: قد أعطيناك الذي سألت؛ فلما سلم القوم قال لهم عبد الرحمن: اجعلوا أمركم [أي تنازلوا] إلى ثلاثة منكم، فجعل الزبير أمره [أي تنازل] إلى عليّ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف (…) [فلم يبق من المرشحين الستة سوى عثمان وعلي] فقال لهم عبد الرحمن: كونوا مكانكم حتى آتيكم. وخرج يلتقي الناس في أنقاب المدينة متلثمًا لا يعرفه أحد، فما ترك أحدًا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم إلا سألهم واستشارهم. أما أهل الرأي فأتاهم مستشيرًا، وتلقى غيرهم سائلاً، يقول: من ترى الخليفة بعد عمر؟ فلم يلق أحدًا يستشيره ولا يسأله إلا ويقول عثمان»[(68)]. ثم قصد المسجد ودعا في طلب عثمان، ولما قدم أخذ بيده، فقال له: «عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمنَّ لنا كتاب الله وسنة رسوله وسنة صاحبيك، وشرط عمر أن لا تجعل أحدًا من بني أمية على رقاب الناس، فقال عثمان: نعم. ثم أخذ بيد عليّ، فقال له: أبايعك على شرط عمر أن لا تجعل أحدًا من بني هاشم على رقاب الناس، فقال عليّ عند ذلك: ما لك ولهذا إذا قطعتها في عنقي، فإن عليّ الاجتهاد لأمة محمد حيث علمت القوّة والأمانة استعنت بها، كان في بني هاشم أو غيرهم؛ قال عبد الرحمن: لا والله حتى تعطيني هذا الشرط؛ قال عليّ: والله لا أعطيكه أبدًا، فتركه، فقاموا من عنده؛ فخرج عبد الرحمن إلى المسجد، فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل يا عليّ سبيلاً إلى نفسك، فإنه السيف لا غير؛ ثم أخذ بيد عثمان فبايعه وبايع الناس جميعًا»[(69)]. وكانت بيعته يوم الاثنين لليلة واحدة بقيت من شهر ذي الحجة عام 23 هـ، أي بليلة واحدة عن شهر محرم من عام 24 هـ.
هكذا تمّت بيعة عثمان بن عفان لقبوله شرط الالتزام في الحكم بكتاب الله وبسنة رسوله وبسيرة صاحبيه: أبي بكر وعمر، ومنها شرط عمر بعدم تسليط أهل قبيلته بني أمية على رقاب الناس؛ بينما لم يبايع علي بسبب رفضه التقيد بسيرة أبي بكر وعمر، وعزمه على سلك طريق الاجتهاد، بمبرر أنه إذا قضي الأمر بالبيعة له، فله حق الاجتهاد في طلب أسباب قوة الأمة أنَّى وجدها: في بني هاشم أو في بني أمية أو في غيرهما من البيوت والقبائل.
وهكذا أقصي علي بعد أول ترشح له للخلافة، وبإقصائه أقصي آل بيته مما كانوا يرون أنهم الأحق بها: الخلافة.
وتذكر الروايات أن عثمان بن عفان، ومنذ اليوم الأول من خلافته، واجهته مشكلات كبرى كان أبرزها ثأر عبيد الله بن عمر لأبيه، وقتله لمن اعتقد أنهم ساعدوا أبا لؤلؤة في قتل والده ومنهم الهرمزان وجفينة بنت أبي لؤلؤة. وتضيف الروايات أنه لما عرض أمر عبيد الله بن عمر على عثمان بن عفان استشار بعض الصحابة في أمره، فتباينت آراؤهم بين داعٍ إلى قتله وإقامة الحد عليه، وداعٍ إلى عدم إقامته والقصاص منه بمبرر أنه لا يعقل أن: «يقتل عمر أمس، ويقتل ابنه اليوم». فكان أن عمد عثمان بن عفان إلى إصدار قرار بالعفو عن عبيد الله بن عمر بعد أن أدى عنه دية القتلى من ماله الخاص إلى بيت مال المسلمين. غير أن كيفية تعاطي عثمان مع النازلة أثار حفيظة بعض المتشددين الذين رأوا في قراره تعطيلاً لحدود الله.
هذا، وتذكر بعض الروايات أن عثمان، وبعد السنوات الست الأولى من بيعته، تراخى في التزامه بشروط البيعة، إذ إنه، وعلى خلاف سيرة أبي بكر وعمر، أغدق أصحابه وأقاربه بالعطايا والهبات، ومنهم الحارث بن الحكم بن أبي العاص الذي منحه عددًا من الإبل، وإن كان عبد الرحمن بن عوف سيستعيدها من الحارث فيما بعد ليقسمها بين الناس، وذلك طبعًا، بعد موافقة عثمان على ذلك. كما منح لعبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألف درهم، سيعيدها إليه فيما بعد على ما يذكر الطبري الذي أورد كذلك أن عثمان بن عفان استعمل كعب بن مالك على صدقات مزينة، وترك له ما أخذه منهم.
ولم تقتصر سياسة عثمان على تقديم الهبات ومنح الأموال والعطايا لأصحابه وأهله وأقاربه، وإنما زاد عن ذلك بأن قطع الصوافي[(70)]. ويذكر الطبري بعض الصحابة ممن استفادوا من ذلك، ومنهم عدي بن حاتم الطائي، وطلحة بن عبيد الله، والأشعث بن قيس الكندي، وجرير بن عبد الله البجلي، ووائل الحضرمي، وخالد بن عرفطة، وعبد الله بن مسعود، وخباب بن الأرت، وسعد بن مالك، وعمار بن ياسر، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري.
يضاف إلى هذه المنح والهبات والعطايا أن قام عثمان بن عفان بالسماح لعمه الحكم بن أبي العاص بالعودة إلى المدينة التي كان قد طرده الرسول منها إلى الطائف بسبب ما لقيه النبي منه من أذى، وكان قد سبق لعمر وأبي بكر الصديق أن رفضا رفضًا قاطعًا إيواء طرداء الرسول [(71)]، لكن عثمان عمد إلى إيوائه، وقد أنكر بعضهم عليه هذا القرار، وأنكره عليه أيضًا عامة الناس الذين رأوا فيه أنه إجراء غير مبرر قد سعى من ورائه عثمان فقط أن يقرب منه شخصية بارزة من بني أمية.
هذا، وقد كان لطبيعة نهج سياسة عثمان، ومبادراته تجاه تغيير عماله على الأمصار، آثار سلبية في أوساط الصحابة وأوساط عامة الناس. فقد تسلم عثمان الخلافة وكان عامل عمر بن الخطاب: «على مكة نافع بن عبد الحارث الخُزاعيّ، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثَّقفي، وعلى صنعاء يعلى بن مُنْية؛ حليف بني نوفل بن عبد مناف، وعلى الجَنَد عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة؛ وعلى البصرة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عمرو بن العاص؛ وعلى حمص عُمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثقفي»[(72)]. غير أن عثمان بن عفان، وبعد توليته، سيقدم على عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وينصب مكانه سعد بن أبي وقاص الذي سيعزل بدوره بعد عام من توليته إثر نشوب خلاف بينه وبين عبد الله بن مسعود الذي كان مكلفًا ببيت مال المسلمين بالكوفة. وقد كان سبب الخلاف أن أبطأ سعد في ردّ أموال كان قد اقترضها من بيت المال، فاستشاط الخليفة غضبًا، وعزل سعدًا، ونصب مكانه الوليد بن عقبة، وهو شقيق عثمان من جهة أمه. أما البصرة فقد عزل عنها أبا موسى الأشعري ونصب بدلاً عنه عبد الله بن عامر ابن خال عثمان وهو لم يتجاوز بعد سن الخامسة والعشرين. وقد رأى فيه الصحابة وعامة الناس أنه إجراء غير سليم بالمرة، لا مسوغ له غير رابط القرابة التي تربطه به، وهو رابط لا يشفع له هذا القرار خصوصًا أمام صغر وحداثة سن عبد الله بن عامر، وانعدام تجاربه، أمام تجربة أبي موسى وعلو مقامه ورفعة منزلته.
وأما في مصر فقد أقيل عمرو بن العاص منها، وعين بدلاً عنه عبد الله ابن سعد بن أبي السرح شقيق عثمان بن عفان في الرضاعة[(73)].
وبالموازاة مع هذه الإقالات، أقدم عثمان على توسيع ولاية أحد أفراد عشيرته هو معاوية بن أبي سفيان الذي كان واليًا على دمشق، فأصبحت تضم حمص والأردن وفلسطين.
هذا وقد خلف دور ومنزلة مروان بن الحكم وحظوته عند عثمان انتقادات كبيرة من قبل الصحابة الذين اعتبروه الموجِّه الفعلي لسياسة عثمان، وهي سياسة رأوا فيها إقصاء كليًّا لهم من أي دور ولو كان استشاريًّا.
هذا، ومما يُذكر أن صلاة عثمان في منى عام 29 هـ قد أثارت موجة من النقد، وذلك عندما صلى بالناس أربع ركعات على خلاف سنة رسول الله وسنة الخلفاء من بعده: أبي بكر وعمر، الذين صلوا ركعتين باعتبار أن صلاتهم في منى صلاة مسافر وليست صلاة مقيم[(74)].
وتشير المصادر التاريخية إلى أن عثمان بن عفان قام كذلك بتوسيع الحمى[(75)]، وقيل إنه رخص لبعض عماله، ولبعض الصحابة الاستفادة منها، ومنهم: مروان بن الحكم، وعبد الله بن مطيع، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم. وتشير المصادر ذاتها إلى أن عثمان بن عفان قد ضرب فسطاطًا له بمنى[(76)]، وآخر لعبد الله بن عامر بن كريز، وزاد عن ذلك بأن فقد خاتم النبي أثناء حفر المسلمين بئر أريس[(77)].
جملة القول إن سياسة عثمان بن عفان وأسلوبه في الحكم قد أثارا لدى الكثيرين، حسب بعض الروايات، موجة من الانتقادات، بل وردود أفعال غاضبة وساخطة تجاه تفرده بتولية أهله وأقاربه، وإطلاق العنان لهم ولتجاوزاتهم في الأمصار، وعزله لكبار الصحابة عن مناصبهم، كما في مصر والكوفة والبصرة، وإقدامه على إبعاد بعضهم كما حدث مع أبي ذر الغفاري عندما أبعده عن المدينة إلى الربذة بسبب دعوته لعدم اكتناز الأموال والحرص على توزيع الفائض منها على الفقراء[(78)]، وضربه لبعضهم الآخر كما حدث مع عمار بن ياسر وغيره[(79)]، وتعطيله لحدود الله، وسماحه بإيواء طرداء الرسول ، وإطلاق يده في إنفاق وصرف أموال المسلمين في غير موضعها، وتغيير وتبديل سنة الرسول وسنة خليفتيه أبي بكر وعمر، وما إلى ذلك من إجراءات وقرارات غير ملائمة[(80)]. فكان أن عجل كل ذلك ـ كما قلنا ـ بظهور سيل من الانتقادات اللاذعة لسياسته، ولسياسة ولاته في الأمصار. كما أنه عجل بدخول بعضهم في أسلوب كتابة الرسائل التحريضية ضده، بل والعمل في السر والعلن على تأليب الناس عليه.
وتذهب روايات أخرى إلى أن عثمان بن عفان كان قد دعا إليه جميع من ادّعوا عليه التهم المذكورة من مصر والكوفة والبصرة، وبعد الصلاة الجامعة في المسجد ناظرهم وردَّ على جميع التهم المنسوبة إليه بأن برَّر بعض قراراته، وفنَّد بعضها الآخر؛ حيث قال:
&#TAB;°¤ وحميتَ حمًى؛ وإني والله ما حميتُ، حُميَ قبلي (يقصد عمر لإبل الصدقة) والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نَحَّوْا منها أحدًا إلا سارق درهمًا، وما لي من بعير غيرُ راحلتين، وما لي ثاغية ولا راغية، وإني قد وُلِّيتُ، [وكنت] أكثر العرب بعيرًا وشاةً، [وقد أنفقتها كلها في سبيل إعلاء كلمة الإسلام] فما [عاد لي] اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين [أحتفظ بهما] لحجِّي. وأشهد الصحابة فقالوا اللَّهم نعم»[(81)].
قالوا استعملت الأحداث وصغار السن، فكان أن ردَّ بالقول: «لم أستعمل إلا مجتمعًا محتملاً مرضيًّا صاحب فضل، وهؤلاء أهلُ عملهم، فسَلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولّى من قبلي أحدثَ منهم، وقيل في ذلك لرسول الله أشدُّ مما قيل لي في استعماله أسامة [بن زيد على جيش به كبار الصحابة]. وأشهد الصحابة، فقالوا اللَّهم نعم»[(82)].
قالوا، إن عثمان بن عفان صلى بالناس في منى أربع ركعات على خلاف سنة رسول الله وسنة الخلفاء من بعده: أبي بكر وعمر، الذين صلوا ركعتين باعتبار أن صلاتهم في منى صلاة مسافر وليست صلاة مقيم. فرد بالقول: «إن بعض من حج من أهل اليمن وجُفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلاً، فرأيت أن أصلي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصّدَر»، «فأتممت لهذين الأمرين. وأشهد الصحابة، فقالوا اللَّهم نعم»[(83)].
أَعَدْتَ الحَكَم بن أبي العاص إلى المدينة، وكان رسول قد سيَّرهُ إلى الطائف، فردّ عثمان على ذلك بأن: «الحكم مكِّي، سيَّرهُ رسول الله من مكة إلى الطائف، ثم ردّه رسول الله ، فرسول الله سيّره ورسول الله ردّه. وأشهد الصحابة على ذلك فقالوا اللَّهم نعم»[(84)].
إنه يحب أهل بيته ويعطيهم، فرد عليهم بالقول: «فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يمِلْ معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحلّ أموال المسلمين لنفسي؛ ولا لأحد من الناس؛ ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صُلب مالي أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر ، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفنيَ عمري، ودّعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا! وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلاً فيجوز ذلك لمن قاله؛ ولقد رددتُه عليهم، وما قدم عليّ إلا الأخماس، ولا يحلّ لي منها شيء؛ فولِيَ المسلمون وضْعها في أهلها دوني، ولا يُتَلفَّت من مال الله بفِلس فما فوقه؛ وما أتبلّغ منه ما آكل إلا مالي»[(85)].
واستمر عثمان بن عفان في دفع الشبهات عن نفسه التي ألصقها به خصومه، ومحاولة تبرئة ذمته من كل التهم الملفقة له، حتى تبين لخصومه ولجميع الحضور عدم صحة ما نسب إليه بإشهاد الصحابة، وكان من بين من ساهموا في تلطيف الأجواء المشحونة بين عثمان وخصومه: علي بن أبي طالب، وطلحة، وعائشة. ورغبة في مزيد من إرضاء الوفد المصري على شكاويهم من عامله عليها وهو عبد الله بن سعد بن أبي السرح اقترح عليهم عثمان بن عفان مقترحًا قال لهم فيه: «اختاروا رجلاً أوليه عليكم. فقالوا: استعمل [علينا] محمد بن أبي بكر، فكتب عهده، وولاّه»[(86)]. ثم خرج هذا الأخير إلى مصر ومعه الوفد المصري عائدًا إليها.
غير أن الوفود أو المجموعات الثلاث التي أتت من مصر والكوفة والبصرة، سرعان ما ستعود إلى المدينة، وذلك بعد أن صادف الوفد العائد إلى مصر في طريقه إليها غلامًا يحمل كتابًا من عثمان بن عفان إلى عامله على مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح يدعوه فيه إلى قتل محمد بن أبي بكر ومن معه من أفراد الوفد المصري العائد. يقول الطبري: «ثم رجع الوفد المصري راضين، فبينما هم في الطريق إذا هم براكب (وهو غلام أسود) يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم، ثم يفارقهم ويتبيَّنهم. قالوا له: ما لك؟ إن لك أمرًا! ما شأنك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر؛ ففتَّشوه؛ فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم»[(87)]. ويقول ابن قتيبة إن مما ذُكِرَ في الكتاب: «إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابهم، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي»[(88)].

وتذكر بعض الروايات أن هذا الكتاب الذي كان يحمله الغلام الأسود كان في واقع الأمر حيلة مُدبَّرة من حِيَلِ رجل من أصل يهودي يدعا عبد الله بن سبأ. وأن هذا الرجل، على ما تؤكد بعض المراجع الشيعة نفسها، كان أول من ادعى التشيع وقال بإمامة علي وموالاة آل البيت والطعن في الصحابة، وهو ما يفيد، بحسب هذه الروايات الشيعية دائمًا، أن التشيع إنما هو من أصل يهودي. يقول مؤرخ فرق الشيعة الحسن بن موسى النوبختي في كتاب «فرق الشيعة»: «وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديًّا فأسلم ووالى عليًّا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي في علي عليه السلام بمثل ذلك وهو أول من شهّر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه. فمن هنا قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية»[(89)]. ثم يضيف قائلاً: «وأول من قال بالغلو [هو] هذه الفرقة [التي] تسمّى «السبئية» أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرّأ منهم»[(90)].
وتذكر الرواية الشيعية نفسها أن علي بن أبي طالب لما سمع ما يُرَوِّجُ له عبد الله بن سبأ ويشيعه بين الناس: «سأله عن قوله هذا فأقرَّ به فأمر بقتله فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبِّكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك، فصيَّره (أي نفاه) إلى المدائن»[(91)].
ومهما يكن من أمر صحة هذه الشخصية التي شكك فيها بعض أعلام الشيعة والسنة، وأثبتها البعض الآخر من الجانبين، فإن جُماع هذه الأفكار هي ما سيعمل عبد الله بن سبأ على نشرها في الكوفة والبصرة ومصر وغيرها من الأمصار التي تَنَقّلَ إليها أو أرسل الرسائل بشأنها إلى أنصاره وأتباعه بغرض بَثِّها ونشرها. وتؤكد بعض المصادر أن تلك الوفود أو المجموعات الثلاث، من مصر والكوفة والبصرة، المكونة لحركة المعارضة السياسية لعثمان بن عفان والتي ستتشكل منها فرقة الشيعة فيما بعد إنما كانت متشبِّعة بهذه الأفكار التي تعود لعبد الله بن سبأ. وقد كان غرضه من نشر هذه الأفكار المسمومة العمل على خلق الفتنة، وتمزيق وحدة المسلمين، وتقويض الدولة الإسلامية[(92)].
إن التقاء محمد بن أبي بكر، إذن، ومعه وفد مصر ـ بمحض الصدفة ـ لذلك الغلام المبعوث من قبل عثمان بن عفان إلى عامله عليها، واطلاعهم على فحوى الكتاب الذي يدعوه فيه لقتلهم، ما حملهم للعودة إلى المدينة، عاقدين العزم على تصفية الخليفة عثمان بن عفان. إذ خرج أهل مصر في أربع فرق مقاتلة على رأس كل فرقة أمير، وكان عددهم يتراوح بين ستمئة وألف مقاتل على ما يذكر الطبري. أما أهل الكوفة فقد خرجوا في أربع فرق مقاتلة كذلك، وكان على رأس كل فرقة أمير أيضًا، وكان عددهم في ألف رجل[(93)]. وأما أهل البصرة فقد خرجوا هم أيضًا في أربع فرق، وكان عددهم كعدد أهل مصر على ما يذكر الطبري[(94)]. والتقت جميع الوفود والفرق المقاتلة بالمدينة التي عَلَتْ نواحيها أصوات التَّكْبير، فأتاهم علي بن أبي طالب ومعه عدد من الصحابة منهم طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، فقال لهم علي: «ما ردَّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا. وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك»[(95)]. وفي تأكيدٍ قاطع على تضامن أهل العراق مع أهل مصر حول هذا الحدث: «قال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا»[(96)].
لكن عليًّا سينتبه إلى وجود خلل في منطق تسلسل الحدث، فلم يستبعد، بعد استقرائه له، من انطوائه على مؤامرة خبيثة تستهدف عثمان بن عفان، من خلال تزوير الكتاب عليه، وإلاّ كيف عرف وفد البصرة ووفد الكوفة بما لقي وفد مصر بعد مسيرة ثلاث ليال من المدينة. إن تفطن علي بوجود مؤامرة مدبرة ما جعله يوجه لهم السؤال التالي: «كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر؛ وقد سرتم مراحل؛ ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمرٌ أبرم بالمدينة»[(97)]. ثم صاح في وجههم: «ارجعوا فأنتم ملعونون، لا صحبكم الله». ولما رأوا من علي ذلك الموقف الصَّاد لهم الكاشف عن وجه المؤامرة قالوا: «لا حاجة لنا في الرجل، ليعتزلنا». ثم توجهوا إلى عثمان بن عفان الذي عندما علم باتهامهم له بما ورد في الكتاب من أمر قتلهم، قال لهم: «إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليَّ رجلين [كشاهدين] من المسلمين، أو يميني بالله، [أي أن أحلف. ثم حلف بالله] الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمليت [الكتاب] ولا علمت [بأمره أو بأمر الغلام]. وقد تعلمون أن الكتاب يكتَب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم»[(98)]. فكان أن أجابوه بعد هذا الحلف باتهام كاتبه مروان بكتابة الكتاب، مطالبين إياه بدفعه إليهم لقتله، وذلك بالرغم من أن مروان قد حلف هو بدوره بعدم كتابته لهذا الكتاب أو حتى علمه به. وأمام رفض عثمان بن عفان تسليمهم كاتبه مروان، لم يجد خصومه السياسيون بُدًّا من القول له: «إن كنتَ كاذبًا فلا إمامة لك، وإن كنت صادقًا فليس يجوز أن يكون إمامًا من كان بهذه المنزلة من الغفلة حتى يُقْدِمَ عليه كاتبه بهذا الأمر العظيم».
وبالرغم من حلف عثمان بن عفان لهم ـ ومعه كاتبه ـ على عدم علمه بما يدّعون، فقد أصدروا فتوى استحلوا بموجبها دمه، بدعوى أنه نقض العهد والميثاق. فحاصروا بيت الخليفة عثمان بن عفان أربعين يومًا، قطعوا خلالها عنه جميع الإمدادات من ماء وطعام، ثم داهموا منزله يوم الجمعة 18 ذي الحجة من عام 35هـ/655 م فقتلوه[(99)]، وكان قتله إيذانًا بانفجار الوضع الداخلي، مخلفًا بذلك ما سيعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى.

5 ـ خلافة علي: من المعارضة السياسية إلى المعارضة المسلحة
يذكر الطبري في تاريخه أنه وبعد مقتل عثمان بن عفان قدم عدد من الناس ومن الصحابة إلى بيت علي فعرضوا البيعة عليه بأن قالوا له: «إن هذا الرجل[أي عثمان] قد قتل، ولا بدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحق بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله »[(100)]. فكان إصرار الناس والصحابة على بيعته ما دعاه إلى القبول، لكن اشترط عليهم أن يتمهلوا حتى تكون البيعة على طريق ما أوصى به عمر، إذ إنه: «قد أوصى بها شورى،[وأن] يجتمع الناس ويتشاورون»[(101)]. ومع أن الناس ومعهم الصحابة استعجلوه الأمر توجسًا على «الإسلام» ومخافة «فساد الأمة» واندلاع الفتنة. فقد أصر علي، رغم ذلك، على وجوب استيفاء شرطين على الأقل لقبوله مقترح شغل منصب الخلافة، أولهما:أن لا تكون إلا عن رضا المسلمين، خاصة أهل الشورى وأهل بدر[(102)]، وثانيهما: أن تكون: «في المسجد» علانية وأمام الملإ لا خفيًّا[(103)]. فما كان من الناس ومن الصحابة إلا أن قبلوا الشرطين. وتضيف الرواية أن عليًّا لما دخل المسجد: «دخل الأنصار والمهاجرون فبايعوه، ثم بايعه الناس»[(104)]. وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، أي بعد خمسة أيام من مقتل عثمان. وكان من الإجراءات الأولى التي اتخذها علي أن أصدر أمره بعزل ولاة عثمان من مناصبهم، باستثناء والي الكوفة أبي موسى الأشعري، وذلك رغبة وطلبًا في تهدئة الوضع الذي دخل مرحلة متقدمة من الغليان. غير أن هذا الأمر والإجراء المتخذ لم يمتثل له معاوية الذي رفض مبايعة علي، كما رفض أن يستقبل عامله على الشام سهيل بن حنيف، وظل متمسكًا بولايته عليها. بل إن هذا الإجراء لم يمنع من ظهور معارضة سياسية قوية لعلي من قبل عدد كبير من كبار الصحابة وما سواهم من الأشراف ووجهاء ورؤساء القبائل، ومنهم من الأنصار: طلحة، والزبير، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخُدْري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عُبيد، وكعب ابن عُجْرة وكانوا عثمانية[(105)]. كما عارض بيعته قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وصهيب ابن سنان، وسلمة بن وقْش، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة[(106)].
هذا وتجدر الإشارة أنه ومن بعض عناصر هذه المعارضة ستتشكل الطلائع الأولى لأول انشقاق في تاريخ الفكر السياسي العربي الإسلامي، انشقاق خط بعض قادته لأنفسهم مسارًا غير مسار التكتل الداعم لبيعة علي بن أبي طالب. والأدهى من هذا أن هذه المعارضة لم تتوقف عند حدود المعارضة السياسية: الكلامية أو الاحتجاجية لمبدأ تولية علي، وإنما ذهبت أبعد من ذلك عندما طالبت بدم عثمان، والقصاص من قتلته: الغوغاء من أهل الأمصار، الذين اتهموا بالهجوم على المدينة، والاستيلاء بالقوة عليها، قبل أن يقدموا على مداهمة بيت الخليفة وقتله به : «فسفكوا [بذلك] الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام واستحلوا الشهر الحرام [شهر الحج]»[(107)].
إن هذا الموقف هو الموقف ذاته الذي وقفته عائشة ومعها طلحة والزبير اللذان قيل إنهما نكثا بيعتهما لعلي ليلتحقا بها في مكة في ربيع الأول من سنة 36هـ، أي بعد حوالي أربعة أشهر من مقتل عثمان، بعد أن استأذنا عليًّا في العمرة، فأذن لهما. ويذكر ابن قتيبة أن سبب تراجع طلحة والزبير عن بيعتهما لعلي كونهما قد: «زعما أنهما بايعا مستكرهين»[(108)]، وأن الزبير لما سئل عن سبب تراجعه عن البيعة قال: «بايعنا عليًّا والسيف على أعناقنا، حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا»[(109)]، والكلام نفسه قال به طلحة[(110)]. وهو ما يفيد عدم اعترافهما ببيعة علي التي عدت برأيهما بيعة لاغية، بدعوى كونها كانت بيعة إكراه، وبيعة الإكراه لا تجوز.

المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان، إذن، وتولية الخلافة عن طريق الشورى، كانا المطلبين الرئيسين لهذه الحركة السياسية المعارضة التي ستتحول سريعًا إلى حركة مسلحة، بعد أن تلقت دعمًا ماديًّا ومعنويًّا واسعًا من لدن أقارب عثمان وأفراد أسرته، فضلاً عن الموالين له، كعبد الله بن عامر الحضرمي الذي كان والي عثمان على مكة، ويعلى بن أمية الذي كان واليًا على اليمن، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة[(111)]. وما إن توفر للحركة ما يلزم من العدة والعتاد حتى خرجت في نحو سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا في نحو ثلاثة آلاف رجل[(112)]، خرجوا قاصدين البصرة التي كانت قد انقسمت على نفسها حول مقتل عثمان، والتي كان لا يزال عبد الله بن عامر ـ الوالي الأموي السابق عليها ـ يحتفظ فيها بقدر من النفوذ، بل وبعلاقات ودية مع رؤساء وأشراف القبائل منهم كعب بن سور، والمنذر بن ربيعة، والأحنف بن قيس[(113)]. وكان القصد من الخروج باتجاه البصرة طلب العون من أهلها، والقصاص من قتلة الخليفة من البصريين. وعندما علم علي بخروج عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة، خرج على رأس قوة عسكرية في أواخر ربيع الثاني سنة 36 هـ من المدينة، بعد أن أمَّر عليها سَهْل بن حُنَيْف الأنصاري[(114)]، قاصدًا أول الأمر الربذة أملاً في أن يدركهم بها، ويحاول بالطرق السلمية ردهم إليها، أي إلى المدينة. لكن عندما وصل إلى الربذة أدرك أنهم كانوا بها وقد غادروها صوب البصرة. وبعد أن مكث بالربذة أيامًا، قرر التوجه إلى البصرة، حيث كانت وجهة الناكثين، والمتهمين إياه بإيواء قتلة عثمان، وقد كان هذا الخروج، أي خروج علي من المدينة، خروجًا من غير رجعة لمؤسسة الخلافة إلى الجزيرة العربية.
هكذا، إذن، سيجد علي نفسه مضطرًّا للتوجه نحو البصرة بعد أيام قضاها بالربذة، وتذكر المصادر التاريخية أن مكوث علي بالربذة بمعية وحدة صغيرة من المقاتلين إنما كان من أجل أن تصل إليه تعزيزات إضافية من الرجال والسلاح والعتاد كان قد أرسل في طلبها من المدينة، وما إن وصلته حتى رحل منها باتجاه فيد ومن هذه إلى الثعلبية، ثم إلى ذي قار[(115)]، طلبًا للصلح، ومعالجة الخلاف بالطرق السلمية[(116)]. لكن طلبه هذا للصلح لم يمنعه من إرسال الرسل إلى الكوفيين يستنفرهم ويدعوهم للخروج إليه[(117)]، كما كتب إلى أبي موسى الأشعري الوالي على الكوفة يدعوه إلى حث أهلها على نصرته والخروج إليه. غير أنه كان لأبي موسى رأي آخر في الأمر، رأي مثبط للناس عن الخروج، يقول فيه: «إن هذه ليست غير فتنة صماء (…) فأغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة»، وإن : «القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا (…) والله إن بيعة عثمان (رض) لفي عنقي وعنق [علي] فإن لم يكن بُدٌّ من قتال لا نقاتل أحدًا حتى يُفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا»[(118)]. وبينما كان علي بذي قار، إذ بلغه ما حدث في البصرة من أن عائشة وطلحة والزبير طلبوا من قبائلها تسليمهم قتلة عثمان لإقامة الحد عليهم، وكان من تلك القبائل من استجابت لطلبهم، حتى إنه يروى أنهم قتلوا نحو 600 رجل. لكن ثمة من القبائل من ستلتحق بمعسكر علي، وذلك مثل قبيلة البكريين (بكر بن وائل)، وقبيلة عبد القيس التي فقدت العديد من أبنائها[(119)]. ولم يقف الأمر بعائشة وطلحة والزبير عند هذا الحد، وإنما بعثوا برسلهم إلى الأمصار بغية تطبيق الحد على قتلة عثمان، ومعاقبة كل من عرف أو ظهر من معاونيهم[(120)]. وفي الوقت الذي تعالت فيه بالبصرة أصوات المطالبة بالقصاص، وقتل قتلة عثمان، كانت القبائل الكوفية تتلاحق الواحدة تلو الأخرى، ملبية بذلك نداء النصرة الذي أطلقه علي.
فكان أن خرج إليه نحو اثني عشر ألف رجل، ينحدرون من : «أسباع على قريش وكنانة وأسد وتميم والرِّباب ومُزينة معقل بن يسار الرّياحيّ، وسُبْع قيس عليهم سعد بن مسعود الثقفي، وسُبْع بكر بن وائل وتغلب عليهم وَعْلة بن مخدوج الذهلي، وسُبْع مَذْحجٍ والأشعريين عليهم حُجْر بن عديّ، وسُبْعُ بجيلة وأنمار وخَثْعم والأزد عليهم مِخْنَف بن سُلَيم الأزديّ»[(121)].
وإذا كانت هذه القبائل الكوفية قد خرجت لنصرة علي، فإن من أهلها أيضًا من لم يكونوا معه، ولا ناصروه، وإنما ناصروا طلحة والزبير. وأما فريق ثالث من أهلها فقد اعتزل الصراع والخلاف وفضل اللجوء إلى الحياد. الشيء نفسه حدث أيضًا مع أهل البصرة، إذ انقسموا هم بدورهم إلى فرق، فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة اعتزلت لا ترى القتال مع أحد من الفريقين[(122)]. وبينما كان علي معسكرًا بجيشه بذي قار، إذ بلغه أن طلحة والزبير ومعهما مروان بن الحكم وجماعة من المقاتلين قد داهموا ليلاً بيت عثمان بن حنيف والي علي على البصرة فقتلوا نحو أربعين رجلاً من الحرس، ثم خرج عثمان بن حنيف، فتصدى إليه مروان بن الحكم مع جماعة من المقاتلين فأسروه، ثم أوسعوه ضربًا، ونتفوا لحيته وشعر رأسه وحاجبيه، وقتلوا كل أصحابه[(123)]. وانتهى الأمر بطلحة والزبير ومروان بن الحكم إلى نسف سلطة عثمان بن حنيف على البصرة.
هكذا، إذن، تواصلت الأخبار على علي، وتواصلت قبلها، بشكل سريع وملفت للنظر، تطورات الحركة الرافضة لبيعته، وذلك بتحولها من حركة سياسية إلى حركة مسلحة، مضفية على نفسها، وعلى مطالبها طابع الشرعية الدينية، وهي مطالب لخصتها الحركة في شعارين رئيسين:
1 ـ إقامة حدود الله بالقصاص من القتلة، وذلك بقتل كل قاتل.
2 ـ نصب الخليفة على أساس الشورى.
وتجدر الإشارة هنا أن المقصود بالشعار الأول إنما هو بعض من بايعوا عليًّا من أهل الأمصار ممن قيل إنهم متورطون في قتل عثمان، وإنهم مع جريمتهم الشنعاء تلك احتضنهم علي وآواهم، بل هم من شكلوا النواة الأولى لجيشه من البصريين والكوفيين. وأما المقصود بالشعار الثاني، فهو أن خلافة علي ليست خلافة شرعية ما دامت لم تقم على أساس الشورى.
ما يجب التأكيد عليه هاهنا، أنه سواء صح القول بأن طلحة والزبير لم يُخْفِ أي منهما رغبته في الوصول إلى السلطة، أو لم يصح هذا القول، فإنهما لم يطالبا صراحة بعزل علي أو خلعه عن الخلافة. بعبارة أخرى إنه سواء إن أعلن طلحة والزبير رغبتهما في الوصول إلى السلطة السياسية، أو أخفياها تحت عناوين ومسميات أخرى، أو تحت شعارات ملفوفة بلفائف دينية، فإن علي بن أبي طالب قد رأى في حركتهم تلك حركة عصيان وتمرد، نكث قادتها عهدهم، وشقوا عصا الطاعة عليه كخليفة للمسلمين. ومن ثم فلا محيد من ردهم إلى جادة الصواب بالطرق السلمية (الصلح والإصلاح)، أو إلزامهم بالطاعة، حتى وإن اقتضى الأمر استعمال القوة وحد السيف.
ويذكر ابن قتيبة أن الزبير، وبعد مراجعة موقفه من خلافة علي، ومن مجموع الاتهامات الموجهة إليه، دخل على عائشة فقال لها: «إني لعلى باطل(…) وأنا راجع إلى بيتي»[(124)].
وبالرغم من أن عائشة وابنه عبد الله قد حاولا جهدهما ثنيه عن قراره، فقد أصر على رأيه، بل وقفل راجعًا إلى المدينة. وفي طريقه إليها استغفله ابن جرموز فقتله[(125)]. وأما طلحة وعائشة فقد بقيا ثابتين على موقفهما الرافض لبيعة علي إلا بشرط تسليمه قتلة عثمان للقصاص منهم.
إن فشل حل الخلاف بين الأطراف المتنازعة، وانهيار محاولة الصلح وإصلاح ذات البين بينهما، لم يترك أي فرصة أو مجال لدرء الفتنة باعتماد الطرق السلمية، وعجل بأول اقتتال بين المسلمين في التاريخ الإسلامي. وكان ذلك يوم الخميس 10 جمادى الثانية من سنة 36 هـ. حيث دارت في مكان يسمى الخُريبة بضواحي البصرة معركة بين الطرفين عرفت بمعركة الجمل. وقد سميت كذلك لأن عائشة كانت تركب جملاً يدعى «عسكر» عليه هودج من حديد. ويشار هاهنا إلى أن أصحابها ومن كانوا قد وقفوا موقف المعضد والمناصر لموقفها قد سموا بأصحاب الجمل. ويصف لنا ابن قتيبة المعركة حول جمل عائشة فيقول، لقد: «اقتتل القوم قتالاً شديدًا». وكانت عائشة محور القتال والمعركة، إذ: «حماها مروان في عصابة من قيس ومن كنانة وبني أسد، فأحدق بهم علي بن أبي طالب، ومال الناس إلى علي، وكلما وثب رجل يريد الجمل ضربه مروان بالسيف، وقطع يده، حتى قطع نحو عشرين يدًا من أهل المدينة والحجاز والكوفة، حتى أتي مروان من خلفه، فضرب ضربة فوقع، وعرقب الجمل الذي عليه عائشة، وانهزم الناس»[(126)]، فأمر علي بأن لا يقتل مدبر عن المعركة ولا أن يجهز على جريح. و: «كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علي، ونصفهم من أصحاب عائشة (…) وقيل: قتل من أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة خمسة آلاف»[(127)]. وكان من بين القتلى طلحة، وفي رواية أن الزبير كان من بين القتلى: «وأسرت عائشة، وأسر مروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وموسى بن طلحة، وعمرو بن سعيد بن العاص» والكثير من المقاتلين. ثم أتي علي بالأسرى، فدعاهم إلى البيعة، فبايعوا ثم أخلى سبيلهم. فكانت بيعتهم بالإكراه. ويقول ابن قتيبة بهذا الشأن، أنه وبعد أن أسر من أسر من أصحاب الجمل: «قال عمار[بن ياسر] لعلي: يا أمير المؤمنين، اقتل هؤلاء الأسرى. فقال علي: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع [عن نكثه] ونزع [فتيل الفتنة من قلبه]. فدعا علي موسى بن طلحة، فقال الناس: هذا أوَّل قتيل يقتل[من الأسرى]، فلما أتى به علي قال: تبايع وتدخل فيما دخل الناس؟ قال: نعم. فبايع وبايع الجميع، وأخلى سبيلهم»[(128)]. وهكذا بايع أهل البصرة بالإكراه حتى الجرحى والمستأمنة[(129)]. أما عائشة وبعد أن نُقلت إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة وهي أعظم دار بها: «دخل عليهما علي، فسلم وقال:
يا صاحبة الهودج، قد أمرك الله أن تقعدي في بيتك، ثم خرجت تقاتلين. أترحلين؟ قالت أرتحل»، فأمر بإعادتها إلى بيتها بالمدينة[(130)].
هكذا يظهر أن حرب الجمل إنما دارت رحاها أساسًا بين جزء من أهل البصرة مع جزء من أهل الكوفة، أو بعبارة أخرى إنها دارت حصرًا بين أهل العراق الذين كانوا جنودها ومقاتليها؛ أما القيادة السياسية والعسكرية فقد كانت من أهل المدينة، التي شكلت يومها العاصمة الروحية والدينية والسياسية.
وبعد أن انتهت معركة الجمل، وبايع أهل العراق (البصرة والكوفة) واليمن والحجاز ومصر وباقي الأمصار، لعلي بن أبي طالب، خرج من البصرة إلى الكوفة. أما أهل الشام، وأما معاوية بن أبي سفيان الوالي على أهلها منذ زمن خلافة عمر بن الخطاب فلم يبايع لعلي كما قلنا، وقيل إنه لم يتوقف عن تحريض أهل الشام على الطلب بدم عثمان، الذي طالب به هو ابتداء بدعوى أنه واليه أولاً، ومن عشيرته ثانيًا. ولعل هذا ما نهض به عمرو بن العاص الذي تأول النص القرآني من أجل إضفاء الصبغة الشرعية على مطلب معاوية، وذلك عندما استدل على دعواه بقوله تعالى: [(131)].
وهكذا سيستعيد معاوية في صراعه مع علي مطالب ثلاثي حرب الجمل نفسها: عائشة، وطلحة والزبير، أعني بذلك مسألة القصاص من قتلة عثمان، ومسألة شرعية الحكم والسلطة السياسية (الشورى).
ويذكر ابن قتيبة أن النعمان بن بشير كان قد قدم إلى معاوية بالشام، وسلمه كتاب زوجة عثمان نائلة ابنة الفرافصة، وقد كتب بأسلوب رققت فيه وأبلغت، حتى إذا سمعه السامع بكى. وقد ذكرت فيه دخول القوم عليه، وما صنع محمد بن أبي بكر من نتف لحيته. كما سلم النعمان لمعاوية : «قميص عثمان مخضبًا بالدم ممزقًا، وعقدت شعر لحيته في زر القميص»[(132)]. وذكر بعضهم أن: «معاوية صعد المنبر بالشام، وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس [حتى] شهقوا»[(133)]. وبعد أن انتهى من عرض كيفية قتله على جموع الناس: «دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابن عمك، وأنت وليّه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوه أميرًا عليهم»[(134)]. وكتب بعد ذلك إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص فدعاه إلى البيعة، فبايع وأهله معاوية أميرًا عليهم كذلك، فصارت للأمة إمارة بالشام، وخلافة في العراق. وبعد أن توطد لمعاوية الأمر أرسل برسالة إلى علي بن أبي طالب، يتهمه فيها بأنه طمع في الخلافة، فجمع حوله: «طغام أهل الحجاز وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السواد»[(135)]، وأنه من قتل عثمان وطلحة والزبير وشرد بعائشة. فبعث علي جرير بن عبد الله البجليّ إلى الشام حاملاً معه كتابًا إلى معاوية أملاً في إقناعه بالبيعة والجماعة والدخول فيما دخل فيه الأنصار والمهاجرون من طاعة. يقول علي في الكتاب: «زعمت أني قتلت طلحة والزبير، فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره، ولو حضرته لعلمته»[(136)]. ثم: «لعمري لئن كانت قوتي بأهل العراق، أوثق عندي من قوتي بالله ومعرفتي به ليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا»[(137)]. كما أن : «بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا[(138)]، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إمامًا كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين (…)، وإن طلحة والزبير بايعاني بالمدينة، ثم نقضا بيعتهما، فكان نقضهما كردَّتهما، فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحبّ أمورك إليّ العافية، إلا أن تتعرّض للبلاء، فإن تتعرّض للبلاء قاتلتك، واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إليّ، أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان؛ واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء، الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا تعرض فيهم الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة السابقة، فبايع، ولا قوة إلا بالله»[(139)]. ولما بلغ معاوية كتاب علي دعا في طلب عمرو بن العاص والي مصر قبل أن يعزل منها، والذي كان قد خرج من المدينة وقصد الشام زمن حصار عثمان، وبايع معاوية بعد مقتله. ولما حضر إليه استشاره فيما كتبه علي إليه: «فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشام، ويلزم عليًّا دم عثمان، ويقاتله بهم»[(140)]. فكتب معاوية إلى علي بكتاب آخر قال فيه: «إن ما أفسد بيعتك قتلك لعثمان»، وإنه: «لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين. وقد كان أهل الحجاز [خاصة منهم أهل المدينة] الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، ولا حجتك عليّ كحجتك على طلحة والزبير، لأن أهل البصرة بايعوك، ولم يبايعك أحد من أهل الشام، وإن طلحة والزبير بايعاك ولم أبايعك، وأما فضلك في الإسلام، وقرابتك من النبي عليه الصلاة والسلام، فلعمري ما أدفعه ولا أنكره»[(141)]. فرد عليه علي في رسالة جوابية قال له فيها: «زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على الضّلال، ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرت فيلزمني خطيئة عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. (…) وأما قولك ندفع إليك قتلة عثمان، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بعثمان منك، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إليّ (…) وأما ذكرك طلحة والزبير، فلعمري ما الأمر إلا واحد، إنها بيعة عامة، لا ينثني عنها البصير، ولا يستأنف فيها الخيار، وأما ولوعك بي في أمر عثمان، فوالله ما قلت ذلك عن حقّ العيان، ولا عن يقين الخبر، وأما فضلي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وشرفي في قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته»[(142)].
هكذا ردّ علي على معاوية بأن أبناء عثمان أولى بالطلب بدمه من أي أحد كان من أبناء عشيرته، وأن معاوية لا يدخل في الشورى، ولاتحل له الخلافة، لأنه ممن آمن متأخرًا، فهو من رجال إسلام الساعة الأخيرة، وابن رأس الأحزاب، خصم النبي وعدوه، وأن ما اضطلع به من دور في حربه على الإسلام وقتله للمسلمين قبل إسلامه يحول دون مطالبته بالخلافة. وبعبارة علي، إن معاوية إنما يدخل في من أسماهم النبي بالطلقاء الذين غلبوا وعفي عنهم بعد فتح مكة، لذلك فهو من الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعقد عليهم الإمامة، ولا تعرض فيهم الشورى.
لكن ما يجب التأكيد عليه هاهنا أن عليًّا لما أيقن أن معاوية رافض للبيعة، وبلغه أن أهل الشام قد بايعوه أميرًا عليهم، استنفر أهل الحجاز والعراق واليمن ومصر، وخرج من الكوفة إلى الصراة، ثم المدائن، فالأنبار، فالرقة، ثم صفين. وقيل إنه خرج في نحو سبعين ألف مقاتل. واستنفر معاوية من جهته أهل الشام، وسار بحسب ما قيل على رأس ما يزيد بقليل عن ثمانين ألف مقاتل[(143)] حتى نزل بصفين كذلك، وكان لقاؤهما بسهل صفين قرب الرقة في شهر ذي الحجة من سنة 36 هـ، ومكثا بها، أي بصفين، يومين لا يراسل أحدهما الآخر. ولما انطلقت الحرب بين الجيشين، لم تنطلق على شكل حرب مجابهة شاملة بين الجيشين تحسم فيها المعركة في زمن محدود، وإنما كانت المواجهة بينهما على شكل غارات ومناوشات ومبارزات استمرت طيلة شهري ذي الحجة وصفر، ليتم الإعلان في بداية شهر محرم من سنة 37 هـ عن مبادرة وقف الاقتتال. مبادرة أعقبتها هدنة مؤقتة تخللتها مساعٍ حميدة بين الطرفين أملاً في التوصل إلى حل أو اتفاق سلمي بين الطرفين.
وتذكر بعض الروايات أن عليًّا، وفي محاولة منه لإطلاق مبادرة الصلح وتجنب الاقتتال، بادر بإرسال وفد ممثل له إلى معاوية يضم البشير ابن عمر بن محْصَن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشَبَث بن ربعيّ التميمي، يدعونه إلى الطاعة والجماعة، حفاظًا على وحدة الأمة وعدم فرقتها. غير أن إصرار معاوية على موقفه المطالب بدم عثمان ما قوض جهود المبادرة، وأفشل محاولة حل ومعالجة الأزمة بالطرق السلمية. بل إن هذا الوضع سيزداد تأزمًا عندما تبين لعلي أن معاوية قد حسم أمره على القتال حين ردّ عليه وعلى أنصاره بالقول: «ليس بيني وبينكم إلا السيف»[(144)]. وفي محاولة أخرى لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان، وانفلات الوضع من يدي كلا الطرفين، قدم أبو هريرة وأبو الدرداء من حمص على معاوية لإقناعه بالعدول عن قتال علي، ومنازعة حقه في الخلافة، فكان أن رد عليهم بأنه لا يزعم أنه أحق بهذا الأمر من علي، أي إنه لا ينازعه شرعية خلافته، ولكن سيقاتله حتى يدفع إليه قتلة عثمان. فلما أتى أبو هريرة وأبو الدرداء إلى علي قالا له: «إن معاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان، فإن فعلت ثم قاتلك كنا معك. قال علي: أتعرفانهم؟. قالا: نعم. قال: فخذاهم». وتذكر الروايات أنه لما أتى أبو هريرة، وأبو الدرداء إلى: «محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، والأشتر، فقالا: أنتم من قتلة عثمان وقد أمرنا بأخذكم. فخرج إليهما أكثر من عشرة آلاف رجل، فقالوا: نحن قتلنا عثمان، فقالا: نرى أمرًا شديدًا ألبس علينا الرجل»[(145)]. ثم عاد أبو هريرة وأبو الدرداء من حيث أتيا من غير أن يتوصلا إلى إيجاد مخرج سلمي للأزمة. وانهارت بذلك محاولة الصلح الثانية بعد أن فشلت مبادرتهما الشخصية. ليتجدد القتال بعدها بين قوات المعسكرين في صفر من عام 37هـ.
ويذكر ابن قتيبة أن جيوش الطرفين مكثوا بصفين أربعين ليلة يغدون إلى القتال ويروحون. و: «أما القتال الذي كان فيه الفناء فثلاثة أيام»[(146)]. ولما استعرت نار القتال بين مقاتلي المعسكرين، وتبين أنه الهلاك المحقق والإبادة الجماعية لرجال كلا المعسكرين في أطول ليلة عرفت بـ «ليلة الهرير»، بدأت نداءات الاستغاثة تصدر من كلا الجانبين، مطالبة بوضع حد للقتال الذي بات يهدد بفناء ما تبقى من رجال المعسكرين. لكن وبعد أن تواصل القتال، وعاين معاوية ما عاينه من حجم الخسائر الجسيمة في الأرواح بصفوف المعسكرين، ولاحت في الأفق مؤشرات هلاك جماعي محقق، مال باتجاه البحث عن مخرج لوقف الحرب وحل الأزمة بالطرق السلمية، فقام إلى عمرو بن العاص، على ما يقول ابن قتيبة، داعيًا إياه بالعمل على إيجاد حل لهذه الحرب، فكان أن انتهى عمرو إلى اقتراح فكرة رفع المصاحف على الرماح والسيوف ثم يُدعا إلى ما فيها، بأن يقال: «ما فيها حكمٌ بيننا وبينكم». فكان أن استحسن معاوية الرأي والفكرة، ودعا بإحضار المصاحف: «فرفعوها بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله عزّ وجلّ بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام! ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق!»[(147)]. وفي رواية لابن قتيبة أنه نودي بين الصفين: «الله الله في دمائنا ودمائكم، البقية[(148)]. بيننا وبينكم كتاب الله(…) بيننا وبينكم هذا المصحف، ثم تلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ *}[(149)]. فلما رأى علي المصاحف وقد رفعت على الرماح، وأصوات جيش معاوية تتعالى مطالبة بوقف المعارك، واللجوء إلى خيار تحكيم القرآن، أمر بوقف القتال، ثم شرع في استشارة قادة جيشه. غير أن هؤلاء لم يكونوا على رأي واحد، بل كانت آراؤهم متباينة ومتضاربة بهذا الشأن، فمنهم من قال: «نجيب إلى كتاب الله عزّ وجلّ وننيب إليه»[(150)]، وأنه: «قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فاقبل منه»[(151)]. وكان القرّاء[(152)] على هذا الرأي أيضًا أول الأمر، إذ قالوا ومنهم : «مِسْعر بن فدكيّ التميمي، وزيد بن حصين الطائي ثم السّنْبسي، في [عدد] معهما من القراء. الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي، أجب إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ إذْ دعيت إليه»[(153)]. وقال آخرون: «إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة (أي الصلح)». بل قال بعضهم: «لا نرى البقاء إلا في الموادعة»[(154)] وكان هذا الرأي رأي سعيد بن قيس زعيم الهمدانيين، ورؤساء قبيلة ربيعة، فضلاً عن: «الأشعث (…) وأشراف أهل اليمن [ممن] ركنوا إلى الصلح، وكرهوا القتال»[(155)]. وتؤكد بعض الروايات أن علي بن أبي طالب كان قد رفض التحكيم أول الأمر ناصحًا جيشه بعدم التراجع عن خيار الحرب لكون ما لجأ إليه جيش معاوية من رفع المصاحف على الرماح ليس: «إلا خديعة ودهنًا ومكيدة». إذ قال علي: «فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم»[(156)].
هكذا التقت دعوة معاوية، ومن ورائه أهل الشام، برأي ودعوة غالبية جيش علي وعلى رأسهم الأشعث، وسفيان بن ثور، وخالد بن معمر، وغيرهم ممن دعوا إلى وجوب الاستجابة لدعوة التحكيم إلى كتاب الله. لكن في مقابل هذا الرأي من بعض أنصار علي كان هناك رأي آخر مضاد من جانب بعضهم الآخر يدعون فيه إلى دفع التحكيم، وعدم وقف الحرب، ووجوب مواصلة القتال. ويذكر الشهرستاني بهذه المناسبة أن : «عروة بن جدير (…) أقبل على الأشعث بن قيس فقال: ما هذه الدَّنِيَّة يا أشعث؟ وما هذا التحكيم؟ أشَرْطُ أحدكم أوثق من شرط الله تعالى؟!»[(157)]. وقد كان من أبرز دعاة هذا الرأي: رأي عدم وقف الحرب ومواصلة القتال، الأشتر، وعدي بن حاتم، وحريث بن جابر، وعثمان بن حنيف، والأحنف بن قيس وعمير بن عطارد وغيرهم[(158)]. وبين هؤلاء وأولئك كانت ثمة فئة ثالثة لم تَنْجَر لأي طرفٍ من الأطراف المتصارعة، وفضلت الاعتزال والحياد. بل إن هناك من أحجم عن إبداء أي رأي كان، ورَكَنَ إلى تفويض الأمر لعلي بالحرب أو بالسلم، من هؤلاء الحصين بن المنذر، وعبد الله بن حجل وغيرهما.
هكذا تمكن معاوية، ومن ورائه عمرو بن العاص، من إحداث تصدع عميق في وحدة رأي جيش علي وأهل العراق من الحرب، لكنه تصدع لم يبلغ حد شق وتقسيم وحدة صف الجبهة العراقية. أما علي، وأمام حجم الضغوط التي وجد نفسه وجهًا لوجه أمامها، خصوصًا تلك التي تلقاها من جانب القراء، فلم يجد بدًّا من التنازل عن دعوته لمواصلة القتال، والقبول بدعوة التحكيم، مبررًا ذلك بقوله لدعاة وقف الاقتتال: «ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون»[(159)]. بعبارة أخرى، إن عليًّا لم يجد أمام تيار وكتلة دعاة التحكيم خيارًا آخر غير مجاراته فيما يدعو إليه. والظاهر أنه كان التيار الأقوى والأوسع بين التيارات الأخرى، وإلا لما كان لإذعان علي لهذا التيار أي مبرر أو تفسير منطقي. وفي رواية أخرى إن عليًّا قد جنح إلى السلم والصلح والموادعة وقبول التحكيم منذ الوهلة الأولى. ومهما يكن من أمر فقد أرسل علي الأشعث بن قيس إلى معاوية ليبحث معه آلية الاحتكام إلى ما في كتاب الله. فكان مقترح معاوية أن قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله عزَّ وجلَّ به في كتابه، تبعثون منكم رجلاً ترضون به، ونبعث منا رجلاً، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدُوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه»[(160)]. وفي رواية ابن قتيبة أن معاوية قال: «إن كتاب الله لا ينطق، ولكن نبعث رجلاً منا ورجلاً منكم، فيحكمان بما فيه». وكان رد علي بأن قال: «قبلت ذلك»[(161)]. وتذكر المصادر أن عليًّا عين أول الأمر عبد الله بن عباس، كممثل له ولأهل العراق في التحكيم. غير أن هذا التعيين من علي لقي معارضة شديدة من قبل شخصيات قيادية بالمعسكرالعراقي، مثل الأشعث بن قيس، وزيد بن حُصين الطائي، ومسعر بن فدكيّ وغيرهم ممن صاروا بعد ذلك خوارج كما قلنا. وشدَّدُوا على وجوب تنصيب أبي موسى الأشعري كممثل لهم في التحكيم، وذلك بعد أن قالوا لعلي: إنما عبد الله بن عباس منك، ونحن: «لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء»[(162)]. ومعلوم أن أبا موسى قد رفض الخروج إلى علي بذي قار عندما كان واليًا على الكوفة، كما رفض استنفار أهل الكوفة، بل أثبطهم عنه في حرب الجمل عندما طلب منه ذلك، مما دفع بعلي بن أبي طالب إلى عزله عن منصبه. كما أنه وعشية اندلاع حرب صفين عرف أبو موسى بحياده واعتزاله الأمر[(163)]. وبالرغم من كل هذا لم يجد علي مرة أخرى بُدًّا من التنازل لتيار دعاة التحكيم ورفض الاقتتال، بتنصيب أبي موسى الأشعري. وأما معاوية بن أبي سفيان ومن ورائه أهل الشام فقد عين لهذه المهمة حليفه عمرو بن العاص، وتراضى الطرفان على أن يجتمع الرجلان: عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري بدومة الجندل. ولما جاء الأجل، واجتمع الطرفان لصياغة وثيقة التحكيم، رفض عمرو بن العاص كتابة اسم «أمير المؤمنين» مقرونة باسم علي، بدعوى أن أهل الشام لا يقرون له بالخلافة. فكان أن وافق علي على ذلك، اقتداء بالنبي يوم الحديبية عندما اعترض الكفار على تسميته «رسول الله» فمحاها الرسول بيده. يقول الطبري، حينما كتبوا: «باسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين…. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم فأما أميرنا فلا، وقال له الأحنف: لا تمح اسم «إمارة المؤمنين»، فإني أتخوف إن محوتَها ألاّ ترجع إليك أبدًا، لا تمحُها وإن قتل الناس بعضهم بعضًا؛ فأبى ذلك علي مليًّا من النهار، ثم إن الأشعث بن قيس قال: امح هذا الاسم برحه الله! فمُحيَ. وقال علي: الله أكبر، سنّة بسنّة، ومثل بمثل، والله إني لكاتب بين يدي رسول الله يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله، ولا نشهد لك به، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فكتبه»[(164)].
هكذا إذن، دوِّنت وثيقة التحكيم التي جاءت مرفوقة بشروط، في صحيفة كتبها الحكمان، دون أن تتضمن لقب أمير المؤمنين لعلي بن أبي طالب، فكان أن نقم الخوارج على علي لقبوله محو إمرة المؤمنين على اسمه في الكتاب[(165)]. تقول الصحيفة بعد البسملة: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله عزَّ وجلَّ وكتابه، ولا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نُحيي ما أحيا، ونُميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله عزَّ وجلَّ ـ وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي ـ عَمِلا به، وما لم يجدا في كتاب الله عزَّ وجلَّ فالسنة العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة من الناس، أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لها أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهدُ الله وميثاقه أنّا على ما في هذه الصحيفة، وأن قد وجبتْ قضيتهما على المؤمنين، فإن الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة، ولايرُدّاها في حرب ولا فرقة حتى يُعصيا، وأجَلُ القضاء إلى رمضان. وإن أحبّا أن يُؤخِّرا ذلك أخراه على تراض منهما، وإن توفي أحد الحكمين فإن أمير الشيعة يختار مكانه، ولا يألو من أهل المعدلة والقسط، وإن مكان قضيّتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام؛ وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة، وهم أنصارٌ على من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيه إلحادًا وظلمًا. اللَّهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة»[(166)].
وقد كتبت، أي الصحيفة، يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه[(167)]. والملاحظ أن الصحيفة لم تتضمن أي إشارة لجوهر الخلاف والصراع بين معاوية وعلي، والمتمثل أساسًا في القصاص من قتلة عثمان.
هذا وقد شهد على هذه الصحيفة أهل الصلح والموادعة من أصحاب علي، مثل:الأشعث بن قيس الكندي، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن قيس الهمداني، وورقاء بن سُميّ البَجَليّ، وعبد الله بن مُحِلّ العِجليّ، وحُجْر بن عديّ الكنديّ، وعبد الله بن الطفيل العامريّ، وعقبة بن زياد الحضرمي، ويزيد بن حجيّة التيميّ، ومالك بن كعب الهمداني. ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلميّ عمرو بن سفيان، وحبيب مسلمة الفهريّ، والمخارق بن الحارث الزُّبيديّ، وزمْل بن عمرو العذريّ، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد المخزومي، وسُبيع بن يزيد الأنصاري، وعلقمة بن يزيد الأنصاري، وعُتبة بن أبي سفيان، ويزيد ابن الحرّ العبسي[(168)]. وأما المعارضون لها من أصحاب علي، فلم يشهد أي أحد منهم عليها.
وبعد أن كتبت الصحيفة وشهد من شهد عليها من الشهود من الطرفين، تفرق أهل صفين بعد أن اشترط فيها الحكمان كما جاء فوق: «أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد ، وأنهما يجتمعان بدُومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرُح»[(169)]. وأثناء عودة معسكر أهل العراق إلى الكوفة احْتَدَّ النقاش والسجال والخلاف بين مكوناته بشأن التحكيم، خلاف قال فيه الطبري، لقد: «خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادُّون أحبّاء، فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من معسكرهم بصفين حتى فَشَا فيهم التحكيم، ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط»[(170)].
وما بين لحظة إقرار التحكيم والانتهاء من صياغة الصحيفة والإشهاد عليها، ولحظة تفرق المعسكرين وعودة علي ومن معه إلى الكوفة، استطاع الرافضون للتحكيم استقطاب عدد كبير من القراء إلى صفهم، وما كادوا يشرفون على تخوم الكوفة حتى صار تعدادهم بنحو اثني عشر ألفًا، فنزلوا بقرية من قرى الكوفة يقال لها حروراء، واعتزلوا أول الأمر عليًّا، وسموا بذلك بالحرُورِيَّة، قبل أن يسموا فيما بعد بالخوارج[(171)]. بينما دخلت فئة أخرى منهم الكوفة لتستقر بها، وقيل إنها عادت إلى حروراء بعد شهور معدودة. وأما من بَقِيَ من الجيش مع علي ممن أيدوا فكرة التحكيم، ومعالجة الأزمة بالطرق السلمية، حقْنًا لدماء المسلمين، وصَوْنًا لوحدتهم ووحدة الأمة، فقد دخلوا رُفقة علي الكوفة، وعرفوا باسم الشيعة، لمُشايعتِهم له ـ أي لتأييدهم ومُناصرتِهم له ـ وبقائهم على بيعته. وبالرغم من محاولات علي العديدة لثني الخوارج عن قرارهم، ودعوتهم بالعودة إلى صفوفه، فقد رفضوا واشترطوا لأجل ذلك التخلي عن التحكيم والعودة إلى القتال بدعوى أنه «لاحكم إلا لله»، حيث قال: «عروة بن أدّية: أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه الرجال. لا حكم إلا لله، فكان أول من قالها وحكم بها»[(172)]. وهذا معناه أن أي تحكيم للناس أو لبشر إنما هو برأيهم إقصاء للقرآن ولحكم الله الشرعي، وما يعنيه ذلك من إنكار لله. وقد ردّ علي على هذه الدعوى بالقول: «كلمة حق أريد بها باطل». نعم إنه لا حُكمَ إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمْرَة إلا لله، و[الحال] أنه لا بدَّ للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر، يَعملُ في إمْرَتِه المؤمنُ، ويستمتعُ فيها الكافرُ، ويُبَلِّغُ الله فيها الأجَلَ، ويُجمَعُ به الفيءُ، ويُقاتَلُ به العدوُّ، وتَأمَنُ به السُّبُلُ، ويُؤخَذُ به للضّعيف من القوي حتى يَستريحَ به برٌّ، ويُسْتراحَ من فاجر»[(173)].
ويذكر الطبري أن عليًّا لما بلغه: «أن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة، ولا يرى إلا قتال القوم؛ قال علي: وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيتُ، فإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرّضا، ولا التبديل بعد الإقرار»[(174)].
6 ـ خلافة معاوية وتحول علي من صاحب سلطة إلى قائد نزاع مسلح
وتذكر المصادر أن الحكمين اجتمعا بدومة الجندل[(175)]، وضم وفد أهل الشام أربعمئة رجل، ونفسه ضمه وفد أهل العراق بحسب شروط الاتفاق الواردة بوثيقة التحكيم. ويذكر الطبري: «أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدُومة الجندل، أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، يقول: إنك صاحب رسول الله ، وأنت أسنّ مني، فَتَكَلَّم وأتكلّم. فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اغتزى بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع علي. [ثم شرعا في] النظر في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد موسى عمرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه، فقال له عمرو: خبّرني ما رأيك؟ قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا. فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال يا أبا موسى، أعلِمْهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق(…) فتقدم أبو موسى فحمد الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نَرَ أصلح لأمرها، ولا ألمّ لشَعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً؛ ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبتُ صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه»[(176)]. عندها أدرك أبو موسى الشراك المحكم الذي وقع فيه، والحيلة المحبوكة التي انطلت عليه، لكن الأمر كان قد قضي، فانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وقفل ابن عباس وشريح بن هانئ راجعين إلى علي، بينما لحق أبو موسى بمكة، وتمّ تحميله المسؤولية المباشرة لما آلت إليه الجبهة الداخلية العراقية، وهو ما يعني تبرئة علي من الانتقادات التي وجهت إليه، خصوصًا من قبل الخوارج[(177)]. والمفارقة الغريبة أن التحكيم لم يكن موضوعه سبب أو أسباب النزاع الأصلي، أي إنه لم يكن حول ما إذا كان على علي وجوب دفع قتلة عثمان أم لا، ولا حول وجوب بيعة معاوية لعلي أم لا، وإنما دار التحكيم، على خلاف ذلك، حول من يكون الأحق بالخلافة. والمفارقة الأخرى العجيبة أن معاوية بعدما آل إليه الأمر عقب التحكيم لم يتابع علي بتهمة إيواء قتلة عثمان والتستر عليهم، ولا طالب بدمه أو القصاص من قتلته كما طالب به قبل التحكيم، وإنما عاد إلى الشام لتثبيت سلطته وعينه على العراق مترقبًا الوضع السياسي المتفجر هناك، وهذا ما يفيد أن صراعه مع علي لم تكن تحكمه بالذات هذه الخلفية، خلفية المطالبة بدم عثمان، بقدر ما حكمته خلفية أخرى هي خلفية السلطة السياسية العليا، سلطة انتهت إليه من خلال مجلس مكون من عنصرين، لا يمكن أن يشكلا بمفردهما مجلسًا للشورى على ما ذهب إليه عدد من المتكلمة والأصوليين كما سنرى في موضعه.
هذا، ويذكر أنه ما إن انتهى الأمر بين الحكمين إلى ما انتهى إليه، حتى انقسم جيش علي على نفسه، نهائيًّا، إلى ثلاث مجموعات أو فرق: الأولى اعتزلت وحادت بنفسها كليًّا عن الصراع، والثانية هي فرقة الشيعة الذين سيُجدِّدون لعلي البيعة بالكوفة. والثالثة هي فرقة الخوارج الذين انشقوا عن علي وعن شيعته، مُشكِّلين بذلك أول حزب سياسي معارض في تاريخ الإسلام سيعرف باسمهم، أي باسم الخوارج. بعبارة أخرى إن الخوارج تشكّلت كحركة سياسية انفصالية عن الشيعة عقب الانتهاء من عملية التحكيم، بعد أن كفروا عليًّا وشيعته من أهل الكوفة وخرجوا عنهم، كما خرجوا من الكوفة ذاتها وهاجروا منها بعد أن اعتبروها دار كفر، وذلك تشبها بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، وقالوا: «إننا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة»[(178)]. وتذكر الروايات أنهم اجتمعوا في منزل عبد الله بن وهبة الراسبي في شوال من عام 37 هـ، فقال لهم: «اخرجوا بنا من هذه القرية الظالمة[الكوفة] أهلها، إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدعة المضلة[بدعة التحكيم، وما انتهت إليه من] الأحكام الجائرة». ويذكر ابن قتيبة أن حرقوص بن زهير، أحد المشاركين في قتل عثمان، قد خطب أيضًا في الخوارج، فقال بهذه المناسبة: «إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلوينكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون». وقال حمزة بن سنان الأسدي: «يا قوم، إن الرأي ما قد رأيتم، والحق ما قد ذكرتم، فوَلُّوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بدَّ من عماد وسناد [أي أمير]، ومن راية تحفون حولها، وترجعون إليها»[(179)]. ثم اجتمع الخوارج مرة أخرى بمنزل زيد بن حصين الطائي، وكان في الواقع اجتماعًا حاسما، تمّ فيه بيعتهم بالإمامة لعبد الله بن وهب الراسبي[(180)]. وحددت فيه المبادئ الأولى لأيديولوجية الفرقة، والخطوط العريضة لاستراتيجيتها السياسية. إذ قالوا: «إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، والجهاد في تقويم السبيل، وقد قال عزَّ وجلَّ لنبيه عليه الصلاة والسلام: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}[(181)]. وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *}[(182)]. فاشهدوا على أهل دعوتنا (الشيعة) أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم القرآن، وجاروا في الحكم (التحكيم) والعمل، وأن جهادهم على المؤمنين فرض، وأقسم بالذي تعنو له الوجوه، وتخشع دونه الأبصار، لو لم يكن أحد على تغيير المنكر (وهو القبول بالتحكيم وبنتيجته)، وقتال القاسطين مساعدًا، لقاتلتهم وحدي فردًا، حتى ألقى الله ربي، فيرى أني قد غيرت إرادة رضوانه بلساني. يا إخواننا، اضربوا جباههم ووجوههم بالسيف، حتى يطاع الرحمن عزّ وجل، فإن يطع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له، الآمرين بأمره، وإن قُتلتم فأيّ شيء أعظم من المسير إلى رضوان الله وجنته. واعلموا أن هؤلاء القوم خرجوا لإقصاء حكم الضلالة، فاخرجوا بنا إلى بلد نتعد فيه الاجتماع من مكاننا هذا، فإنكم قد أصبحتم بنعمة ربكم، وأنتم أهل الحق بين الخلق، إذ قلتم بالحق، وصمدتم لقول الصدق، فاخرجوا بنا إلى المدائن نسكنها فنأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا»[(183)]. غير أن يزيد بن حصين الطائي كان له رأي آخر غير هذا الرأي قال فيه: «إن المدائن بها قوم يمنعونكم منها، ويمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة»[(184)]. فكتبوا إليهم، وقد جاء الكتاب بما نصه: «إن أهل دعوتنا (الشيعة) حكموا الرجال في أمر الله (الخلافة)، ورضوا بحكم القاسطين على عباده، فخالفناهم ونابذناهم. نريد بذلك الوسيلة إلى الله، وقد قعدنا بجسر النهروان، وأحببنا إعلامكم لتأخذوا بنصيبكم من الأجر». وكان جواب أهل البصرة، لقد: «وهبنا لكم الرأي الذي جمعكم الله عليه من الطاعة، وإخلاص الحكم لله، وإعمالكم أنفسكم فيما يجمع الله به كلمتكم، وقد أجمعنا على المسير إليكم عاجلاً»[(185)]. ثم خرج جميع الخوارج ونزلوا بالنهروان.
وفي الوقت الذي كانت فيه الخوارج تتشكل كفرقة وكتيار سياسي وأيديولوجي معارض لعلي ولشيعته عمومًا، كان علي يجاهد من أجل تجاوز آثار التحكيم ونتائجه المخيبة للأمل، ويحاول جمع لحمة صفه أملاً في أن يعود إلى ما كان عليه قبل التحكيم.
هذا، ويذكر أن مما أقدم عليه علي أول الأمر، أنه نهض مخاطبًا في أهل الكوفة ـ والكلام موجه هنا للخوارج ـ بأن بيّن أنهم كانوا أول من دعا إلى وقف القتال واللجوء للتحكيم، وأنهم اليوم تراجعوا عن رأيهم الأول ذاك وعادوا يطالبون بإلغاء التحكيم ومواصلة القتال. ثم قال: «قد كنت أمرتكم في هذين الرجلين(عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري)، وفي هذه الحكومة بأمري، فأبيتم إلا ما أردتم، فأحييا ما أمات القرآن، وأماتا ما أحياه القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، يحكم بغير حجة، ولا سنة ظاهرة، واختلفا في أمرهما وحكمهما، فكلاهما لم يرشد الله، فبرئ الله منهما ورسوله وصالحو المؤمنين، فاستعدوا للجهاد، وتأهبوا للمسير [إلى معاوية بالشام]، ثم أصبحوا في معسكركم يوم الاثنين بالنخيلة، وإنما حَكَّمْنا من حَكَّمْنا، ليحكما بالكتاب، فقد علمتم أنهما حكما بغير الكتاب، وبغير السنة، ووالله لأغزونهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم»[(186)].
ثم كتب إلى الخوارج بالنهروان برسالة هذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس. أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضَيْنا حكمهما قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدًى من الله، فلم يعملا بالسُّنة، ولم ينفّذا للقرآن حُكمًا، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون! فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوّكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه. والسلام»[(187)].
هكذا حاول علي رأب الصدع، ولمّ شتات صف جيشه، بدعوته للخوارج إلى عدم الخروج والانشقاق عليه وعلى شيعته. منتهيًا إلى إبطال نتيجة التحكيم، وإصراره على عدم شرعيتها، وذلك بمبرر أن الحكمين احتكما إلى هواهما لا إلى القرآن، ولا إلى سنة الرسول . لأجل ذلك بطلت خلافة معاوية، وبطلت وسقطت كل شرعية عنها، وبالتالي فإن قتاله أصبح أمرًا واجبًا بموجب الحكم الشرعي. لكن الخوارج لم يستجيبوا لدعوته، وردوا على كتابه بكتاب آخر جاء فيه: «.. أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدتَ على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذْناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين»[(188)]. ولما قرأ علي الكتاب، وأيقن أن لا عودة للخوارج إلى صفه، قرر أن يزحف بمعية ما تبقى من جيشه إلى الشام قاصدًا معاوية، فنزل بالنخيلة التي تبعد بنحو ميلين عن الكوفة، وكتب إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة ليرسل إليه مقاتليها، فاستنفر له ثلاثة آلاف ومئتي رجل. ويذكر الطبري أن عليًّا استطاع أن يجمع إليه من : «العرب سبعة وخمسين ألفًا من أهل الكوفة، ومن مواليهم ومماليكهم ثمانية آلاف، وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفًا، وثلاثة آلاف ومئتي رجل من أهل البصرة، وكان جميع من معه ثمانية وستين ألفًا ومئتي رجل»[(189)]. بعدها خرج من النخيلة إلى الصراة، قاصدًا المدائن، فالأنبار، فالرقة، ثم صفين.
وفي الوقت الذي علم فيه معاوية بمسير علي إليه، وفراغه من تجهيز جيشه، ثم خروجه ونزوله بصفين حتى قبل وصول علي إليها، في هذا الوقت بالذات، تسربت الفُرقة إلى جيش علي ثانية لينقسم على نفسه إلى رأيين: رأي يدعو إلى المسير لقتال معاوية أولاً، ورأي آخر يدعو بالبدء بقتال الخوارج الذين بثوا الرعب والذعر وسط الناس من خلال قيامهم بعمليات قتل واستعراض أعداد من المسلمين رجالاً ونساء، وبالتالي ذبح كل مسلم بدا لهم أنه مخالف لهم في الرأي، أو أنه على غير مذهبهم الذي اعتبروه أنه وحده على حق، وأنهم بالتالي أهل حق وعدل، وما سواهم أهل كفر وغي وباطل. وأمام هذين الرأيين اللذين كادا أن يشقا وحدة صف جيشه، لم يجد الرجل بدًّا من التدخل والقيام خطيبًا فيهم، محاولاً جمع كلمتهم على أمر واحد، فقال: «قد بلغني قولكم، لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة (يعني الخوارج) التي خرجت علينا، فبدأنا بهم، إلا أن غير هذه الخارجة أهمّ على أمير المؤمنين، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكًا، ويتخذهم المؤمنون أربابًا، ويتخذون عباد الله خَوَلاً، ودعوا [عنكم] ذكر الخوارج»[(190)].
ولما سمع شيعة علي بهذا الكلام تراجع بعضهم ممن قال بالبدء بقتال الخوارج، وفوضوا الأمر لعلي عندما قالوا له: «سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت فنحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاداك، ونشايع من أناب إليك وإلى طاعتك، فسر بنا إلى عدوّك، كائنًا من كان، فإنك لن توتى من قلة ولا ضعف، فإن قلوب شيعتك كقلب رجل واحد في الاجتماع على نصرتك، والجدّ في جهاد عدوّك، فأبشر يا أمير المؤمنين بالنصر، وأشخص إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك التي ترجو في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب من الله، وتخاف من الله في خذلانك، والمتخلف عنك شديد الوبال»[(191)].
لكن ما إن خرج علي بجيشه وشيعته وعبر الجسر: «ونزل بدير أبي موسى، على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار» حتى بلغ إليه خبر مفاده أن الخوارج اعترضوا سبيل عبد الله بن خباب بن الأرتّ، صاحب رسول الله فذبحوه، ثم أقبلوا إلى امرأته، فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاثة نسوة من طيئ، فيهم أم سنان، وقد صحبت النبي عليه الصلاة والسلام[(192)]. فبعث علي إلى الخوارج بالحارث بن مرّة العبدي ليستفسرهم في الأمر. لكن ما أن وصل إليهم الحارث حتى خرجوا إليه فقتلوه. عندها انتفضت شيعة علي ثانية فقالوا له: «يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا، سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام»[(193)]. فما كان من علي إلاَّ أن سار ومن معه حتى نزل المدائن، ثم خرج حتى أتى النهروان حيث ينزل الخوارج، فبعث إليهم بأن يدفعوا إليه القتلة، فكان جوابهم، إننا: «كلنا مستحّل لدمائكم ودمائهم»[(194)]. أي لدماء شيعة علي ولدماء أهل الشام. أما أهل الشام فلأنهم يمثلون برأي الخوارج «الفئة الباغية» التي أمر الله في القرآن بقتالها، ولا يمكن لأي كان أن يلغي حكم الله في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا}[(195)]. وأنه بالتالي لا يمكن أن تقوم أي هدنة مع أهل الشام لأنهم دار كفر، ودار حرب. وأما علي وشيعته، فوجب قتالهم كذلك، وذلك لكون علي قد ارتد عن دينه عندما تنازل عن الخلافة التي بايعه عليها عامة المسلمين، وقاتلوا من أجلها البغاة في حرب الجمل وصفين التي استشهد فيها صحابة أجلاء لرسول الله . لذلك فعلى علي، بعد صريح ردته، أن يعلن توبته، ويقلع نهائيًّا عن التحكيم، ويقاتل بعد ذلك عدوه وعدونا معاوية ومن معه من أهل الشام.
هكذا ستُقِرُّ الخوارج بموالاتها وتشيعها لعلي قبل التحكيم، لتخرج عنه، وتتبرأ منه، وتكفره بعده. كما أقرَّت بموالاتها لعثمان في الست سنوات الأولى من خلافته، بينما لم تقر إلا بخلافة أبي بكر وعمر فقط. وأما معاوية، فقد تبرأت منه وكفرته[(196)].
هكذا شرعن الخوارج لسفك وإراقة الدماء، معتبرين نهجهم الدموي هذا نهجًا وواجبًا دينيًّا بحكم الشرع، وهكذا كذلك حول الخوارج معاوية، ومعه أهل الشام المنازعين للسلطة السياسية لعلي، إلى فرقة باغية يستوجب قتالها، كما حولوا قبول علي للتحكيم ـ بما هو في طبيعته خطأ سياسي سَوَّى بين الخليفة ومجرد أمير (معاوية) ـ إلى انتهاك لحكم من الأحكام الشرعية، وبتعبير الشهرستاني: «تخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير»[(197)]. فكان جوابهم لعلي، كما قلنا، خلاصة حكم ديني على أمر سياسي، وهو قولهم له : «كلنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم». وبالرغم من جوابهم وردهم هذا المصاغ بأسلوب بالغ في التحدي لعلي ولمعاوية على السواء، فإن علي بن أبي طالب لم يألُ جهدًا من تحذيرهم وتقديم النصح لهم؛ قائلاً لهم في وضوح تام: «إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدًا صرعى بأثناء هذا النهر، (…) بغير بينة من ربكم، ولا برهان بيّن. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة (أي التحكيم)، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم وهن ومكيدة لكم! ونبّأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالاً ورجالاً، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم! فعصيتموني، حتى أقررت بأن حكّمتُ، فلما فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسُّنة، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول»[(198)]. فكان أن رد الخوارج على كلام علي هذا بالقول: «إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبتَ كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء»[(199)]. ولما فشلت كل جهود الوساطة، واستعصى على علي إقناع الخوارج بدفع قاتلي رسوله الحارث بن مرّة العبدي إليه، والعدول عما أجمعوا عليه، رجع إلى شيعته ليزحف بهم باتجاه النهروان لقتالهم. ويذكر ابن قتيبة أن عليًّا حثّ جيشه وشيعته الذين كانوا في نحو أربعة آلاف مقاتل بأن لا يبادروا بالحرب حتى يكون منهم البدء. وبالفعل أقبلت الخوارج حتى إذا دنوا من الناس تنادوا: «الرواح الرواح إلى الجنة»[(200)]، وشدّوا على أصحاب علي شدّة رجل واحد. ودار بينهما قتال طاحن، وكان جيش علي الطرف الحاسم للمعركة، حيث انتصر بعد أن سحق الخوارج، وقتل إمامهم عبد الله بن وهب الراسبي، وكان ذلك سنة 37 هـ[(201)]. وفي هذه السنة قامت الخوارج بسبع ثورات، لكن جميع الثورات السبع التي اندلعت حتى عام 38 هـ، قبيل مقتل علي، وصفت من قبل الطبري بكونها كانت محدودة التأثير، لقلة أعداد أتباعهم وتفرقهم وتجزئتهم، بل وانتشار الخلافات بينهم، وعدم وجود تنسيق بينهم، ما عدا ذلك التشابه على مستوى المبادئ والشعارات[(202)].
وتشير بعض المصادر إلى أن انتصار علي بالنهروان، كان أحد أهم العوامل وراء انهيار جيشه، وبالتالي انهيار المشروع العراقي في تثبيت دعائم الخلافة بالكوفة، وإعادة وحدة الأمة، والقضاء على ما كان يعتبر خلافة لاشرعية بالشام. إذ ما إن انتهت معركة النهروان التي كانت في الأصل حربًا داخلية بين علي وأنصاره السابقين، ما إن انتهت هذه المعركة، حتى تفجرت تناقضات داخلية كبيرة في صفوف جيش علي وشيعته، تناقضات ترتبت في جانب كبير منها عن كون معظم الخوارج إنما كانوا من أبناء الكوفة التي ينحدر منها معظم هذا الجيش، وبالتالي فإن من قتل منهم في النهروان إنما هم أهل مدينتهم وإخوانهم وأبناؤهم وأبناء عمومتهم وأقاربهم، فكان أن خلفت تلك المعركة غير المتكافئة مجزرة كبيرة تولد عنها في صفوف هذا الجيش نوعًا من التدمر والاستياء وتأنيب الضمير وسيادة الشعور بالذنب، شعور سيدفع عناصر هذا الجيش إلى أن تكون في حِلٍّ من أي التزام لمواصلة القتال إلى جانب علي. يقول الطبري: «لما قتل علي أهل النهروان، خالفه قوم كثير، وانتفضت عليه أطرافه، وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي البصرة، وانتفض أهلُ الأهواز، وطَمِع أهلُ الخراج في كسرِه، ثم أخرجوا سهل بن حُنَيف من فارس، وكان عامل علي عليها»[(203)].
هذا، وتذكر الروايات أن عليًّا لما همّ بمغادرة النهروان أقدم فخطب في جيشه بخطبة دعاهم فيها إلى استجماع قواهم من أجل النهوض لقتال معاوية فقال: «إن الله قد أحسن بلاءكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم»[(204)]. لكن هذه الخطبة لم تلق أي صدى لدى قوات جيشه التي دعته للرجوع بهم إلى الكوفة، متذرعة بذرائع متصلة بعدّتهم وجهوزيتهم العسكرية والحربية، إذ قالوا: «يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا، وكلت أذرعنا، وتقطعت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا فأحسن عدّتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدّتنا عدّة، فإن ذلك أقوى لنا على عدوّنا»[(205)]. فما كان أمام علي إلا الاستجابة وتلبية الدعوة والطلب، فرجع بهم حتى نزل بالنخيلة فعسكر بها، وأمر جيشه وشيعته أن يلزموا معه المعسكر، ويقللوا من زيارة أبنائهم ونسائهم في انتظار يوم المسير إلى معاوية بالشام. لكن العكس ما حصل. إذ ما إن أقاموا معه أيامًا معدودة حتى شرعوا في التسلل والدخول إلى الكوفة، فانصرف بعضهم إلى ما انصرف إليه من مشاغل، وركن بعضهم الآخر ببيوتهم إلى نسائهم وأبنائهم، وترك المعسكر خاليًا إلا من علي وعدد قليل من وجوه الناس[(206)]. وبالرغم من المحاولات العديدة والمتكررة لعلي لإعادة جمعهم وشحذ هممهم وتحريضهم على قتال معاوية، فإنه في نهاية الأمر لم يتمكن من ذلك، فكان أن تداعى جيشه، وانفض أنصاره وشيعته من حوله، حتى إنه لم يبق من أشياعه الذين خانوه وخذلوه إلا القليل القليل من الرؤساء والأشراف، اضطر معهم الرجوع إلى الكوفة، والاستنكاف عن المسير لقتال معاوية.
وتشهد المصادر الشيعية نفسها عن صور تغرير أهل الكوفة وشيعة العراق عمومًا بعلي بن أبي طالب، وعدم طاعتهم له، وكذبهم عليه، وخذلانهم له، حيث يقول فيهم علي بن أبي طالب نفسه: «يا [شيعة] أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحاملِ، حَمَلَتْ فلما أتَمّتْ أَمْلَصَتْ (أي ألقت ولدها ميتًا)، وماتَ قيِّمُها وطالَ تَأَيُّمُها، وَوَرِثها أبْعَدُها. أما والله ما أتَيْتُكُمْ اختيارًا، ولكن جئتُ إليكُم سَوْقًا، ولقد بلغني أنكم تقولون عليّ يَكذِبُ، قاتلكم الله فعلى من أكذِبُ. أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أمْ على نبيّه؟ فأنا أول من صدّقه؟ كلاّ والله لكنها لهْجَةٌ غِبتُمْ عنها، ولم تكونوا من أهلها. وَيْلَ أُمةٍ كَيْلاً بغير ثمنٍ لو كان له وِعاء {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ *}»[(207)]. ثم قال فيهم: «منيتُ بمن لا يُطيعُ إذا أمَرتُ، ولا يُجيبُ إذا دَعوتُ، لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركُم ربَّكم، أما دينٌ يَجمعُكم، ولا حميّة تُحْمِشُكُم (أي تغضبكم)، أقومُ فيكم مُستصْرخًا، وأناديكم مُتَغَوِّثًا، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تَكشَّفَ الأمور عن عواقب المَسَاءَةِ، فما يُدرَكُ بكم ثأر ولا يُبْلَغُ بكم مَرامٌ. دَعوتكم إلى نَصْرِ إخوانكم فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الجَمَل الأسَرِّ، وتَثَاقلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الأَدْبَرِ، ثم خَرجَ إلَيَّ مِنكم جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضعيف، كأنَّما يُساقُون إلى الموت وهم يَنظُرون»[(208)].
وقال علي في مدحه لأهل الشام وهجائه وذمه لشيعته بالعراق حين تفرّقوا من حوله، ثم طغوا عليه حتى أصبح يَخشى ظلمهم وعدوانهم: «لقد أصبحتِ الأمَمُ (يعني الحكّام والملوك) تخاف رُعاتها، وأصبحتُ [أنا] أخافُ ظلم رَعيّتي. استنفرتُكم للجهاد فلم تَنْفِروا، وأسمعتُكُم فلم تسمعوا، ودعوتُكُم سرًّا وجهرًا فلم تستجيبوا، ونَصحتُ لكُم فلم تَقبلوا، أشُهودٌ كغُيّابٍ، وعبيدٌ كأربابٍ؟ أتلو عليكم الحِكَمَ فتنفرون منها، وأعِظكُم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، وأحثُّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكُم متفرِّقين أيادي سبأ، ترجعون إلى مجالسكُم وتتخادعون عن مواعظكُم. أقوِّمُكُم غُدْوَةً (أي صباحًا) وترجعون إليَّ عَشيّة كظهر الحَنِيَّةِ (أي القوس)، عَجَزَ المُقَوِّمُ وأعْضَلَ المُقَوَّمُ. أيها الشاهدةُ أبدانهُمْ، الغائبةُ عنهم عقولهم، المختلفةُ أهواؤهُم، المُبْتَلى بهم أمراؤهمْ، صاحبكُمْ يطيعُ الله وأنتم تعصونهُ، وصاحبُ أهل الشام يَعصي الله وهم يُطيعونه، لَوَدِدْتُ والله أن معاوية صارَفَني بكُم صَرْفَ الدّينارِ بالدّرهم، فأخَذَ مني عشرةً منكم وأعطاني رجلاً[واحدًا] منهم»[(209)]. إلى أن قال: «يا أهل الكوفة مُنيتُ منكم بثلاثٍ واثنتين: صُمٌّ ذَوُو أسماع، وبُكْمُ ذَوُو كلام، وعُميٌ ذوُو أبصار. لا أحْرار صِدقٍ عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تَرِبَتْ أيديكم، يا أشباه الإبل، غاب عنها رُعاتُها، كلّما جُمعَتْ من جانب تفرّقت من آخر. والله لكأني بكم فيما أخالُ أن لو حَمِسَ الوغى، وحَمِيَ الضِّرابُ وقد انفرجتُمْ عن أبي طالب انْفراجَ المرأة عن قُبُلِها(أي عند الولادة)»[(210)]. ثم أضاف قائلاً: «فيا عجبًا عجبًا والله يُميتُ القلبَ ويَجلبُ الْهَمَّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتَفرُّقِكمْ عن حقِّكمْ فقُبحًا لكم وتَرحًا(أي همًّا وحزنًا وفقرًا) حين صرتم غَرضًا يُرمى، يُغارُ عليكم ولا تُغيرون، وتُغْزَوْن ولا تَغزُون، ويُعصى الله ولا تَرضون، فإذا أمرتُكُم بالسّيْر إليهم في أيام الحَرِّ قلتم هذه حَمّارةُ القَيْظِ (أي شدّة الحرّ) أَمهِلْنا يُسَبَّخْ عنّا الحَرُّ، وإذا أمرتكم بالسّيْرِ إليهم في الشتاء قُلتم هذه صَبَارَّةُ القرِّ تفرّونَ فإذا أنتم والله من السيف أَفَرُّ. يا أشباهَ الرجالِ ولا رجالَ. حُلُومُ الأطفال، وعقولُ ربّاتِ الحِجَال. لَوَدِدْتُ أنّي لم أَرَكُمْ ولَمْ أعْرِفْكُمْ معرفة والله جَرَّتْ ندمًا وأعقبَتْ سَدَمًا، قاتلكمُ اللهُ، لقد ملأتُمْ قَلْبي قَيْحًا، وشَحَنتُمْ صَدري غَيْظًا. وجَرّعْتموني نُغَبَ التَّهْمامِ أنْفاسًا، وأفْسَدْتُم عليَّ رأيي بالعصيان والخِذلانِ»[(211)]. إلى أن قال: «أيها الناس المُجتمِعةِ أبدانُهم، المُخْتَلِفةِ أهواؤهُم، كلامكُمْ يُوهي الصُّمَّ الصِّلاَبَ، وفعلُكُم يُطمِعُ فيكم الأعداء. تقولون في المجالس كَيْتَ وكَيْتَ، فإذا جاء القتال قلتُمْ حِيْدِيْ حَيَادِ، ما عَزَّتْ دعوةُ من دعاكُمْ، ولا استراحَ قلبُ من قاساكُمْ، أعاليلُ بأضاليلَ. وسألتموني التَّطويلَ دِفاعَ ذي الدّينِ المَطولِ، لا يَمنَعُ الضّيْمَ الذّليلَ. ولا يُدرَكُ الحقّ إلا بالجدّ، أيّ دار بعدَ داركُمْ تَمنعونَ، ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون، المغرورُ والله من غَرَرْتُمُوهُ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسّهم الأخْيَبِ[(212)]، ومن رمى بكم فقد رمى بأَفْوَقَ ناصِلٍ[(213)]، أصبحتُ والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمعُ في نصركُم، ولا أُوعِدُ العدُوَّ بكُمْ. ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طِبُّكُمْ؟ القومُ رجالٌ أمثالكُمْ، أقولاً بغيرِ علمٍ، وغَفلةً من غير ورعٍ. وطمَعًا في غير حقٍّ»[(214)].

وفي الوقت الذي انفض شيعة علي من حوله بعد أن خانوه وخذلوه، واضطر للرجوع إلى الكوفة، والاستنكاف عن المَسِير لقتال معاوية، وقال فيهم ما قال من هجاء وذم، سيحدث ما سيغير مجرى الأمور ويقلب مسار الأحداث رأسًا على عقب، إذ تذكر الروايات أن رجلاً خارجيًّا، اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي، دخل الكوفة، رغبة في قتل علي انتقامًا لشهداء النهروان، فكتم أمره، وتزوج امرأة خارجية تسمى: قَطَام بنت علقمة[(215)]، قيل إن عليًّا كان قد قتل أباها وأخاها في النهروان، وعند صباح يوم الجمعة 17 من رمضان من سنة أربعين للهجرة (40هـ)، وبينما خرج علي من داره لصلاة الصبح، إذ أدركه ابن ملجم الذي كان مترصدًا له، فوثب عليه وصاح: «الحكم لله يا علي لا لك»[(216)]، فضربه على رأسه بسيفه ضربة شديدة، فسقط علي أرضًا، ثم نقل إلى بيته، فمكث حيًّا يومي الجمعة والسبت ليتوفاه الأجل ليلة الأحد. أما ابن ملجم فقد ألقي عليه القبض، ثم عذب عذابًا شديدًا قبل أن يُقْتل ويمثل به تمثيلاً. ولا تذكر المصادر التي أوردت رواية قطام بنت علقمة مصير هذه المرأة بالرغم من الدور الكبير الذي أعطته لها في سيناريو مقتل علي[(217)]، الذي بمقتله انتهى عصر الخلفاء الراشدين.
7 ـ في بيعة الحسن بن علي لمعاوية
ويذكر الطبري أن عليًّا، وقبل وفاته، لم يعهد لأحد من بعده، بل إنه، وقبيل احتضاره، دخل عليه جُندب بن عبد الله فسأله: «يا أمير المؤمنين، إن فقدناك ـ ولا نفقدك ـ فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»[(218)]. لكن ما إن قُتل علي بن أبي طالب حتى استخلف أهل العراق ابنه الحسن بالكوفة، لتبدأ جولة أخرى من الصراع والنزاع بين معاوية والحسن بن علي. يقول أحد أعلام الشيعة وهو الشيخ المفيد: «فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأمور فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج وضربت عنقه»[(219)]. وتوالت بعد ذلك الكتابات والمراسلات بين الحسن ومعاوية، بل واحتجاجات الحسن على معاوية في استِحْقاقِه الخلافة. ولما احتد النزاع بين الطرفين سار معاوية نحو العراق في محاولة للقضاء على الأصوات المناهضة لخلافته، حتى نزل مَسكِن، وتحرك الحسن من جهته كذلك، فبعث حجر بن عدي يأمر العمّال بالمسير، واستنفر شيعته للجهاد، فتثاقلوا عنه على حدِّ روايات أعلام الشيعة[(220)]. وبعد أن تمكن الحسن في الأخير من أن يجيّش شيعته لمواجهة معاوية، تحرك بقواته وجيشه، وجعل ابن عمه عبيد الله بن العباس على مقدمته في اثني عشر ألف مقاتل[(221)]. ويذكر الشيخ المفيد أن الحسن أراد: «أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له ليتميز بذلك أولياءه من أعدائه ويكون على بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة فاجتمعوا فصعد المنبر فخطبهم فقال: (…) أما بعد فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريدًا له بسوء ولا غائلة ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيرًا لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا علي رأيي غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا»[(222)]. وتضيف روايات المراجع الشيعية أن الحسن ما إن فرغ من خطبته هذه حتى: «نظر الناس(أي شيعته) بعضهم إلى بعض وقالوا ما ترونه يريد بما قال، قالوا نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه ، فقالوا كفر والله الرجل»[(223)]. فكان أن انقلب شيعته عليه جرّاء ذلك، ونكثوا بيعتهم له: «فكتب أهل الكوفة إلى معاوية إنّا معك وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك»[(224)]. ليس هذا وحسب، بل إنهم قاموا بعد ذلك: «ثم شدّوا فسطاطه (أي فسطاط الحسن) وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ثم شدّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسًا متقلّدًا السيف بغير رداء ثم دعا بفرسه فركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده فقال ادعوا إلى ربيعة وهمدان فدعوا فأطافوا به ودفعوا الناس عنه وسار ومعه شوب من غيرهم فلما مرَّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته وبيده معول وقال: الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ثم طعنه في فخذه فشقّه حتى بلغ العظم»[(225)].
وتذكر هذه الروايات أن معاوية لما تمكن من إغراء واستقطاب عبيد الله بن العباس ابن عم الحسن، والشخصية الأبرز في قيادة جيشه، وأدرك الحسن خيانة عبيد الله له، وخذلان وانشقاق جماعة كبيرة من المقاتلين عنه ممن كانوا من شيعته وأتباعه، لجأ الحسن إلى أسلوب الحوار والتفاوض مع معاوية. بل إن روايات أخرى تحدثت عن أن إدراك الحسن لعدم انسجام وتجانس وانضباط جيشه، بل ولواقع التمزق الذي بات ينخر صفوفه، بالإضافة إلى إدراكه لضعف حجْم قوته العسكرية، مقابل ما يملكه معاوية من جيش عرمرم منسجم ومنضبط وموحد خلفه، إن إدراك الحسن لهذا ولغيره، وما يشكله كل ذلك من اختلال لميزان القوى العسكري لفائدة معاوية، ما جعل الحسن يجنح نحو تبني الخيار السلمي في حل النزاع السياسي بينه وبين معاوية. يقول الشريف المرتضى: «فإن الذي جرى منه كان السبب فيه ظاهرًا والحامل عليه بيّنًا جليًّا لأن المجتمعين له من الأصحاب (يعني شيعته) وإن كانوا كثيري العدد وقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية وأمراحه من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعًا في أن يورطوه ويسلّموه، وأحس بهذا منهم قبل التولج والتلبس، فتخلى من الأمر وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه»[(226)]. ويقول الشيخ المفيد: «فازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له (يعني شيعته)(…) بما أظهروه له من السبّ والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله ولم يبق معه من يأمن غوايله إلا خاصته من شيعة أبيه وشيعته وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وأنفذ إليه بكتب أصحابه (من الشيعة) الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه»[(227)].
هكذا يظهر أن خيانة ابن عم الحسن له، وانضمامه إلى معسكر معاوية، وخذلان جمهور الشيعة واستنكافهم عن قتال معاوية[(228)]، فضلاً عن ما تعرضت له خيمته بالمدائن من نهب وسرقة[(229)]، بل وما تعرض له هو نفسه من محاولة اغتيال كان قد نجا منها بأعجوبة، فأصيب إثرها في فخده فنزف نزفًا شديدًا[(230)] وذلك بعد أن كفّروه ورموه بالشرك، ما عزّز لديه خيار المصالحة مع معاوية، والجنوح إلى السلم، والتخلّي عن قتال أهل الشام. ويذكر الطبري أن الحسن، وبفعل ما أصبح يعرفه من تذمر وإحباط من تصرفات أهل الكوفة وشيعته بالعراق عمومًا، ما دعاه إلى ذمهم بالقول: «كرهتُ الدنيا ورأيت أهل الكوفة قومًا لا يثق بهم أحد أبدًا إلاّ غُلِبَ، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأيٍ ولا هوى مختلفين لا نيّة لهم في خيرٍ ولا شر، لقد لقي أبي منهم أمورًا عظامًا فليت شعري لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خرابًا»[(231)]، إلى أن قال فيهم: «يا أهل العراق، إنه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إيّاي، وانتهابكم متاعي»[(232)]. ويروي الطبرسي: «عن زيد بن وهب الجهني قال: لما طعن الحسن بن علي بالمدائن أتيته وهو متوجع، فقلت: ما ترى يا بن رسول الله فإن الناس متحيرون؟ فقال: أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهدًا أحقن به دمي، وأومن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلمًا»[(233)].
قصارى القول، إنه قد يكون ضعف ميزان القوى العسكري، وما بات عليه الحسن من وضع معنوي ونفسي مهزوز ـ جرّاء ما تعرض له هو نفسه من شيعته، وما بات يتهدد أهل بيته ـ وراء حرصه على حقن الدماء، وإطفاء نار الفتنة، ونزع فتيل الصراع بالطرق السلمية من خلال فتح قنوات التفاوض مع معاوية لغرض إيجاد صيغة معينة وملائمة لتخليه عن سلطة الخلافة، وبالتالي وضع حد لوجود خلافتين: خلافة بالكوفة، وخلافة بالشام. يقول السيد محسن الأمين: «فبويع الحسن بن [علي] وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه وانتهب عسكره وعوجلت خلاخل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته»[(234)]. ويقول الشريف المرتضى: «وقد صرّح بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة بألفاظ مختلفة (هدنة، معاهدة، مصالحة، موادعة)، وقال إنما هادنت حقنًا للدماء وصيانتها وإشفاقًا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»[(235)].
وهكذا، وبعد مشاورات ومفاوضات جرت بين كلا الطرفين، انتهت مجريات التفاوض بالاتفاق على المصالحة والموادعة، على أن يتخلى بعدها الحسن لسلطة الخلافة لمعاوية، ويقرّ بخلافته، على أساس أن تعود الخلافة بعد وفاة معاوية شورى بين المسلمين. وفي رواية أخرى أن تبقى لمعاوية الإمامة طالما كان حيًّا، فإن مات آل الأمر للحسن[(236)]. وبالفعل فقد أعقب هذا الاتفاق مباشرة، أعني اتفاق المصالحة، قيام الحسن والحسين ببيعة معاوية بن أبي سفيان. لكن ما أن بلغ هذا الخبر شيعة الحسن حتى نهضوا رافضين بيعته لمعاوية، وشرعوا في سبّه ونعته بأحط الصفات والنعوت، فصاروا ينادونه ويلقبونه بـ «مذل المؤمنين». وتقر المراجع الشيعية الكبرى نفسها بهذه البيعة التي أعقبت المصالحة، بل وتقر أيضًا بهذا اللقب المذل الذي أطلقه الشيعة على حفيد الرسول الأكرم (ص) حِنْقًا عليه. ونحن هاهنا إنما نأتي على إيراد بعض الشواهد من كتبهم، أعني من كتب الشيعة نفسها، التي شهدت بالصلح وببيعة الحسن والحسين معًا لمعاوية، وسبّهم وإذلالهم للحسن بعد بيعته: يقول صاحب كشف الغمة: «ومن كلامه ما كتبه في كتاب الصلح الذي استقر بينه وبين معاوية حيث رأى حقن الدماء وإطفاء الفتنة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهدًا، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سرًّا ولا جهرًا، ولا يخيف أحدًا منهم في أفق من الآفاق، شهد عليه بذلك ـ وكفى بالله شهيدًا، فلان وفلان والسلام»[(237)]. ويضيف صاحب كشف الغمة، إنه: «لما تمّ الصلح وانبرم الأمر التمس معاوية من الحسن أن يتكلم بمجمع من الناس ويعلمهم أنه قد بايع معاوية وسلم الأمر إليه، فأجابه إلى ذلك فخطب ـ وقد حشد الناس ـ خطبة حمد الله تعالى وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله فيها، وهي من كلامه المنقول عنه وقال: أيها الناس إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين، وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثركم به بعد القلّة، إن معاوية نازعني حقًّا هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه وقد بايعته ، ورأيت حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ *}»[(238)]. ويقول الطوسي المعروف بشيخ الطائفة في رواية له: «جبرئيل بن أحمد وأبو إسحاق حمدويه وإبراهيم ابنا نصير، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الحميد العطار الكوفي، عن يونس بن يعقوب، عن الفضل غلام محمد بن راشد، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن معاوية كتب إلى الحسن بن علي أن أقدم أنت والحسين وأصحاب علي، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وقدموا الشام، فأذن لهم معاوية وأعد لهم الخطباء، فقال: يا حسن قم فبايع، فقام فبايع، ثم قال للحسين : قم فبايع، فقام فبايع ، ثم قال: قم يا قيس فبايع، فالتفت إلى الحسين ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس إنه إمامي ـ يعني الحسن »[(239)]. ويقول الشيخ الصدوق ومعه المجلسي وغيرهما: «حدثنا أبو طالب زيد بن أحزم قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القاسم بن الفضل حدثنا يوسف بن مازن الراسبي قال بايع الحسن بن علي صلوات الله عليه معاوية »[(240)]. وفي رواية أخرى لهما قالا: «هذا محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال حدثنا أبو بشر الواسطي، قال حدثنا خالد بن داود عن عامر قال بايع الحسن بن علي معاوية على أن يسالم من سالم ويحارب من حارب »[(241)]. وقالا كذلك: «هذا حديث ابن سيرين يرويه محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون عن أنس بن سيرين قال: حدثنا الحسن بن علي يوم كلم فقال: ما بين جابرس وجابلق رجل جده نبي غيري وغير أخي وإني رأيت أن أصلح بين أمة محمد وكنت أحقهم بذلك فإنا بايعنا معاوية »[(242)]. ويقول الشريف المرتضى: «روى عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيدة، قال لما بايع الحسن معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له سليمان بن صرد الخزاعي ما ينقضي تعجبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز»[(243)].
هذا، على وجه الإيجاز، ما يخص بيعة الحسن لمعاوية بعد صلحه ومهادنته ومعاهدته له، أما بخصوص ما تعرّض له من سبّ وإساءة ورَمْي ونَعْت بأحط ّ الصفات والنعوت الذميمة، فيذكر الطبرسي: «عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني رجل منا قال: أتيت الحسن بن علي فقلت: يا ابن رسول الله أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيدًا، ما بقي معك رجل. قال: ومم ذاك؟ قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. قال: والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارًا ، ولو وجدت أنصارًا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة، وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدًا، إنهم لا وفاء لهم، ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا»[(244)]. ويقول الشيخ المفيد: «حدثنا جعفر بن الحسين المؤمن وجماعة من مشايخنا، عن محمد بن الحسن بن أحمد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبدالله بن مسكان، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر قال: جاء رجل من أصحاب الحسن يقال له: سفيان بن ليلى وهو على راحلة له فدخل على الحسن وهو محتب (أي جمع ثوبه بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوه) في فناء داره فقال له السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له الحسن: انزل ولا تعجل، فنزل وعقل راحلته في الدار، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إليه قال: فقال له الحسن ما قلت؟ قال قلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمة فحللته من عنقك وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله. قال: فقال له الحسن سأخبرك لم فعلت ذلك[(245)]. ويقول أبو الفرج الأصفهاني: «حدثني محمد بن أحمد أبو عبيد قال: حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال: حدثنا محمد بن عمرويه قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى دخل حديث بعضهم في حديث بعض وأكثر اللفظ لأبي عبيدة قال: أتيت الحسن ابن علي حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره عنده رهط فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال عليك السلام يا سفيان انزل فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان: فقلت: السلام عليك يا مذل رقاب المؤمنين. فقال: ما جرّ هذا منك إلينا؟ فقلت: أنت والله ـ بأبي أنت وأمي ـ أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر إليه (…) ومعك مئة ألف كلهم يموت دونك»[(246)].
تلك إذن بعضٌ من شواهد كتب كبار المراجع الشيعية على ما تعرض له الحسين وأهل بيته من إهانة وسبّ ونهبٍ وتنكيلٍ وخذلان وغدر بلغ حد محاولة قتله وتصفيته جسديًّا على أيدي شيعته بالعراق، حتى إنهم لم يتركوا له من خيار آخر غير الصلح والموادعة والبيعة لمعاوية.
وبعد أن بايع الحسن لمعاوية بن أبي سفيان، دعا من بقيَ معه من أنصاره وشيعته من أهل الكوفة والعراق للبيعة لمعاوية حقنًا للدماء[(247)]. وعندما تمّ لمعاوية ذلك نهض ثم سار حتى نزل بالنخيلة: «ثم سار [بعدها] حتى دخل الكوفة فأقام بها أيامًا حتى استتمّت البيعة له من أهلها»[(248)].
هكذا إذن استقام الأمر لمعاوية بالعراق فدخل الكوفة في سنة 41 هـ، تعبيرًا منه عن حسن نواياه حيال أهل العراق وشيعته. واجتمع أهل الشام وأهل العراق وباقي أمصار الأمة الإسلامية باستثناء الخوارج على أمر بيعة معاوية، حتى سمي هذا العام بعام الجماعة ، وكان ذلك إيذانًا بإعادة الوحدة إلى الأمة وقيام الدولة الأموية.
وبعد أن استقر الصلح بين الحسن وبين معاوية وبيعته له، واستتب الوضع في العراق، خرج الحسن بن علي في السنة ذاتها من الكوفة، خوفًا على نفسه وعلى أهله من شيعته، قاصدًا أرض جده وصحابته: المدينة التي استقر بها بمعيّة أهل بيته حتى سنة إحدى وخمسين للهجرة (51هـ)، حيث مرض مرضه الذي مات فيه[(249)] بعد أن تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته. ويذكر الشيخ المفيد والمجلسي: «ما رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير قالوا لما مات الحسن تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا: «ما رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير قالوا لما مات الحسن تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهدًا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإذا مات معاوية نظر في ذلك»[(250)]. ولما قربت وفاة معاوية قال لابنه يزيد: «لا ينازعنك في هذا الأمر إلا أربعة: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر»[(251)]. فكان أن أطلق مشروعًا سياسيًّا جديدًا غير مسبوق، إذ في سنة ست وخمسين للهجرة(56هـ)، أي بعد وفاة الحسن بن علي بخمس سنوات فقط، سيدعو معاوية إلى بيعة ابنه يزيد الذي ولاه العهد، مخالفًا بذلك الأسلوب الذي كان متبعًا من قبل في اختيار الخلفاء على أساس الشورى. غير أن هذه الدعوة، دعوة البيعة لابنه، لقيت منذ أول الأمر معارضة شديدة، ورفضًا قاطعًا من قبل أهل المدينة ومعظم أهل الأمصار، وكان على رأس الرافضين لها عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وغيرهم . وبالرغم من قدوم معاوية من الشام إلى المدينة في محاولة لإقناع المعارضين لبيعة ابنه يزيد، وبالرغم من محاولاته العديدة لثني المواقف المشددة على الرفض من خلال استعماله لأساليب الترغيب تارة، وأساليب الترهيب تارة أخرى، ترهيب بلغ حد التهديد بالقتل كما جرى الأمر مع عبد الله بن الزبير ومع غيره من المعارضين ، بالرغم من كل ذلك ظلّ أهل المدينة متمسكين برأيهم، ثابتين على رفضهم لبيعة يزيد. وتحتفظ لنا الروايات ببعض ما دار بين معاوية ومعارضي بيعة ابنه من سجال ساخن بينهما، من ذلك ما أجاب به عبد الله بن عمر لمعاوية بن أبي سفيان عندما سأله بيعة يزيد أن قال له: «يا معاوية، لقد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدًا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم» . أما عبد الله بن الزبير، فقد قال لمعاوية: «إن رسول الله (ص) قبض، فترك الناس إلى كتاب الله، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، ثم رأى أن يستخلف عمر، وهو أقصى قريش منه نسبًا، ورأى عمر أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين، وفي المسلمين ابنه عبد الله، وهو خير من ابنك، فإن شئت أن تدع الناس على ما تركهم رسول الله، فيختارون لأنفسهم، وإن شئت أن تستخلف من قريش كما استخلف أبو بكر خير من يعلم، وإن شئت أن تصنع مثل ما صنع عمر، تختار رهطًا من المسلمين، وتزويها عن ابنك فافعل» . وأما عبد الرحمن بن أبي بكر، فقد أصرّ على جعلها شورى، حتى إنه أقسم لمعاوية قائلاً: «والذي نفسي بيده لنجعلنها شورى» .
هكذا رفض أهل المدينة البيعة ليزيد، ورفضوا أن تنتقل الخلافة إلى الأبناء بالوراثة على طريق غير طريق ونهج الخلفاء من صحابة الرسول (ص).
8 ـ خلافة يزيد بن معاوية ومحاولة عبيد الله بن زياد التصفية العسكرية لجيوب المعارضة السياسية
لكن لم تمض إلا سنوات معدودة، وبالضبط في شهر رجب سنة ستين للهجرة (60 هـ) حتى توفي معاوية، فتولى الخلافة ابنه يزيد في الشهر نفسه والسنة نفسها، وأمير المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص. فكتب يزيد بن معاوية كتابًا للوليد بن عتبة يدعوه فيه إلى أخذ البيعة له من الحسين بن علي، ومن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، حتى إذا امتنعوا وجب أخذها منهم بالقوة والشدة. يقول الكتاب: «أما بعد، فخذ حُسينًا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رُخصة حتى يبايعوا»[(252)]. ولما بلغ كتاب يزيد هذا إلى الوليد بن عتبة، واطلع على ما يأمره فيه، عظم ذلك عليه، على ما يذكر المجلسي في بحار الأنوار. وعندما علم عبد الله بن الزبير بالأمر، وخشي أن يأخذ الوليد بن عتبة البيعة منه بالقوة، أو يقتله، خرج من المدينة في جنح الظلام رفقة أخيه جعفر، وقصدا مكة ليلة السبت لثلاثة أيام بقين من رجب سنة ستين للهجرة (60هـ). وفي ليلة الغد، أي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب، خرج الحسين بن علي كذلك من المدينة، ومعه بنوه، وإخوته، وبنو أخيه، وجل أهل بيته وأصحابه، إلا أخاه محمد بن الحنفية، فقصد مكة[(253)] التي استقر بها آمنًا لمدة أربعة أشهر، بعد أن كان قد انتهى كل شيء مع هذا الخروج من المدينة. لكن ما إن علم شيعة أهل الكوفة بامتناع ورفض الحسين بيعة يزيد بن معاوية، وخروجه إلى مكة، حتى عمدوا إلى إغرائه بالإمامة والحكم بقصد أن يشدّ الرحال إليهم، فشرعوا في إرسال الرسائل والرُّسُل إليه، يدعونه للقدوم إليهم. وهكذا تذكر المراجع الشيعية أن شيعة الكوفة اجتمعوا في منزل سليمان بن صُرَد، فقال فيهم: «إن معاوية قد هلك، وإن حسينًا قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه وتقتل أنفاسنا دونه فاكتبوا إليه وأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهَن فلا تغرّوا الرجل من نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه؛ قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا»[(254)]. يقول الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي من سليمان بن صُرَد والمسيّب بن نَجية ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مُظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها (أي الخلافة)، وغصبها فَيئها، وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شِرارَها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعْدًا له كما بعدتْ ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله»[(255)]. وكتبوا إليه برسائل أخرى عديدة جاء في بعضها: «بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أما بعد فحيّهلا فإن الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام». يقول الشيخ المفيد: «ثم كتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر التميمي. أما بعد فقد اخضر الجنان وأينعت الثمار فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة. والسلام»[(256)]. وسنرى بعد قليل كيف أن هذه الأشخاص الشيعية من الكوفة، الواردة أسماؤها بهذه الرسالة، التي غرّوه فيها بالإمامة والحكم، هي الأشخاص نفسها التي ستخذل وستخون الحسين ، قبل أن تتولى قتاله وقتله. ذلك أنه وبعد أن تكاثرت الرسائل والرسل على الحسين من شيعته بالكوفة، بعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، فلما قدم إليهم ونزل بدار رجل من أهلها يقال له مسلم بن عوْسجة الأسدي، وقيل بدار المختار بن أبي عبيد الثقفي ـ والتي صارت تدعى فيما بعد بدار مسلم بن المسيب[(257)] ـ وخبروا بقدومه، أتى نحو اثني عشر ألفًا من أهلها وبايعوه للحسين بن علي[(258)]، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألف. فكتب كتابًا إلى الحسين يقول له فيه: «قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوًى»[(259)]. كما: «كتب إليه أهل الكوفة: إن لك هنا مئة ألف سيف [فأقدم] ولا تتأخر»[(260)]. ولما علم يزيد بن معاوية بالأمر، وبلغه ما كان من النعمان بن بشير من تراخٍ وتلكؤ وتردّد عن اتخاذ أي إجراء عملي، أو فعل رادع، أو تدخل مانع لبيعة شيعة أهل الكوفة لمسلم بن عقيل، عزله من منصبه كعامل على الكوفة، وولى عليها عبيد الله بن زياد[(261)]. فصارت له البصرة والكوفة معًا. فكتب إليه يزيد بكتاب يقول فيه: «أما بعد، فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام»[(262)]. فخرج عبيد الله بن زياد إلى الكوفة بعد أن استخلف أخاه عثمان بن زياد على البصرة. ولما بلغها نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم يخطب فيهم بخطبة وعدَ فيها بإنصاف المظلوم، وإعطاء المحروم، والإحسان إلى كل سامع ومطيع، وتوعّد فيها باسْتحلال دم ومالِ كل من ترك أمره، وخالف عهده، وبغَى على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية[(263)]. ولما سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، وما أورده في خطبته من وعيد لكل من يريد شقَّ عصا الطاعة على يزيد بن معاوية، خرج من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة ليختبئ بها، ويختفي عن عيون المراصد وجواسيس عبيد الله بن زياد. فكان أن انفض في اليوم نفسه كل من كان حوله من الشيعة، وانصرفوا عنه. يقول الشيخ المفيد:«فما زالوا يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفسًا في المسجد فلما رأى أنه قد أمسى وما معه إلا أولئك النفر خرج من المسجد متوجهًا نحو أبواب كندة فما بلغ الأبواب إلا ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدله فالتفت فإذا هو لا يحس أحدًا يدلّه على الطريق ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو فمضى على وجهه متلددًا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب»[(264)]. فكان أن انتهى به المسير إلى باب امرأة عجوز يقال لها طوعة، فطلب منها أن يتوارى عن الأنظار ويختبئ عندها: «فقال لها: يا أمة الله ما لي في هذا المصر (يعني الكوفة) منزل ولا عشيرة فهل لك في أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم. قالت يا عبد الله وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم (يعني شيعة الكوفة) وغرّوني وأخرجوني»[(265)]. فلما علمت المرأة بأمره ونسبه آوته بدارها تلك الليلة[(266)]. وفي صباح الغد، أقدم ابنها بلال على كشف مكان اختباء مسلم بن عقيل عند أمه لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقام هذا الأخير إلى أبيه، وهو عند عبيد الله بن زياد، فوافاه بالخبر، فأمر عبيد الله بن زياد محمد بن الأشعث حينها بإحضار ابن عقيل على وجه السرعة، فنهض مسرعًا وبعث معه عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس، فقبضوا عليه. وقبل أن يحملوه إلى عبيد الله بن زياد، طلب من محمد بن الأشعث أن يرسل رسولاً إلى الحسين يبلغه بأسره ويدعوه بالرجوع إلى المدينة. يقول الشيخ المفيد إنه عندما ألقي القبض على مسلم بن عقيل قال لمحمد بن الأشعث: «هل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسينًا فإني لا أراه إلاّ قد خرج إليكم مقبلاً أو هو خارج غدًا وأهل بيته ويقول إن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل وهو يقول ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لكذوب رأي»[(267)]. ويقول المجلسي إنه لما دخلوا بمسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد قال له: «إيه يا بن عقيل أتيت الناس وهم جمع فشتَّتَّ بينهم وفرَّقتَ كلمتهم وحملتَ بعضهم على بعض»[(268)]. ثم قال له أيضًا: «يا عاق ويا شاق خرجت عن إمامك وشققت عصا المسلمين، وألحقت الفتنة»[(269)]. وبعد أن نفى ابن عقيل عن نفسه كل ذلك، قام وطلب من عمر بن سعد بن أبي وقاص الطلب نفسه الذي كان قد طلبه لمحمد بن الأشعث من قبل، قائلاً له: «ابعث إلى الحسين من يردّه فإني قد كتبت إليه أعلمُه أن الناس معه و[إني] لا أراه إلا مُقبلاً»[(270)]. وقبل أن ينفذ فيه حكم عبيد الله بن زياد بالقتل، استغفر الله وصلى على رسوله وهو يقول: «اللهم احكم بيننا وبين قوم (يعني شيعة الكوفة) غرونا وكذبونا وخذلونا»[(271)].
وفي الوقت الذي كان فيه مسلم بن عقيل يتعرض لما تعرض له في الكوفة، بلغ إلى الحسين كتابه الذي قال له فيه: «قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي». وكذا ما: «كتب إليه أهل الكوفة: إن لك هنا مئة ألف سيف [فأقدم] ولا تتأخر»[(272)]، فكان أن خرج الحسين من مكة إلى الكوفة وبرفقته أهل بيته وأصحابه ـ يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين 60هـ، وهو اليوم نفسه الذي اعتقل فيه مسلم بن عقيل بالكوفة على ما يذكر الشيخ المفيد في الإرشاد[(273)]. وهذا ما يفيد أن الحسين لم يكن يعلم، يوم خروجه، بخبر أسر ومقتل ابن عمه مسلم بن عقيل. وقد كان هذا الخروج في واقع الأمر خروجًا عن نظام الحكم، وعن السلطة الأموية (الخلافة) بالشام[(274)]، وذلك بالرغم من النصائح التي قدمها له أخوه محمد بن الحنفية، وأبو سعيد الخدري، وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن مطيع وغيرهم. فقد نهاه هذا الأخير ومعه أخوه محمد بن الحنفية عن الكوفة فقالا له: «إنها بلدة مشؤومة قتل فيها أبوك وخذل فيها أخوك فالزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز وتتداعى إليك الناس من كل جانب»[(275)]. وقال له عبد الله بن عباس: «إنك تأتي قومًا قتلوا أباك، وطعنوا أخاك، وما أراهم إلا خاذليك (…) وإذا كنت لا بدَّ فاعلاً فلا تخرج أحدًا من ولدك، ولا حرمك ولا نسائك، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قتل عثمان بن عفان»[(276)]، فأبى الحسين ذلك ولم يقبله. كما كانت ثمة محاولات عديدة من شخصيات كثيرة لثنيه عن الخروج، لكن الحسين أبى إلاّ أن يخرج. يقول الشيخ المفيد إن الحسين عند خروجه من مكة لقيه الفرزدق الشاعر العربي المعروف فقال له: «أخبرني عن الناس خلفك فقلت: الخبير سألت قلوب الناس معك وأسيافهم عليك[أي مع بني أمية]»[(277)]. ثم يضيف صاحب الإرشاد إن: «الحسين بن علي لما خرج من مكة اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص ومعه جماعة أرسلهم عمرو بن سعيد إليه فقالوا له انصرف إلى أين تذهب فأبى عليهم ومضى وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعًا قويًّا»[(278)] كما: «ألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عون ومحمد وكتب على أيديهما إليه كتابًا يقول فيه: «أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستيصال أهل بيتك (…) فلا تعجل المسير»[(279)]. كما: «صار عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أمانًا ويمنيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتابًا يمنيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى وعبد الله بعد نفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب، وجهدا به في الرجوع (…) فلما أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونًا ومحمدًا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكة»[(280)]. وفي طريقه إلى الكوفة بعث الحسين أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر يحمل رسالة إلى شيعته بالكوفة ممن أرسلوا الرسائل والرسل في طلبه وهو بعد لا يعلم بخبر مقتل مسلم بن عقيل، ومما جاء فيها: «أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا [في الحكم] فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته»[(281)]. وبينما الحسين وأهله وأصحابه في طريقهم إلى الكوفة، فإذا برجلان أسديان وهما: عبد الله بن سلمان، والمنذر بن مشعل، بعد أن فرغا من أداء فريضة الحج، أرادا اللحاق بالحسين، وفي طريقهما إليه، لقيا رجلاً من أهل الكوفة فسألاه عن أخبارها، فأفادهما بمقتل هانئ بن عروة ومسلم بن عقيل، وعبد الله بن يقطر، فكان أن حملا الخبر مسرعين إلى الحسين الذي أدركاه بالثعلبية. ولما بلغ الحسين نبأ مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وأنه قد انفضّ عنه كل من كان من حوله من شيعة أهل الكوفة، وأن القلوب التي كانت قد تشيّعت له صارت سيوفها تتشيّعُ لبني أمية، وأنه لم يعد له بالكوفة ناصر ولا شيعة، وتعاظم التوجس لديه من أن يكون أهل الكوفة عليه، هَمَّ بالرجوع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، وبعد أن استشارهم في أمر الرجوع والعودة قالوا: «والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق [أي نُقتل]؛ فقال[الحسين]: لا خير في العيش بعد هؤلاء»[(282)]. وقبل أن يواصل الحسين المسير، نهض خطيبًا فيمن كان معه من الأصحاب فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام»[(283)]. وتذكر المراجع الشيعية أن الحسين ما إن فرغ من خطبته حتى: «تفرق الناس عنه وأخذوا يمينًا وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه»[(284)]. ثم سار ومن معه باتجاه الكوفة، فلقيه الحر بن يزيد التميمي في نحو ألف مقاتل يريد أن يقدمه إلى عبيد الله بن زياد بالكوفة، وكان الأمر المفاجئ للحسين في هذا اللقاء أن تعرف على بعض الوجوه الشيعية ممن دعته للقدوم إليها بالكوفة، وأرسلوا إليه الرسائل والرسل، عندها أدرك الحسين حجم الخيانة والخذلان الذي وقع فيه. ولما حان وقت الصلاة، قام الحسين خطيبًا فيهم فقال: «أيها الناس إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأطيعوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم»[(285)]. فكان في جوابهم نوع من اللامبالاة، عندما: «سكتوا عنه ولم يتكلم أحد منهم بكلمة»[(286)]. ولما جاء وقت العصر، نهض الحسين مجددًا خطيبًا فيهم فقال إن: «كان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم»[(287)]. ولأن الحر لم يكن يعلم بهذه الكتب والرسائل، فقد فقال له: والله ما أدري هذه الكتب والرسل التي تذكر، ونحن: «لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله»[(288)]. فرفض الحسين أن يسير معه إلى عبيد الله، وحين أراد أن ينصرف ويواصل المسير إلى الكوفة، منعه الحر من ذلك محاولاً صرفه عنها. ولما كثر الكلام بينهما قال له الحر: «إني لم أؤمر بقتالك، إنما أمرت أن ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقًا لا يدخلك الكوفة، ولا تردك إلى المدينة»[(289)]. ثم سار الحسين وقد تنحى عنه الحر قليلاً، فكان يسير هذا في ناحية والآخر في ناحية أخرى لكن دون أن يفارقه إلى أن بلغوا نينوى حيث نزل الحسين، ثم سار حتى بلغ قرية على نهر الفرات، فسأل عنها فقالوا: هذه كربلاء، فقال لهم: كرب وبلاء، وفي رواية قال: هذا موضع الكرب والبلاء، وفي رواية أخرى قال: إني أعوذ بك من الكرب والبلاء[(290)]. وفي يوم الغد، قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف مقاتل فنزل بنينوى، بعد أن كان قد امتنع الخروج إلى الحسين، فخيّره عبيد الله بن زياد بين بقائه واليًا على الري إن زحف إلى الحسين، أو العزل إن امتنع عن ذلك. وكان عمر بن سعد على ما يذكر الشيخ المفيد لا يرغب في قتال الحسين، وكان يدعو الله أن يعافيه من حربه وقتاله. فبعث إلى الحسين عروة ابن قيس، وكان هذا واحدًا من شيعة الحسين الذين كتبوا له الكتب والرسائل، وخذلوه وانقلبوا عليه فيما بعد. يقول الشيخ المفيد ومعه المجلسي وغيرهما: «فبعث[عمر بن سعد] إلى الحسين عروة بن قيس الأحمسي فقال له أتيه فسله ما الذي جاء بك، وماذا يريد، وكان عروة ممن كتب إلى الحسين ، فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه فكلهم أبى وكرهه»[(291)].
من هذا الكلام للشيخ المفيد والمجلسي وغيرهما، وهما من كبار المراجع الشيعية، يظهر بجلاء كيف أن من جاء يقاتل الحسين ليس فقط عروة بن قيس، بل ومعه عدد من رؤساء المقاتلين من شيعته، أي من شيعة الحسين، الذين كانوا قد أرسلوا بالرسائل والرسل في طلبه والقدوم إليهم بالكوفة، ثم خانوه وانقلبوا عليه. وسيكشف لنا الحسين بعد قليل، وقبيل انطلاق القتال عن أبرز أسماء هؤلاء جميعًا. وبعد أن رفض عروة بن قيس ومن معه من رؤساء شيعة الكوفة لقاء الحسين على انفراد، تفاديًا منهم للحرج، بعث عمر بن سعد شخصًا آخر غيرهم إلى الحسين يستفسره عن سبب قدومه، فكان جواب الحسين له، إنه قد: «كتب إليّ أهل مصركم (الكوفة) أن أقدم، فأما إذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم»[(292)]. فقام عمر بن سعد بعد ذلك بتبليغ هذا الجواب في كتاب إلى عبيد الله بن زياد، قال فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بن علي بعث إليه من رسلي، فسألته عمّا أقدمه، وماذا يطلب، فقال: كتب إليّ أهل هذه البلاد (الكوفة) وأتتني رسلهم يسألونني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهتموني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم»[(293)]. فكان ردّ عبيد الله بن زياد بكتاب قال فيه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأينا، والسلام»[(294)]. ثم ورد كتاب آخر من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد قال له فيه: «أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان أمير المومنين المظلوم»[(295)]. فبعث عمر بن سعد على الفور عمرو بن الحجاج في خمس مئة فارس، فنزلوا على شريعة الفرات، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء. ولما علم الحسين بنزول المقاتلين بمعسكر عمر بن سعد وما هم عليه من عدة وعتاد وعدد بلغ نحو ثمانية عشر ألف مقاتل، أغلبهم من شيعة الكوفة وأخلاط من شيعة الأمصار وبعض الخوارج، طلب لقاء عمر بن سعد الذي كان يميل إلى موادعته: «فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً»، وقد قال له الحسين: «إني مخيّركم ثلاثًا: بين أن تتركوني ألحق بيزيد، أو أرجع من حيث جئت، أو أمضي إلى بعض ثغور المسلمين فأقيم فيها»[(296)].
ثم رجع عمر بن سعد إلى مكانه بنينوى، وقد عمّه الفرح بهذا الرّد من الحسين، على ما يذكر أبو الفرج الأصفهاني. فكان أن كتب إلى عبيد الله بن زياد بكتاب يقول له فيه: «أما بعد، فإن الله قد أطفى النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني عهدًا أن يرجع إلى المكان الذي هو منه أتى، أو يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه وفي هذا لك رضى وللأمة صلاح»[(297)]. وهذا دليل واضح على أن الحسين كان يرضى بيزيد بن معاوية على عبيد الله بن زياد، وكان لا يرى مانعًا في أن يضع يده في يده ويبايعه كما بايع أبوه معاوية من قبل، بدل أن يضعها في يد عبيد الله بن زياد، لا سيما وأنهما أبناء عمومة. لكن بعد أن قرأ عبيد الله بن زياد الكتاب وجّه لعمر بن سعد رسولاً يقول له: «طمعت يا بن سعدٍ في الراحة، وركنت إلى الدّعة، ناجز الرجل وقاتله، ولا ترضَ منه إلا أن ينزل على حكمي»[(298)]. فكان ردّ الحسين على هذا الكلام: «معاذ الله أن أنزل على حكم ابن مرجانة أبدًا»[(299)]. ولما وصل ردُّ الحسين هذا إلى عبيد الله بن زياد، قام شمر بن ذي الجوشن، وكان من شيعة علي بن أبي طالب في معركة صفين[(300)]، فقال له: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونَنَّ أولى بالقوة ولتكونَنَّ أولى بالضعف والعجز. فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك»[(301)]. فكان أن حبذ عبيد الله بن زياد رأي ذي الجوشن الذي أوفد معه بكتاب إلى عمر بن سعد جاء في: «إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر عنه ولا لتكون له عندي شافعًا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي، واستسلموا فابعث بهم إليّ سلمًا، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم (…) فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر ابن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام»[(302)]. وكان عبيد الله بن زياد قد أعطى أمره التالي لذي الجوشن وهو: إن عمر بن سعد: «إن فعل [ما أُمر به] فاسمع له وأطعه، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش»[(303)]. ولما وصل ذو الجوشن إلى عمر بن سعد ودفع له الكتب قال له: «ويلك لا قرب الله دارك، وقبح ما قدمت به علي، والله إني لأظنك أنك نهيْتهُ أن يقبل عما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أمرًا كنا قد رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله الحسين[لعبيد الله بن زياد]»[(304)].
هكذا تردّد وتماطل عمر بن سعد على قتال الحسين وأصحابه، إلى أن أتاه شمر بن ذي الجوشن حاملاً رسالة من عبيد الله بن زياد كتبها بإيعاز منه، أي بإيعاز من ذي الجوشن، يدعو فيها عمر بن سعد أن يُخيِّر الحسين بين أن يستسلم وينزل على حكم عبيد الله بن زياد أو يُقاتَل إن هو أبى وامتنع. وإن أي تراخ منه بهذا الشأن يجعل قيادة الجيش لذي الجوشن. فما كان من عمر بن سعد إلا أن بعث برسول إلى الحسين كلفه بأن يقول له: «إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم»[(305)].
هكذا وُضع الحسين بين خيار التنازل والاستسلام، أو الحرب والقتال. فكان أن انتهى به الأمر إلى العزم على القتال بدل الاستسلام لعبيد الله بن زياد[(306)]. وفي ذات الليلة قام الحسين وعبأ أصحابه: «وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلاً[(307)]، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مُظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطبٍ وقصبٍ كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم»[(308)]. ولما جاء يوم الغد، العاشر من محرم (يوم عاشوراء) عام 61هـ/680م أقبل مقاتلو عمر بن سعد: «وكان في ميمنته عمرو بن الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عمر بن قيس، وعلى الرجالة (المشاة) شبث بن ربعي، وأعطى الراية دريدًا مولاه»[(309)]. ولما تقابل الطرفان وجهًا لوجه بساحة المعركة، تعرَّف الحسين على عدد كبير من رؤساء جيش عمر بن سعد ممن كانوا من شيعته، وكانوا بالأمس يرسلون له الكتب والرسائل ويبعثون إليه بالرسل، وجاؤوا اليوم يقاتلونه ليقتلوه، غدرًا وخذلانًا منهم. يقول الشيخ المفيد، لما رأى الحسين من جاء من رؤساء الجيش يقاتله: «نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعت، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي: أن قد أينعت واخضر الجنان، وإنما تقدم على جند لك مجندة؟». فحاول قيس بن الأشعث عبثًا أن ينكر، فقال الحسين لبعض أصحابه: «يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفًا فنشرت بين يديه»[(310)]. ولما عَرَّى وكشف الحسين خيانة وخذلان شيعة الكوفة له، وتواطئهم عليه مع عبيد الله بن زياد الفارسي، وأدرك الحر أن رؤساء جيش عمر بن سعد من شيعة أهل الكوفة هم من كتب وأرسل هذه الرسائل التي لم يكن على علم بها، وأن هؤلاء هم من عمدوا قصدًا، مع سبق الإصرار والترصد، على جره إلى حتفه، وأنهم مصممون على قتاله وقتله، انضم إلى معسكر الحسين، ثم قام وخطب فيهم خطاب لوْم ومؤاخذة فقال: «يا أهل الكوفة لأُمِّكُم الهبل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا جاءكم استلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه»[(311)]. ودارت بعد ذلك معركة ضارية بكربلاء بين الحسين وأهله وأصحابه ومن انضم إليه من جهة، ومقاتلي عمر بن سعد من شيعة أهل الكوفة وقِلَّة من بعض الأمصار من جهة أخرى. ويذكر الشيخ المفيد أن الحسين لما همَّ للقتال، رفع يده يدعو على شيعة أهل الكوفة فقال: «اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا»[(312)]. ويقول المسعودي المؤرخ الشيعي المعروف إنه: «لما كثرت العساكر على الحسين أيقن أنه لا محيص له، فقال: اللهم احكم بيننا وبين قوم [يعني شيعة أهل الكوفة] دعونا لينصرونا ثم هم يقتلوننا، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه»[(313)]. فكان أن انتهت المعركة في مشهد مأساوي وكارثي، بمقتل الحسين ، وعدد من أهله، فضلاً عمّن كان معه من أصحابه ومرافقيه[(314)]. بينما أسِرَ علي بن الحسين، وعمر بن الحسين، وهما غلامان استُصغرا فلم يُقتلا، كما أسرت زينب بنت علي، وفاطمة بنت الحسين، وسكينة بنت الحسين. ويذكر الطبري أن الحسين بعد أن قتل، وانتهى الاقتتال بين الطرفين، تمّ تجهيز نسائه وصبيانه وصبيان أخيه، فانطلق بهم مُحفَّر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن حتى قدِموا بهم على يزيد بن معاوية. فلما عَلِم بمقتل الحسين غاظه الأمر فقال لهم: «كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! [يعني عبيد الله بن زياد] أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين!»[(315)]. ويقول الطبرسي في الاحتجاج إن يزيد قال لعلي ابن الحسين: «لعن الله ابن مرجانة، فوالله ما أمرته بقتل أبيك، ولو كنت متوليًا لقتاله ما قتلته»[(316)]. وهذا دليل من كتب كبار المراجع الشيعية على كون قتل الحسين كان على يد شيعته بأمر وقرار من عبيد الله بن زياد الفارسي وليس بأمر وقرار من يزيد بن معاوية. ثم إن يزيد قام بعد ذلك: «ودعا بالنساء والصبيان، فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة. فقال: قبّح الله ابن مرجانة[أي عبيد الله بن زياد] لو كان بينه وبينكم قرابة ورحم [كما بيني وبينكم] ما فعل هذا بكم ولا يبعث بكم على هذه الحال»[(317)]. ويذكر الطبري، ومعه عدد من المراجع الشيعية، أن يزيد عرض عليهم المقام في دمشق فأبوا ذلك وقالوا: نريد أن نرجع إلى المدينة فإنها مهاجر جدنا (ص)[(318)]. فأمر نعمان بن بشير أن يجَهِّزهم بكل ما يحتاجون إليه، ويبعث معهم رجلاً من ثقات أهل الشام على رأس أعوان ورجال فيسير بهم إلى المدينة، وفي انتظار ذلك: «أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة، معهن ما يصلحهن، وأخوهن معهن علي بن الحسين، في الدار التي هن فيها. فخرجن حتى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثًا، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين إليه (…) ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين فاستخلى به ثم قال له: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني وانْهِ إلي كل حاجة تكون لك، وتقدم بكسوته وكسوة أهله فخرج بهم (…) حتى دخلوا المدينة»[(319)]. وفي رواية أخرى، أنه: «كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق والأنزال»[(320)].
وقد احتفظ لنا التاريخ بعدد من كتب الشيعة ممن دَوَّنَت غدْر شيعة أهل الكوفة للحسين، وخيانتهم وقتلهم له ولأهل بيته، وإليك شهادات من بعض مراجعهم المشهورة.
الشيخ المفيد وقدّم الحسين أمامه: «ابن عمه مسلم بن عقيل رضي الله عنه وأرضاه للدعوة إلى الله والبيعة له على الجهاد، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه، وضمنوا له النصرة والنصيحة ووثقوا له في ذلك وعاقدوه، ثم لم تطل المدة بهم حتى نكثوا بيعته وخذلوه وأسلموه، فقتل بينهم ولم يمنعوه، وخرجوا إلى حرب الحسين فحصروه ومنعوه المسير في بلاد الله، واضطروه إلى حيث لا يجد ناصرًا ولا مهربًا منهم، وحالوا بينه وبين ماء الفرات حتى تمكنوا منه وقتلوه»[(321)].
الطبرسي إن الحسين عندما حان وقت القتال احتج على أهل كربلاء فقال لهم: «تبًّا لكم أيها الجماعة وترحًا وبؤسًا لكم! حين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفًا كان في أيدينا، وحمشتم علينا نارًا أضرمناها على عدوِّكم وعدوِّنا، فأصبحتم إلبًا على أوليائكم، ويدًا على أعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصلح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا إليكم، فهلا لكم الويلات إذا كرهتمونا والسيف مشيم، والجاش طامن، والرأي لما يستصحف ولكنَّكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدّبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفهًا وضلّة، فبعدًا وسحقًا لطواغيت هذه الأمة»[(322)]. ويقول كذلك، إن عليّ بن الحسين حين خرج من الفسطاط احتج على أهل الكوفة ووبَّخهم على غدرهم ونكثهم فقال: «أيها الناس، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ ثم قاتلتموه وخذلتموه فتبًّا لكم ما قدمتم لأنفسكم وسوءًا لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله (ص)، يقول لكم قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي»[(323)]. ويقول كذلك : «لما أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء، وكان مريضًا، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب والرجال معهنّ يبكون. فقال زين العابدين ـ بصوت ضئيل وقد نهكته العلة ـ إن هؤلاء يبكون علينا، فمن قتلنا غيرهم»[(324)]. ويقول أيضًا، ثم قامت زينب بنت علي بن أبي طالب بعد أن طلبت منهم الإنصات فقالت: «أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل (أي الخداع) والغدر والخذل (…) أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلاً، فقد ابتليتم بعارها، ومنيتم بشنارها (أي عارها) ولن ترحضوها أبدًا (أي لن تغسلوها) وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة»[(325)]. ويقول أيضًا إن فاطمة الصغرى نهضت كذلك وقالت في شيعة أهل الكوفة: «أما بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنًا (…) أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه (ص) على كثير من خلقه تفضيلاً، فكذّبتمونا، وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهبًا، كأنا أولاد الترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمنا أهل البيت لحقد متقدم»[(326)]. ويقول كذلك: «ثم بايع الحسين عشرون ألفًا من أهل العراق ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه»[(327)].
عباس القمي لما دخلوا من كربلاء إلى الكوفة بأهل الحسين من النساء والصبيان: «جعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال علي بن الحسين : تنوحون وتبكون من أجلنا فمن ذا الذي قتلنا»[(328)].
السيد محسن الأمين: «ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفًا غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه»[(329)].
والواقع أن خيانة وخذلان شيعة أهل الكوفة عن مناصرة الحسين بعد دعوته للقدوم إليهم، وشعورهم بالندم والذنب وإحساسهم بالمسؤولية عن مقتله في وقعة كربلاء، ما جعلهم وجعل الشيعة عمومًا يغالون في تقديسه، أي تقديس الحسين، أكثر من الأئمة السابقين، وتجدهم يحتفلون بذكرى استشهاده، وينظمون لها مواكب العزاء، ولا يحتفلون بذكرى استشهاد علي بن أبي طالب (رض).
والملاحظ أن هذه الوقعة ستشكّل بالفعل نقطة تحول كبرى في مسار الشيعة، بحيث انتقلوا على إثرها فيما بعد، في الخلاف مع بني أمية، من مجرد فرقة سياسية تعترض على الحكم الأموي وتدعو للخروج عليه، إلى فرقة ذات أفكار ومبادئ ومنظومة فقهية وعقائدية. بعبارة أخرى، إن وقعة كربلاء ستشكّل نقلة نوعية في مسار الشيعة بانتقال خلافهم من مجرد خلاف سياسي مع بني أمية إلى خلاف مذهبي وعقائدي له متكلموه وفقهاؤه ومنظروه. غير أن هذا الخلاف السياسي والمذهبي والعقائدي لم يمنع من استقرار السلطة السياسية في البيت الأموي إلى غاية بداية العقد الرابع من القرن الثاني الهجري (41هـ 132 هـ/661م ـ 750م)، لتعقبها الخلافة العباسية التي جاءت عقب حركة العباسيين الذين ينحدرون من جدهم العباس بن عبد المطلب عم الرسول (ص)، وهي الحركة التي رفعت راية وشعار الثورة باسم التشيع، لكون روادها ينحدرون من الشيعة[(330)]، لكنهم تراجعوا عنه فيما بعد ليصطفوا وراء أهل السنة. وقد استمرت خلافتهم من سنة132هـ إلى غاية 656هـ/750م ـ 1258م.
وتؤكد المصادر التاريخية، ومصادر الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي، أنه وبانتقال الحكم إلى الأسرة الأموية مع معاوية بن أبي سفيان، ثم فيما بعد إلى الأسرة العباسية مع أبي العباس عبد الله السفاح ـ ثم عبد الله أبي جعفر المنصور من بعده، الذي يعتبر المؤسس الفعلي للدولة العباسية ـ انتقل نظام الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عاض أو عضوض، أي من نظام حكم قائم على مبدإ الشورى والاختيار إلى نظام حكم قائم على توريث السلطة تحت مسمى الخلافة.
ومع أن نظام الخلافة الراشدة قام على أساس الشورى والتداول والتشاور، فإن هذا النهج الشوري الاختياري التشاوري لم تكن له طريقة واحدة في تعيين الخليفة، فلقد تمّ تعيين أبي بكر ـ كما رأينا ـ في ظروف خاصة عجلت بتعيينه من غير مشورة أو مشاورات مسبقة، أو تداول وتحضير أولي، لذلك، لهذا السبب كان تعيينه «فلتة وقى الله شرها» كما قال عمر بن الخطاب[(331)]. أما أبو بكر الصديق وفي محاولة منه لتجنب تكرار «الفلتة» فلم يعمد إلى تعيين عمر ابن الخطاب إلاّ بعد أن استشار عددًا من الصحابة، وحصل على موافقتهم ورضاهم. وأما عمر بن الخطاب فقد كانت له طريقة أخرى غير الطريقتين السابقتين، إذ عمد إلى ترشيح ستة من الصحابة كلهم من مهاجرة قريش ولا واحد فيهم من الأنصار، وبعد مشاورات طويلة وشاقة تم اختيار عثمان بن عفان خليفة للمسلمين. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا، أنه وبالرغم من هذا النهج الشوري الاختياري الذي تمت به عملية تعيين الخلفاء في عهد الخلافة الراشدة ـ وإن تباينت طرق التعيين فيه ـ فإن هذا النهج لم يخرج عن إطار توريث الخلافة التي بقيت محصورة في البيت القرشي، كما أن التشاور ذاته، ظل، هو كذلك، مقصورًا ومحصورًا فقط في النخبة السياسية من الأنصار والمهاجرين، نخبة هي بمثابة هيأة استشارية، لكن قراراتها لم تكن ملزمة.
ومع أهمية ودور هذا النهج التشاوري الاختياري في تلافي الخلاف والشقاق بين المسلمين، ومحاولة تأمين الإجماع، إجماعهم على المرشح لمنصب الخلافة، فإن هذا النهج لم يمنع من نشوب خلافات عميقة وصراعات ونزاعات سياسية كبيرة حول السلطة السياسية بين كبار صحابة الرسول (ص)، صراعات وصلت حد الاقتتال بينهم (معركة الجمل، ومعركة صفين).
وإذا لم نكن نصادر على إحدى روايات الطبري القائلة بوفاة أبي بكر مسمومًا، فإنه مع ذلك يتبين لنا كيف أن الخلفاء الراشدين الثلاثة ماتوا كلهم مقتولين، وتبين لنا كذلك مستوى وحِدّة الصراع على السلطة السياسية التي بلغت حد التصفية الجسدية لصحابة الرسول ولآل بيته رضوان الله عليهم.
والواقع أن هذه الأحداث قد فرضت على مختلف الفرقاء، منذ المراحل الأولى والمبكرة من الصراع، نوعًا من التعاطي السياسي المباشر معها، تعاطي سيتطور وينتقل في المراحل اللاحقة إلى مستوى التنظير السياسي للقضايا والمسائل السياسية المطروحة. بعبارة أخرى، إن القضايا والمسائل، بل والأسئلة السياسية والفكرية الكبرى التي شغلت الأمة الإسلامية لاحقًا، ومزقتها إلى فرق وتيارات ومذاهب، كانت قد طرحت بشكل مبكر خلال هذه المرحلة، أعني بذلك أسئلة من قبيل: من الأحق بخلافة النبي؟ ما هو معيار أو معايير الاستخلاف؟ هل هي الصحبة والسبق في الإسلام أم هي الأسرة والقرابة (الوراثة)؟ وإذا كان معيار الأسرة والقرابة هو معيار الاستخلاف، فهل الأحق بالخلافة أسرة النبي وأقرباؤه بالمعنى الضيق للكلمة أم بالمعنى الواسع لها؟ أي هل الأحق بالخلافة آل بيته (بنو هاشم)، أم قبيلته (قريش)، أم الأحق بها (بنو عبد مناف)؟ وبالتالي ما هي شروط الخلافة؟… إلخ.
إن هذه الأسئلة وغيرها التي فجرتها الأوضاع السياسية لمرحلة الخلافة الراشدة، وما تلاها من فتنة كبرى، ومن وقائع وأحداث متلاحقة عقب انتقال الحكم إلى ملك عاض مع معاوية بن أبي سفيان، وانتقال السلطة السياسية من خيار وأسلوب الشورى والاختيار إلى أسلوب غصب السلطة وتوريثها، وفرض الدولة لأمر هذا الواقع السياسي الجديد بالقوة وحد السيف، ما عجَّل عمليًّا بظهور فرق وأحزاب سياسية دينية إسلامية، اجتهدت في صياغة وطرح نظريات سياسية حول السلطة السياسية، نظريات موزعة بين خطاب سياسي ديني مسوغ ومبرر لواقع أمر سلطة نظام الحكم القائم، وخطاب سياسي ديني آخر مضاد رافض له، وثالث من نفس الجنس مرجئ للبث فيه. وهي في مجمل حيثياتها نظريات مختلفة باختلاف خلفياتها السياسية والأيديولوجية، لكن مع قاسم مشترك، يتمثل في توظيفها ولجوئها إلى الدين لمناقشة السياسي بالديني، وممارسة السياسة في الدين، وإدخال الديني عنوة في مجالات الصراع السياسي، وذلك على غرار الدولة ـ ابتداء من معاوية ـ التي كان لها سبق اللجوء إلى هذا النوع من الاستعمال والتوظيف، أعني توظيف الدين لشرعنة خطابها السياسي، وسلوكها الاستبدادي. ولما كانت المعارضة السياسية قد وجدت بالرغم من وجود نظام شوري زمن الخلافة الراشدة، فإن هذه المعارضة التي لم تكن أمامها يومئذ مؤسسات تنشط من داخلها، ستتجذر وستتسع دائرتها أكثر بعد انتقال الحكم إلى ملك عضوض، لتستمر طوال العصر الأموي والعباسي، خصوصًا مع تيارات الشيعة والخوارج. بعبارة أخرى أنه وبانتقال الحكم إلى ملك عضوض، انتقلت المعارضة السياسية إلى مستوى آخر من العمل، زاوجت فيه بين التجذر الفكري والأيديولوجي والسياسي(الغلاة)، والتجذر العسكري، من خلال تبنيها للعمل المسلح، تجذرٌ وجد مبرراته الأولى في تجذر الدولة التي شرعنت لطبيعة نظامها واستبدادها السياسي.
والواقع أن من هذه النظريات، التي تم إغناؤها وتثويرها فيما بعد، عبر محطات تاريخية معينة، من لا تزال تشكل مرجعًا فكريًّا ثريًّا، ومرتكزًا أيديولوجيًّا خصبًا لخطاب أيديولوجي وسياسي معاصر. أو قل، بعبارة أصح، إن من هذه النظريات ما يزال تأثيرها ومفعولها وحضورها قويًّا وساريًا في قلب وقالب الخطاب السياسي العربي الإسلامي المعاصر ذي المرجعية التراثية. ولا نغالي إذا قلنا إن لهذا الحضور ما يفسره في ثنايا هذا الواقع ذاته الذي لا زال يمتد ويستمر فيه القديم بمعنى من المعاني في تجلياته السياسية، خصوصًا منها: السنيّة والشيعيّة والخارجيّة. لذلك كان فهم وفك مغالق وطلاسم الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر ذي المرجعية التراثية مرهونًا بفهم منطلقاته النظرية: الفكرية والأيديولوجية والسياسية. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو: ما هي إذن أهم هذه النظريات السياسية التي حفل بها تراثنا الفكري والسياسي القديم؟ وما هي أبرز معالم تطوراتها التاريخية وصولاً إلى اليوم؟
قبل الشروع في الجواب عن هذا السؤال الكبير الذي لا ندعي استيفاء الإجابة عليه بتفصيلاته وجزئياته، نود أن نشير بعجالة إلى أنه وكباقي الحضارات الأخرى ما قبل الإسلامية، خصوصًا منها اليونانية والرومانية والفارسية، تبلورت داخل الحضارة العربية الإسلامية نظريات سياسية عديدة شكّلت في مجملها تراثًا سياسيًّا متميزًا يعكس طبيعة الحراك والصراع والتدافع الذي كان دائرًا على امتداد تاريخ تطورها السياسي. وإذا كانت الحضارة العربية الإسلامية قد قامت على أساس الإسلام كأحد أهم أركانها، فإن مظاهر هذه الحضارة وتجلياتها الفكرية والثقافية والعلمية والأدبية والفنية بل وحتى السياسية منها لم تخل من الطابع الديني الإسلامي الذي طبعت به. غير أن هذا الطابع إذا كان قد طبع الفكر السياسي الإسلامي جملة، ومعه النظريات السياسية العربية والإسلامية الأولى، فإن تلك النظريات السياسية اللاحقة عنها ستتلقح بنظريات سياسية أخرى غير إسلامية، ذات مرجعية أو مصادر إما فارسية أو يونانية أو غيرها.

ولما كان سعينا هو الوقوف على الفكر السياسي العربي الإسلامي من خلال رصدنا لتطور أهم النظريات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، لا تلك التي استندت في كليتها على أصول ومرجعيات غير إسلامية، فإننا سنقف هاهنا على ثلاث مكونات أساسية لهذا الفكر لارتباطها الوثيق بهذه المرجعية، أعني بهذه المكونات:

1ـ الفكر السياسي الخارجي.
2 ـ الفكر السياسي الشيعي.
3 ـ الفكر السياسي السنّي.

غير أن وقوفنا على الفكر السياسي الخارجي هاهنا، إنما سيكون بالعرض لا بالذات، أو قل سيكون بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، على اعتبار أن القصد الأول إنما هو لرصد تطور النظريتين السياسيتين: السنّية والشيعية حول مشكلة الإمامة أو الخلافة كموضوع سياسي نظري بالأساس يمتح من هذه التجربة التاريخية أو تلك، أو من هذا النص أو ذاك، لرفض أو شرعنة حكم معين، والرد على هذه الفرقة أو تلك من الفرق المخالفة والمختلفة حول ذات المشكلة. تلك المشكلة التي كانت بحق أول خلاف سياسي كبير بين المسلمين على حد عبارة أبي الحسن الأشعري الذي قال، إن: «أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين ـ بعد[وفاة] نبيهم صلى الله عليه وسلم ـ اختلافهم في الإمامة»[(332)]. لتتولد عن هذا الاختلاف اختلافات سياسية عديدة ستدور كلها حول فلكه: لعل أولها ذلك الاختلاف الذي حدث بين الأنصار والمهاجرين بسقيفة بني ساعدة حول من يتولى الأمر بعد النبي (ص)، والاختلاف الثاني كان قد تولد بين الصحابة الستة ممن عينهم عمر بن الخطاب قبل وفاته ليختاروا خليفة للمسلمين من بينهم، ثم الاختلاف الثالث كان حول سياسة عثمان التي انتهت به إلى عزله وقتله، ثم كان الاختلاف بين طلحة والزبير وعائشة من جهة وعلي بن أبي طالب من جهة ثانية الذي حسم عسكريًّا في حرب الجمل، ثم اختلاف علي مع معاوية الذي انتهى بخوض معركة صفّين، ثم اختلاف علي مع الخوارج الذي تطور إلى حرب ضارية بالنهروان.. الخ. ولعل هذه الاختلافات وغيرها من الاختلافات الأخرى التي تفجرت على شكل خلافات بينية حول مسألة الخلافة أو الإمامة، فتطورت لاحقًا إلى ثورات، وحمل للسلاح، ونزاعات مسلحة، وخوض لحروب دامية، ومعارك ضارية بين الأشقة الأعداء، ما حدى بالشهرستاني في الملل والنحل إلى القول: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل زمان»[(333)].
وقد سبق وأن رأينا كيف أن معاوية بن أبي سفيان في حرب صفّين بعد استشارته لعمرو بن العاص دعا جيشه إلى رفع المصاحف على الرماح وأسنّة السيوف مطالبًا بالتحكيم. ورأينا، كذلك، كيف أنه لما رأى جيش علي بن أبي طالب ذلك انقسم على نفسه إلى كتلتين أو قسمين: قسم شايع رأي علي بعدم مواصلة قتال مسلمين يحملون كتاب الله على سيوفهم، وشددوا على التحكيم كتقليد عربي قديم. وقسم خرج عن رأي علي وعن طاعته، وأطلق شعار «لا حكم إلا لله». القسم الأول سموا بالشيعة لمشايعتهم علي بن أبي طالب[(334)]، والقسم الثاني سموا بالخوارج لخروجهم عن صفه ورأيه وطاعته[(335)].
ومنذ هذه الواقعة، وبالضبط منذ واقعة التحكيم، وما تلاها من وقائع وأحداث سياسية، أصبح موضوع نصب خليفة للمسلمين، أو ما يسمى بالخلافة أوالإمامة، موضوعًا خلافيًّا، يدور حوله جدل سياسي كبير وحاد، تحول في ما بعد إلى موضوع للتنظير السياسي للعديد من الفرق والأحزاب والتيارات السياسية الدينية الإسلامية، كل تيار ينتقي من التجارب التاريخية الإسلامية، ومن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي يضعها وضعًا أحيانًا، ما يلائم نظريته السياسية، ويعضد ويدعم موقفه السياسي من هذه المسألة أو تلك. فما هي إذن طبيعة وخصوصية النظرية السياسية لكل تيار من هذه التيارات السياسية الثلاثة؟


في الفكر السياسي العربي الإسلامي من الإمامة والخلافة .. إلى الدولة – د. عبد العزيز العماري (الحلقة الأولى)