مجلة حكمة

فاشية الليبرالية: المقدمة – جوناه قولدبيرغ / ترجمة: إبراهيم جابر أبوساق

مقدمة كتاب (فاشية الليبرالية) لجونا قولدبيرغ


 

George Carlin : كل شيء تعرفه عن الفاشية خطأ والفقراء لا زالوا منهوبين بشكل ممنهج في هذه الدولة . الاثرياء اصبحوا أكثر ثراء في ظل هذا الرئيس الفاشي المجرم .
( تصفيق وتصفير ) .
Bill Maher : حسنا حسنا ..
James Glassman : انت تعلم .. جورج .. جورج ! اظن انك تعلم – هل تعلم ما هي الفاشية ؟
Carlin : الفاشية عندما تأتي الى امريكا ..
Glassman : هل تعلم ما هي النازية ؟
Carlin : عندما تأتي الفاشية الى امريكا ، لن تكون قمصانا رمادية أو سود و أحذية عسكرية . سوف تكون أحذية “Nike ” وقمصان ” مبتسمة ” . مبتسمة مبتسمة !
الفاشية الالمانية خسرت الحرب العالمية الثانية ، لكن الفاشية ربحت تلك الحرب !
صدقني يا صديقي .
Maher : وفي الحقيقة ، الفاشية تكون عندما تصبح الشركات هي الحكومة .
Carlin : نعم !

..

خارج البعض القليل من الندوات الاكاديمية ، ما جرى يبلغ من الثقافة ما تبلغه أي مناقشة عن الفاشية في أمريكا . يساريون غاضبون يصرخون أن كل من هم على يمينهم – بالتحديد قطط الشركات السمينة والسياسيين المالكين لها – فاشيون . وفي هذه الاثناء ، المحافظون المحاصرون مصعوقين من بذاءة قائل هذه الافتراء .

المثير للسخرية هو أن استنتاج Carlin هو الصحيح . رغم أن تسبيبه لم يكن كذلك . لو أن الفاشية تأتي الى امريكا ، فبالتأكيد لن تأتي على شكل ( القمصان ذات الابتسامات ) ، أي الفاشية الطيبة . في الحقيقة ، الفاشية ليس فقط أنها هنا ، ولكنها هنا منذ ما يزيد عن القرن ! لأن ما نسميه بالليبرالية – الصرح المجدد للتقدمية الامريكية – هي في الحقيقة السليل والمظهر للفاشية . هذا لا يعني أنها هي والنازية شيئا واحدا ، ولا أنها التوأم للفاشية الايطالية . لكن التقدمية كانت الحركة الأخت للفاشية . والليبرالية الحالية هي ابنة التقدمية . أحدهم قد يعترض على هذه المقارنة بالقول بأن الليبرالية الحالية هي ابنة الأخت المرغوب بها للفاشية الأوروبية. هي بالكاد مطابقة لأقربائها القبيحين ، لكنها رغم ذلك تحمل شبها محرجا لن يعترف بوجوده الا القليل .

ليست هناك كلمة في اللغة الانجليزية يتناقلها الناس بكل حرية وهو لا يعرفون معناها أكثر من الفاشية . في الحقيقة كلما زاد استخدام احد ما لها في المحادثات اليومية ، كلما زادت نسبة عدم معرفته بها . ربما تظن ان الاستثناء لهذه القاعدة هم الدارسين لهذه الكلمة ، لكن في الحقيقة ما يميز الأوساط الاكاديمية هي فقط النزاهة . حتى المتخصصين لم يجدوا معنى لها . عدد لا حصر له من الدراسات الاكاديمية تبدأ بالمقدمة الشكلية ” كالفوضى المتشعبة من الآراء حول هذا المصطلح ” كما يكتب Roger Griffin في مقدمة كتابه طبيعة الفاشية ” كأنها في الغالب تقليد صارم شكلاني لكل الاسهامات حول الفاشية مع بعض الملاحظات المشابهة ” .

القلة من الباحثين الذين غامروا و أبدعوا تعريفا خاصا للفاشية سلطوا وميض ضوء على صعوبة الإجماع على ذلك . Griffin ، أحد الرواد المعاصرين في هذا المجال ، يعرف الفاشية على انها ” نوع من الايدلوجية السياسية التي يتخذ العمق الأسطوري في تحولاتها المتعددة شكل إعادة انتاج القومية المفرطة الشعبوية ” . Roger Eatwell يدعي هو الاخر أن ” جوهر ” الفاشية هو ” شكل من الافكار يعظ بالحاجة الى اعادة توليد اجتماعية لخلق طريق ثالث شمولي/قومي جذري ” . Emilio Gentile يقترح ” حركة جماهيرية تجمع بين طبقات مختلفة غالبيتهم من الطبقة الوسطى، ترى نفسها – بحكم امتلاكها لمهمة إعادة الانتاج القومية – في حالة حرب مع معارضيها وتبحث عن السيطرة على القوة باستخدام العنف و التكتيكات البرلمانية والتسويات لخلق نظام جديد مدمر للديموقراطية ” .

هذه تعريفات عملية ممتازة ، و ما يميزها عن غيرها من التعريفات أنها قصيرة بحيث يسهل طباعتها هنا ! على سبيل المثال ، عالم الاجتماع Ernst Notle – علم من أعلام ” خلاف المؤرخين” الألماني ( Historikerestreit) في ثمانينيات القرن العشرين – لديه تعريف من ست نقاط يدعى ” الحد الادنى للفاشية ” ، يحاول فيه تعريف الفاشية عبر ما تعاديه . فالفاشية هي ” مضادة لليبرالية ” و ” مضادة للمحافظة ” . التعريفات الأخرى أكثر تعقيدا ، بحيث ترى ان الأدلة المخالفة لها هي في عداد الاستثناءات التي تثبت القاعدة .

إنها النسخة الاكاديمية لمبدأ عدم التأكد لهايزنبرق ؛ كلما اقتربت في دراسة الشيء ، كلما زادت معرفته تعقيدا . المؤرخ R.A.H. Robinson كتب قبل عشرين عاما ” رغم أن عددا كبيرا من الوقت والطاقة العقلية تم صرفه في الابحاث المعنية بدراستها ، فإن الفاشية لا زالت اللغز الأكبر لطلبة القرن العشرين ” . في الوقت ذاته يؤكد مؤلف كتاب ( القاموس التاريخي للفاشية والنازية ) أن ” لا وجود لتعريف عالمي مقبول للفاشية ، لا يوجد إجماع على ذلك . ولكن هناك إجماع طفيف على نطاقها و أصلها الأيديولوجي وأشكال الافعال المحددة لها “. Stanley G. Payne – يعتبر من قبل الكثيرين الرائد المعاصر لدراسات الفاشية – كتب في 1995 ” مع نهاية القرن العشرين لا تزال الفاشية المصطلح السياسي الاكثر ضبابية ” . هناك حتى بعض الباحثين الجادين الذي يقولون بأن النازية لم تكن فاشية ، أن الفاشية لا توجد أبدا ، أو أنها بالأساس دين علماني ( هذا رأيي الخاص ) . يكتب Gilbert Allardyce ” اتفقنا على ان نستخدم الكلمة بدون أن نتفق على كيفية تعريفها “. ومع ذلك ، وعلى الرغم من ان الباحثين يعترفون بأن طبيعة الفاشية ضبابية ومعقدة ومفتوحة لتأويلات واسعة ، فإن الكثير من الليبراليين واليساريين الجدد يتصرفون وكأنهم يعلمون تماما ماهي الفاشية . الأكثر من هذا انهم يرونها في كل مكان عدى عندما ينظرون في المرآة ! حقا ، اليسار يلوي هذا المصطلح ويجعله كهراوة لضرب الأعداء . بعد كل هذا ، لا احد يجب عليه أن يحمل الفاشي محمل الجد . لا يجب عليك ان تستمع الى مناقشة فاشي او ان تهتم بمشاعره وحقوقه . هذا هو السبب الذي جعل Al Gore وغيره من المهتمين بالبيئة يقارنون المشككين بالانحباس الحراري بمنكري محرقة اليهود . متى ما أخذ هكذا ربط مكانه ، فإنه لا مبرر أمثال أولئك الناس جزءا من وقتك .

باختصار ، ( الفاشي ) اصطلاح محدث للمهرطق . هي دمغ للفرد بقصد اقصائه من العملية السياسية . اليسار يستخدم كلمات أخرى (المتحيز لعرقه) (المتحيز لجنسه ) (عدو للمثلية ) (مسيحوي ) لأهداف مشابهة ، لكن هذه الكلمات أقل مرونة . ( الفاشي ) هي الهدية المعطاءة . George Orwell لاحظ هذا النمط مبكرا في 1946 في مقالته الشهيرة ( السياسة واللغة الانجليزية ) حيث قال ” كلمة الفاشي ليس لها معنى حتى اللحظة سوى أنها تميز شيئا غير قابل للوصف ” . كتاب هوليوود يستخدمون كلمة ( فاشي ) و ( ذو القميص الرمادي ) و ( النازي ) كما وأنها لا تعني شيئا سوى ” أي شيء لا يرغب به الليبراليين ” . Crash Davis – الشخصية التي قام بتمثيلها Kevin Costner في فيلم Bull Durham – يشرح لمن يقوم بحمايته في الفيلم قائلا ” توقف عن احراز جميع الكرات في الجولة ، ذلك ممل وفوق ذلك فاشي ، حاول رمي بعض الكرات الأرضية فهم أكثر ديموقراطية ” . الطباخ الوقح في مسلسل Seinfeld كان يدعى ( نازي الحساء ) .

الواقع هو فقط أقل سخافة هامشيا . عضو مجلس النواب Charlie Rangel وصف العقد بين الجمهوريين وأمريكا في عام 1994 بأنه أكثر تطرفا من النازية ، ” هتلر لم يكن حتى يتكلم عن القيام بهذه الاشياء ” . ( هذا صحيح من ناحية تقنية ، فهتلر لم يدفع أبدا بتمديد فترة تولي المناصب في المجالس ولا بالميزانية الصفرية ) . في عام 2000 ، Bill Clinton وصف برنامج الجمهوريين في تكساس بأنه فاشي . صحيفة New York Times تقود حملة عريضة من العناوين بقيادة أكاديميين يرفعون من احتمالية أن حزب الجمهوريين هو حزب فاشي وأن المحافظين المسيحيين هم نازيون جدد . مؤخرا ، الكاتب في تلك الصحيفة Chris Hedgesوالحائز على جائزة Pulitzer أصدر كتابا اسمه ( الفاشيون الامريكيون : اليمين المسيحي والحرب على أمريكا ) والذي ليس الا واحدا من العديد من الأعمال الجدلية التي تقرر أن المحافظين أو الأصوليين المسيحيين فاشيون . ( Rick Perlstein في مراجعته لهذا الكتاب في نفس الصحيفة يبدأ رده المعارض بإعلان ” بالتأكيد هناك فاشيون مسيحيون في أمريكا ” ) . القس Jesse Jackson يصف كل ما يتعارض من أجندته العرقية بالفاشي ، في عام 2000 وخلال فرز الاصوات في فلوريدا ، ادعى أن الناجين من المحرقة تم استهدافهم مجددا لأن الاقتراع في فلوريدا كان معقدا جدا بالنسبة لبعض الالاف من المصوتين المسنين . في برنامج Larry King الحواري ، Jesse Jackson يدعي بكل سخافة ” ان الكتلة المسيحية كانت قوة ضاربة في المانيا ” ، ويواصل ” لقد أعطت مبررا دينيا وعلميا مقنعا للمأساة في ألمانيا ، وجود الكتلة المسيحية هناك مثبت بالأدلة ” .

اسأل شخصا من متوسط الناس و يتمتع بتعليم مقبول عما يأتي في مخيلته عند سماعه لكلمة الفاشي ، وسيكون الرد مباشرة ( الديكتاتورية ) ( التطهير العرقي ) ( معاداة السامية ) ( العرقية ) وبالتأكيد ( الجناح اليميني ) . احفر عميقا واتجه قليلا الى اليسار وستسمع الكثير عن ( المطالبين بتحسين النسل ) ( الداروينية الاجتماعية ) ( رأسمالية الدولة ) أو عن الدور الشرير للشركات الكبرى . الحرب والروح العسكرية والقومية ستسمع كثيرا عنها أيضا . البعض من هذه النعوت ملازم بشكل لا يقبل الانفصال لما نسميه الفاشية التقليدية Classical ، أي فاشية Benito Mussolini ونازية Adolf Hitler . والبعض الاخر مثل مصطلح ( الداروينية الاجتماعية ) التي يساء فمهما بشكل واسع ، لديها القليل من الروابط بالفاشية . لكن القليل جدا هي في الحقيقة ملازمة للفاشية ، وعلى الأغلب لا شيء منها ينتمي الى الحزب اليميني او المحافظين بشكل مميز ، على الأقل تبعا للطريقة الامريكية .

لكي نبدأ ، يجب أن نفرق بين الأعراض وبين المرض ذات نفسه . تأمل العسكرية – والتي سيتم ذكرها مرارا في هذا الكتاب – تجدها كانت ملازمة بشكل قوي للفاشية والشيوعية في العديد من البلدان . لكنها في الحقيقة ترتبط بالفاشية بروابط أدق مما قد يظنه البعض . عند بعض المفكرين في المانيا وامريكا ( مثل Teddy Roosevelt و Oliver Wendell Holmes ) فإن الحرب كانت بحق المصدر الرئيسي للقيم الأخلاقية المهمة . هكذا كانت سيطرة العسكر ، مجرد فلسفة اجتماعية نقية وبسيطة . لكنها للعديد من الاخرين ، وسيلة برغماتية : الاعلى والأكثر قيمة لمصلحة المجتمع المنظم . مستوحاة من أفكار كأفكار William James في مقالته الشهيرة ” المعادل الاخلاقي للحرب ” ، حيث يبدو حكم العسكر وكأنه يقدم لنا نموذج عملي وحساس لتحقيق الغايات المرجوة . Mussolini – الذي يقدر ويستشهد بـ William James – يستخدم مصطلحه الشهير Battle of the Grains”” وغيره من المبادرات الاجتماعية المدمرة . كان لتلك الافكار متابعة ضخمة في الولايات المتحدة . حيث قام الرواد التقدميين بالرفع من مكانة مصطلحات مثل ( الجيوش الاقتصادية ) لخلق الديموقراطية العمالية المثلى . لاحقا ، محافظة فرانكلين روزفلت كبرنامج اجتماعي عسكري استعار من هذه الافكار . وكذلك أيضا جون كينيدي وبرنامجه للسلام .

هذا التعبير المجازي لم ينقطع عن الليبرالية المعاصرة . دائما ما نسمع عن الحرب على السرطان و الحرب على المخدرات او الحرب على الفقر ، والعديد من المواعظ لجعل هذه التحديات الاجتماعية وكأنها المعادل الاخلاقي للحرب . من الرعاية الصحية و الحد من تملك الاسلحة حتى الانحباس الحراري ، تجد الليبراليين يصرون على اننا نحتاج الى ان نذهب ” وراء السياسة ” وأن ” نضع الفروق الأيديولوجية وراء ظهورنا ” لكي نقوم ” بعمل الناس ” . الخبراء والعلماء يعلمون ما الذي يجب فعله – كما تم إخبارنا – لذلك فوقت المناظرات والمناقشات قد انتهى . هذا – وان كان يقدم بشكل الطف – هو منطق الفاشية . وقد كان يعرض بشكل كبير ووافر خلال رئاسة Woodrow Wilson و Franklin Roosevelt بل وحتى John F. Kennedy .

ثم هنالك بالطبع العرقية . العرقية كانت ملازمة للنازية . في وقتنا الحاضر ، نقارن بكل أريحية النازية بالعرقية وبكل احترام نجد ذلك ملائما . لكن لماذا لا نربط النازية بالمركزية الافريقية على سبيل المثال ؟ العديد من دعاة المركزية الافريقية المبكرين مثل Marcus Garvey كانوا مناصرين للفاشية او كما يعرفون انفسهم بكل أريحية.. فاشيين . أمة الاسلام لديها روابط مدهشة مع النازية و أيدولوجيتها الهيملرية [ نسبة الى Himmler ] . النمور السود – وهو تنظيم عسكري مؤلف من شبان مؤمنين بالعنف وسياسة الفصل والتفوق العرقي – تنظيم فاشي الجوهر تماما كفاشية قصمان هتلر الرمادية أو فرق الاعدام الموسولينية . الداعي الى المركزية الافريقية الكاتب Leonard Jeffries صاحب مقولة ” السود هم ابناء الشمس ، والبيض ابناء الثلج ” يمكن الخلط بسهولة بينه وبين أي منظر نازي .

يؤكد العديد من اليساريين أن ” الصهيونية تساوي العرقية ” وأن الإسرائيليين مساوين للنازيين . بغض النظر عن مدى فردية وإشكال هذه المقارنة ، لكن لماذا لا نسمع تنديدات مشابهة بحق جماعات مثل مجلس La Raza القومي – la Raza تعني العرق – ومثل الجماعة اللاتينية المتطرفة MEChA التي شعارها ( كل شيء من أجل العرق ، ولا شيء من خارج العرق ) ؟ لماذا عندما يتفوه الرجل الأبيض ببعض هذه الآراء يتم تصنيفها “موضوعيا ” بأنها فاشية، بينما اذا تكلم شخص بلون آخر بنفس الآراء كانت تعددية ثقافية عصرية ؟

الأولوية المهمة لدى اليسار ليست تقديم أي إجابة لمثل هذه الاسئلة ، إنهم يفضلون الإبقاء على تعريف Orwell للفاشية كأي شيء غير مرغوب به وبهذا يتم تنحية تحيزاتهم الفاشية عن الاعين الفاحصة . وعندما يتم إجبارهم على الإجابة يكون الرد زائفا بشكل فطري وحشوي وقابل للتفكيك اكثر من كونه عقلاني . يبدو أن منطقهم هو أن التعددية الثقافية وبرامج Peace Corps ومثل تلك الأشياء هي جيدة – الأشياء التي يوافق عليها الليبراليون – والأشياء الجيدة لا يمكن ان تكون فاشية طبقا للحقيقة البسيطة وهي أن الليبراليين يوافقون عليها . حقا ، يبدو ان هذه هي الحجة الغير قابلة للتبسيط أكثر من ذلك لعدد لا حصر له من الكتاب الذين بطلاقة يستخدمون كلمة الفاشي لوصف ( الاشخاص الشريرين ) بناء على سبب واحد وهو ان الليبراليين يرونهم أشخاصا شريرين . Fidel Castro ، كما قد يحتج أحدهم ، هو مثال تقليدي للفاشي . لكن لأن اليسار يوافق على مقاومته للاستعمارية الأمريكية – وأيضا لأنه يستخدم الكلمة السحرية ( الماركسية ) – فإنه ليس فقط من الخطأ بل من الغباء موضوعيا وصفه بالفاشي . وفي هذه الاثناء فإن وصف Ronald Regan و George W. Bush و Rudy Giuliani وغيرهم من المحافظين بالفاشيين هو ببساطة يقوم به أصحاب التفكير اليميني المحنكين .

الخلل الأكبر في جميع هذا هو ان الفاشية ، المفهومة بشكل جيد ، ليست ظاهرة يمينية على الإطلاق . فهي ، كما كانت دائما ، ظاهرة يسارية . هذه الحقيقة – حقيقة غير مريحة ان كان هنالك أصلا حقائق مريحة – سخيفة نوعا ما في وقتنا الحالي طبقا للاعتقاد الخاطئ بان الفاشية والشيوعية أضداد. في الواقع ، هما مترابطتين بشكل وثيق ، متنافستين تاريخيا على نفس المطالب ،و تبحثان عن السيطرة والتحكم بنفس المساحة الاجتماعية . حقيقة انهما تبدوان لنا كأقطاب متضادة هي خدعة من التاريخ الثقافي وأيضا نتيجة propaganda مكثفة من قبل الشيوعيين لجعل الفاشيين يظهرون موضوعيا على أنهم الشريرين و ” الاخرين ” ( من المفارقات أن سطوة مصطلح ” الاخرين ” هي ثيمة ملازمة للفاشية ) . ولكن اذا نظرنا الى نظرياتهم وتطبيقاتها العملية ، فإن الاختلافات والفروق تكون قليلة .

إنه لمن الصعب الان ، على ضوء جرائمهم الكبيرة وفشلهم ، التذكر بأن الفاشية والشيوعية كانتا في وقتهما رؤى طوباوية وحملة للآمال الكبيرة . الأكثر من ذلك ، أن كلتيهما كانتا حركة ثقافية جذبت العديد من الاتباع في جميع المجتمعات الغربية . بالتحديد فيما بعد الحرب العالمية الاولى – وان بدأت مبكرا- ظهرت اللحظة الفاشية من تحت أنقاض ورماد النظام الأوروبي القديم . لقد صبغت السياسة والثقافة الأوروبية بصبغتها ، كما يرى في صعود القومية العرقية ، ودولة الرفاهية البشماركية وتضعضع المسيحية كمصدر للأرثوذكسية السياسية والاجتماعية والطموح العالمي . فبحلولها محل المسيحية ، قدمت دينا جديدا يقوم على الدولة المقدسة والأمة كمجتمع عضوي .

هذه الحركة العالمية تمخضت عن الكثير من الأشكال والتشعبات المختلفة وأصبحت تسمى بأسماء مختلفة من بلد الى بلد ، وكان التعبير عنها في المجتمعات المختلفة يختلف باختلاف الثقافة القومية لذلك المجتمع ، وهذا احد أسباب صعوبة تعريفها بشكل دقيق . لكن في الواقع ، فالفاشية العالمية صدرت عن نفس المعين الثقافي الذي استقت منه التقدمية الأمريكية . حقا ، فالتقدمية الأمريكية كانت في بعض النواحي المصدر الرئيسي للأفكار الفاشية التي تم تطبيقها في أوروبا على يد هتلر وموسوليني .

الأمريكيون يحبون أن يروا انفسهم منيعين على الفاشية رغم شعورهم المتواصل بالتهديد منها . ” لا يمكن أن تحدث هنا ” هو الشعار السائد عنها . لكن الفاشية لها تاريخ في هذه الدولة وهذا هو مغزى هذا الكتاب . التقليد الفاشي الأمريكي مرتبط جدا بتلك الجهود التي بذلت لجعل أمريكا أوروبية الطابع أكثر وتحديثها بحيث تستخدم للوصول الى الغاية الطوباوية المرجوة . هذه الفاشية الأمريكية تبدو – وهي كذلك في الحقيقة – مختلفة جدا عن نظيرتها الاوروبية لأنها تم تعديلها ببعض العوامل الخاصة كالحجم الجيوغرافي والتعددية العرقية والفردانية الموروثة من Jefferson والتقاليد الليبرالية القوية وهلم جرا . ونتيجة لذلك ، فالفاشية الأمريكية أكثر لطفا ، اكثر وداعة ، وأكثر ” أمومة ” من نظائرها الأجنبية . إنها ما اطلق عليه George Carlin ” الفاشية ذات الوجه المبتسم ” . وهذه الفاشية الليبرالية كانت وستبقى يسارية أصوليا . هذا الكتاب سيبرز تاريخا بديلا لليبرالية الأمريكية ليس من شأنه الكشف عن جذورها وارتباطاتها مع الفاشية التقليدية ولكن أيضا كيف أن معيار الفاشية تم نسبه بالخديعة الى اليمين . في الحقيقة فإن المحافظين يمثلون الليبرالية الاصلية التقليدية ، بينما العديد ممن يدعون بالليبراليين هم فاشيون ” لطفاء ” .

الان انا لا أقول أن جميع الليبراليين فاشيون ، ولا أن اعتقادك بأن العلاج يجب أن يوزع على كافة أفراد المجتمع عبر ما يدفعه الشعب كضرائب أو بسن قوانين تمنع التدخين دليلا على كونك نازي باطنيا . ما اريد فعله اساسا هو تفكيك هذا الاعتقاد الصلد في عرفنا السياسي بأن المحافظية الأمريكية هي فرع او ابنة عم للفاشية ، بينما في الحقيقة – كما سأحاول ان اثبت – فإن العديد من الأفكار و الدوافع التي تشكل ما نسميه لبرالية حاليا تأتي عبر تقليد ثقافي يقود مباشرة الى الفاشية . هذه الأفكار كانت محل إجلال من الفاشية واستمرت من نواحي مهمه فاشية الطبع .

لا يمكننا بسهولة رصد تلك التشابهات والتواصليات في وقتنا الحالي ، لان حقل التحليل التاريخي تم وقفه عبر محرقة اليهود . قبل الحرب ، كانت الفاشية ترى بشكل واسع كحركة اجتماعية تقدمية مصحوبة بالعديد من الاتباع والمهتمين اليساريين والليبراليين في أوروبا والولايات المتحدة . الرعب الناتج من تلك المحرقة غير رؤيتنا عن الفاشية بشكل كامل الى أنها شيء ما شرير بشكل متفرد ومرتبط بشكل وثيق ومحكم بالقومية المتطرفة ومرض الارتياب والتصفية العرقية . بعد الحرب ،فإن التقدمية الأمريكية التي كانت تجل موسوليني بل وحتى تعاطفت مع هتلر في 1920 و1930 ، كان يجب عليها أن تنأى بنفسها عن شرور النازية . وفقا لذلك ، قام المثقفون اليساريون بإعادة تعريف الفاشية على أنها ” الحزب اليميني ” وطرحوا جميع خطاياهم على المحافظين حتى وهم واصلوا الاستعارة بشكل مكثف من الأفكار الفاشية أو المناصرة للفاشية . الكثير من هذا التاريخ البديل سهل العثور عليه ، اذا كنت تملك عينين لتراه ! المشكلة تكمن في أن السياقات الليبرالية /التقدمية التي تربينا عليها تميل الى إخفاء تلك الحقائق المغايرة والغير مريحة وتهميش ما هو مركزي بحق .

للمبتدئين ، انها ببساطة لحقيقة أنه في العشرينيات من القرن العشرين ، كانت الفاشية و الافكار الفاشية منتشرة في اليسار الأمريكي . ” أن الفاشية قد أزكمت انف New Masses … ” [ مجلة ماركسية كانت تنشر في الولايات المتحدة من 1926 حتى 1948] . يكتب John Patrick في الصحيفة اليسارية العتيدة ” لهو أمر صحيح بعد 1930 ، لأنه عند المتطرفين في العشرينيات ، كانت النفحة القادمة من إيطاليا لا تحمل أي رائحة كريهة ” . كان هناك سبب لهذا . الآباء الموجدون لليبرالية الحديثة – الرجال والنساء الذين مهدوا الأرضية الثقافية لما يسمى New Deal [سلسلة برامج محلية طبقت في امريكا في الفترة ما بين 1933-1937 كردة فعل على الكساد العظيم ] ودولة الرفاهية – اعتقدوا أن الفاشية فكرة جيدة . أو لكي أكون منصفا ، العديد ببساطة اعتقدوا ( بوحي من براغماتيةDewey ) أنها ” تجربة ” جديرة بالاهتمام . أكثر من ذلك ، بينما ازدادت لاحقا رائحة الفاشية الإيطالية رداءة في أنوف اليسار واليمين الامريكيين ( بشكل ملحوظ بعد 1930 على فكرة ) ، فإن السبب وراء نفورهم لم يكن صادرا عن اختلافات أيديولوجية عميقة . وعوضا عن ذلك ، اختار اليسار الأمريكي فريقا اخر – فريق الشيوعيين – وأقسموا بالولاء لما يمليه عليهم عن الفاشية . كما وأنه عند اليساريين الليبراليين غير الشيوعيين ، في الوقت الذي كانت كلمة ” فاشي ” ذات سمعة رديئة ، فإن العديد من الأفكار والدوافع الفاشية تم الترحيب بها .

قريبا من هذا الوقت ، تعثر موسوليني بتكتيك ذكي جدا قام ببساطة بوسم كل الأفكار والحركات غير المريحة بالفاشية . الاشتراكيون والتقدميون الذي اصطفوا بجانب موسكو كانوا يدعون بالاشتراكيين أو التقدميين . بينما الاشتراكيين الذين لم يدينوا بالولاء لموسكو كان يطلق عليهم فاشيين . نظرية ستالين في الفاشية الاشتراكية تجعل حتى Franklin Roosevelt فاشي ، طبقا للشيوعيين المخلصين في كل مكان . ودعونا نتذكر أن Leon Trotsky اشتهر بمقتله جراء مزاعم تحضيره ” انقلابا فاشيا ” . بينما تم استهجان هذا التكتيك لاحقا من قبل العقلاء اليساريون ، فإنه من المثير للدهشة كيف انطلت تلك الحيلة على العديد من الأغبياء ذلك الوقت وكيف امتد عمرها الثقافي .

قبل المحرقة وقبل عقيدة موسوليني في الفاشية الاشتراكية ، كان الليبراليون أكثر نزاهة في إعلان إعجابهم بالفاشية . خلال الفترة ” البراغماتية ” في العشرينيات وبداية الثلاثينيات كان جمهور المثقفين الليبراليين الغربيين والعديد من الصحفيين معجبين بالتجربة الموسولينية بينما كان العديد من التقدميين مفتونين بالنازية أيضا. على سبيل المثال ، فإن W.E.B. DuBois كان لديه مشاعر معقدة جدا ومختلطة بخصوص بزوغ نجم هتلر ومحنة اليهود ، حيث كان يعتقد أن الاشتراكية الوطنية هي النموذج الامثل للتنظيم الاقتصادي . كتب معلقا على بناء الديكتاتورية النازية أنها ” قطعا ضرورية لتنظيم الدولة ” تمهيدا للتعريف التقدمي للديموقراطية على أنها مركزية الدولة التكافؤية . القى DeBois خطابا في Harlem عام 1937 ادعى فيه ” هناك اليوم ديموقراطية في المانيا أكثر من أي وقت مضى ” .

لسنوات كان البعض من مما يدعى باليمين القديم يجادل بأن ما قام به Franklin D. Roosevelt ( New Deal ) كان فاشيا و/أو مستوحى من فاشيين . هنالك الكثير من الحقيقة في هذا القول ، حيث اعترف بهذا على مضض العديد من المؤرخين الليبراليين . لكن ، أن يكون New Deal برنامجا فاشيا كان بالكاد نقدا يمينيا استثنائيا في الثلاثينيات . في الواقع ، فإن الذين قاموا بهذا النوع من النقد كالبطل الديموقراطي Al Smith و الجمهوري التقدمي Herbert Hoover تم وصمهم بأنهم يمينيين مجانين وأنهم هم الفاشيون الحقيقيون . Norman Thomas ، رئيس الحزب الاشتراكي الامريكي ، اتهم لمرات عدة New Deal بأنه فاشي أساسا . الشيوعيون المخلصون لموسكو – أو الأغبياء النافعين من عبيد ستالين – فقط من يستطيعون القول بأن Thomas كان يمينيا أو فاشيا . لكن هذا هو بالتحديد ما فعلوه !

الأكثر جلاء من ذلك ، أن المدافعين عن Franklin D. Roosevelt اعترفوا بأريحية بإعجابهم بالفاشية . Rexford Guy Tugwell ، عضو مؤثر في Brains Trust [ جماعة من ثلاثة اكاديميين جمعهم روزفلت لمساندته في حملته الانتخابية ] ، قال عن الفاشية الايطالية ” انها الأنظف والاكثر تناسقا وفاعلية من بين قطع التشغيل في الالة الاجتماعية التي أعرف ، انها تشعرني بالحسد ” . ” نحن نقوم بتجربة الاقتصاد الفاشي دون ان نعاني جريرتها السياسية والاجتماعية المدمرة ” كما يقول George Soule محرر مجلة New Republic ، أحد المتعاطفين الداعمين لإدارة روزفلت .

لكن هذا النقاش الطويل يفشل في رؤية نقطة مهمة غالبا ما تكون خفية . صحيح أن New Deal كانت تحاكي الفاشية ، ولكن ايطاليا وألمانيا كانت نماذج فرعية ، فالتأكيدات اللاحقة تشير إلى أن الليبراليين كانوا إلى اليمين اقرب . الإلهام الحقيقي خلف New Deal كان فترة رئاسة Wilson خلال الحرب العالمية الأولى . هذا ليس سرا ، في الحقيقة فإن حجتي في هذا الكتاب أن أمريكا خلال الحرب العالمية الأولى أصبحت دولة فاشية وإن لفترة محدودة . الظهور الأول للشمولية الحديثة في العالم الغربي لم يكن في ايطاليا أو ألمانيا بل في الولايات المتحدة الأمريكية . هل يمكنك إيجاد وصفا مغايرا لدولة تم فيها انشاء وزارة للدعاية السياسية لأول مرة في العالم ، والاف السجناء السياسيين تعرضوا للمضايقات والضرب والرمي في السجون فقط لأنهم عبروا عن آرائهم الخاصة ، و فيها اتهم القائد الوطني الأجانب والمهاجرين بأنهم يحقنون دماء الخيانة في عروق الأمريكيين ، واغلقت فيها المجلات والصحف لنقدها للحكومة ، وتم فيها ارسال ما يقارب مئة الف عميل دعاية حكومية بين الناس لتحفيز الدعم للحكومة وحربها ، وفيها فرض الدكاترة في الكليات والجامعات على زملائهم القسم بالولاء ، وفيها كان الرواد من الفنانين والكتاب يكرسون أعمالهم للتبشير لصالح الحكومة ؟

السبب في ان العديد من التقدميين كانوا مفتونين بـ” تجارب ” موسوليني ولينين بسيط جدا ، لقد شاهدوا بأم اعينهم تأثيرها ونتيجتها في أوروبا . فلسفيا وتنظيميا وسياسيا كان التقدميين في مطابقتهم للنسخة الأصلية للفاشية تماما كأي حركة أنتجتها امريكا . ممتلئون بالروح العسكرية ، قوميون متعصبون ، عنصريون ، استعماريون ، منخرطون بعمق في الترويج لتحسين النسل الداروني ، متيمون بالنموذج البشماركي لدولة الرفاهية ، دولانيون [ نسبة إلى الدولة ] حتى النخاع . التقدميون مثلوا مرحلة الازدهار للحركة العابرة للمحيط الأطلسي ، اعادة التوجيه العميقة صوب الجماعية الهيجلية / الدارونية المستوردة من اوروبا في نهاية القرن التاسع عشر . في هذا المشهد ، كان كلا إدارتي Wilson و FDR سليلتين للحركة الفاشية الأولى ، الثورة الفرنسية !

ومع نعمة الإدراك المتأخر ، فإنه من الصعوبة بمكان فهم لماذا يشكك أحدهم في الطبيعة الفاشية للثورة الفرنسية . فهنالك قلة تشكك في أنها كانت ثورة شمولية ، إرهابية ، قومية ، تآمرية وشعبوية . الثورة الفرنسية أنتجت أول طغاة العصر الحديث روبسبير ونابوليون ، وعملت جاهدة على ترسيخ مقولة أن الدولة يجب أن تحكم من متنور عصري يمثل الصوت العضوي لإرادة الشعب . العقلية اليعقوبية الارتيابية جعلت الثوار أكثر همجية وقسوة من الملك الذي ثاروا عليه نفسه . فما يقارب الخمسين ألف قضوا نحبهم بسبب ذلك الإرهاب . العديد منهم قتلوا في تلك المحاكمات السياسية المسرحية التي يصفها Simon Schama بأنها ” وثيقة التأسيس للعدالة الشمولية ” . روبيسبير يلخص منطق الثورة الشمولي قائلا ” هناك حزبين فقط في فرنسا ، حزب الشعب وحزب أعدائهم ، ويجب علينا إبادة أولئك الأوغاد البائسين الذين يتآمرون منذ الأزل على حقوق الإنسان ..  يجب علينا إبادة أعدائنا ”  .

لكن في الحقيقة ما جعل الثورة الفرنسية أول ثورة فاشية هي جهودها لتحويل السياسة إلى دين ( في هذا السياق كان الثوار ملهمين بروسو الذي كان مفهومه للإرادة العامة يؤله ويرفع من شأن الشعب ويخفض من شأن الفرد والمصالح الشخصية ) . وتبعا لذلك أعلن الثوار الحرب على المسيحية بهدف تطهير المجتمع منها واستبدالها بدين ” علماني ” يتشارك في آرائه مع الأجندة اليعقوبية . المئات من الاحتفالات وثنية الطابع كانت تقام للاحتفال  بالأمة ، العقل ، الأخوة ، الحرية و العديد من الأفكار التجريدية  لتطهير الدولة والإرادة العامة في عصر القداسة ذاك . وكما سنرى ، فالنازية قلدت اليعقوبية حتى في التفاصيل الصغيرة .

من المسلم به الان أن الثورة الفرنسية كانت تدميرية ووحشية  لكن من الصعب جدا القول بأنها كانت فاشية ، لأن الثورة الفرنسية كانت المصدر والأصل لليسار و ” التقاليد الثورية ” . اليمين الأمريكي والليبراليون التقليديون نظروا بإعجاب الى الثورة الأمريكية – التي كانت ذات نزعة محافظية بالضرورة – بينما كانوا يرتجفون خيفة من شرور وحماقات اليعاقبة .  لكن إذا كانت الثورة الفرنسية فاشية ، اذا فمن المفترض أن يرى ورثتها على أنهم نتاج هذه الشجرة المسمومة ، و الفاشية بحد ذاتها سيتم وضعها بشكل صحيح ونهائي حيث تنتمي ، أعني الى اليسار . ولكن هذا كان سيسبب زلزلة وفوضى في النظرة العالمية لليسار ، لذا عوضا عن ذلك ، رحب اليسار بالنشاز المعرفي والانحراف المصطلحي كحل متوفر وقتها .

في نفس الوقت ، يجب ملاحظة أن الأكاديميين يعانون من صعوبة شرح ماهية الفاشية لأن الفاشيات المتعددة كانت مختلفة بشكل كبير جدا . على سبيل المثال ، النازيون يفضلون الإبادة الجماعية للساميين ، بينما الفاشيون الإيطاليون كانوا حامين لليهود الى الفترة التي استولى فيها النازيون على ايطاليا . الفاشيون حاربوا مع دول الحلف بينما الإسبان تجنبوا خوض تلك الحرب ( وكانوا حامين لليهود أيضا ) . النازيون كرهوا المسيحية بينما الإيطاليون كانوا يعيشون بسلام مع الكنيسة الكاثوليكية ( رغم مقت موسوليني الشديد لها ) ، والعديد من أعضاء الفيلق الروماني في جيش ميكائيل الملائكي كانوا يصفون ويرون أنفسهم على أنهم صليبيين مسيحيين . بعض الفاشيين يؤمنون برأسمالية الدولة ، بينما آخرون كالحزب الوطني الصيني طالبوا بوضع اليد الفوري على موارد الانتاج . النازيون كانوا معادين رسميين للبلشفية ، ولكن كانت هناك حركة ” البلشفية الوطنية ” في داخل الكيان النازي أيضا .

الشيء الوحيد الذي يجمع كل هذه الحركات هو أنهم كانوا جميعا – بطرقهم الخاصة – شموليين . لكن ما الذي نعنيه بقولنا ( شموليين ) ؟ الكلمة بالتأكيد أخذت مغزى سيء قابل للفهم في نصف القرن الماضي . بفضل أعمال حنة أرندت و Zbigniew Brzezinski  وآخرين كثر أصبحت الكلمة حاوية للقسوة ، قتل الروح ، والحكومات الاورويلية [ نسبة الى Orwell ] . لكن هذا لم يكن ما استخدمت لأجله الكلمة أساسا ولا ما عنيت به . موسوليني نفسه سك هذه الكلمة لوصف مجتمع ينتمي إليه الجميع ، حيث يتم الاعتناء بكل فرد ، حيث كل شيء داخل الدولة ولا شيء خارجها ، مجتمع يكون فيه بحقيقة “ No Child Left Behind” [ بهذا الاسم تم اصدار تشريع في الكونجرس الامريكي عام 2000 ] .

مجددا ، فإن مجادلتي في هذا الكتاب هي أن الليبرالية الامريكية نظام سياسي شمولي ، ولكن ليس بالضرورة أورويلي . هي طيبة ولكن وحشية ، حاضنة وليست متنمرة . ولكنها بالتأكيد شمولية – أو ” كلية ” ان كنت تفضل – بمعنى أن الليبرالية حاليا ترى أنه لا وجود لفضاء بشري خلف ما تحدده السياسة ، ابتداء بما تأكل ومرورا بما تدخن وانتهاء بما تقول . الجنس أصبح سياسيا ، الطعام صار سياسيا ، الرياضة ، الترفيه ، دوافعك الداخلية ومظهرك الخارجي ، كل ذلك أصبح ذا اهمية سياسية عند الليبراليين الفاشيين . الليبراليون وضعوا إيمانهم في الخبراء الكهنوتيين الذين يعلمون ما هو الأفضل ، يخططون ، يعظون ، ويوبخون . إنهم يستخدمون العلم للتقليل من قيمة الأفكار التقليدية في الدين والإيمان ، لكنهم يتكلمون بلغة الروحانية والتعددية للدفاع عن المعتقدات ” الغير تقليدية ” . تماما كما في الفاشية التقليدية ، فالليبراليين الفاشيين يتحدثون عن ” طريق ثالث ” بين اليمين واليسار حيث تتواجد جميع الأشياء بتناغم و حيث تكون الخيارات الصعبة ” خيارات خاطئة ” !

الفكرة القائلة بعدم وجود الخيارات الصعبة – أي اختيارات بين اشياء صائبة متنافسة – هي فكرة دينية وشمولية لأنها تفترض أن جميع الأشياء الجيدة هي في الأساس ملائمة . نسخة الليبرالية المحافظة أو التقليدية تفهم جيدا أن الحياة غير عادلة ، أن الإنسان غير كامل ، وأن المجتمع الكامل الوحيد ، المدينة الفاضلة الحقيقية ، تنتظرنا في الحياة الأخرى .

الفاشية الليبرالية تختلف عن الليبرالية التقليدية من نواح عدة ، انا لا أنكر هذا . الفاشيون يختلفون عن بعضهم البعض لأنهم نبتوا من تربات مختلفة . ما يجمعهم هي دوافعهم الغريزية والعاطفية كالبحث الدؤوب عن المجتمع ، الحاجة الى ” الذهاب الى ما وراء ” السياسة ، الإيمان بالكمال البشري وسلطة الخبراء ، الهوس بجمالية الشباب  ، عبادة العمل ، والحاجة الى دولة قوية لتنظيم المجتمع على الصعيد الوطني والعالمي . الأكثر من ذلك ، أنهم يتشاركون الاعتقاد – ما أسميه الغواية الشمولية – بأننا بالقدر الصحيح من الإصلاحات نستطيع الوصول إلى الحلم الطوباوي و” خلق عالم أفضل ” . لكن وكما ينطبق على كل شيء في التاريخ ، فالزمان والمكان عاملين مهمين . والفروقات بين الفاشيات المتعددة قد تكون عميقة جدا . النازية كانت نتاج الثقافة الالمانية ، خرجت من سياق ألماني . المحرقة لم تكن لتحدث في إيطاليا ، لأن الايطاليين ليسوا ألمان . وفي أمريكا ، حيث العداء للحكومة الكبيرة مركزي لدى الشخصية الوطنية ، فإن الدولانية يجب أن تقدم تحت غطاء البراغماتية والنزاهة . بمعنى آخر ، فاشيتنا يجب أن تكون لطيفة ولمصلحتك الخاصة .

التقدمية الأمريكية ، التي تحدرت منها الليبرالية الحالية ، كانت نوعا من الفاشية المسيحية ( العديد اطلقوا عليها  الاشتراكية المسيحية ) . من الصعب على الليبراليين المحدثين الإلمام بهذا المفهوم لأنهم اعتادوا رؤية التقدميين على أنهم الذين نظفوا موارد الغذاء وطالبوا بتحديد ساعات العمل اليومية بثمان ساعات وأنهوا تشغيل الأطفال كعمال . لكن الليبراليين غالبا ينسون أن التقدمية كانت استعمارية ، في الداخل وفي العالم الخارجي . وأن التقدمية كانت وراء منع الخمور ، مداهمات Palmer [ حملة اعتقالات لليساريين الأمريكيين المتطرفين قام بها المدعي العام Alexander    Palmer في عامي 1919-1920 ] ، أبحاث تحسين النسل ، عهود الاخلاص والولاء ، وأيضا – في التجسيد الحديث لها – ما يسميه العديد منا ” رأسمالية الدولة ” .

كثير من الليبراليين ينسون البعد الديني للتقدمية لأنهم يميلون إلى رؤية الدين والسياسة التقدمية كأضداد بشكل كامل . لذلك بينما الليبراليين الذين يتذكرون حركة المطالبة بالحقوق المدنية يعترفون بالدور الذي لعبته الكنائس في تلك الحركة ، فإنهم لا يرونها على اتصال مع الحملات الصليبية التقدمية والمستوحاة دينيا كحملات الإجهاض وضبط النفس [ حملة ضبط النفس حركة مجتمعية كانت تندد بشرب الكحوليات في بداية القرن التاسع عشر ] . الفاشية الليبرالية المعاصرة تتحاشى الحديث عن المسيحية في أغلب الأوقات ، إلا عندما تريد أن تخفض من تأثيرها حيث تريد ( رغم أن هناك نسخة من الجناح اليميني تدعى غالبا بالمحافظية المتعاطفة قد شقت طريقها في حزب الجمهوريين ) . لكن بينما الحديث عن الله قد ألقي بجانب الطريق ، فإن الروح الصليبية الدينية التي دعمت التقدمية وقوتها لا تزال قوية كما كانت . وعوضا عن التكلم بلغة ومصطلحات دينية ، يستخدم الليبراليون المعاصرون المصطلح المعلمن ” الأمل ” ويشيدون فلسفات روحية بشكل واضح مثل ” فلسفة المعنى ” الخاصة بهيلاري كلينتون . على نحو مماثل ، فالعنصرية المقيتة التي غذت تحسين النسل التقدمي لدى Margaret Sanger قد ذابت واختفت . لكن الليبراليين الفاشيين ما زالوا عنصريين بطريقتهم اللطيفة الخاصة ، مؤمنين بتبجيل السود وبديمومة ذنب الرجل الأبيض ،  ومن ثم التبرير الأبدي لخطيئة الأبيض . بينما قد أحاج بأن هذا سيء وغير مرغوب به ، فإني لا أحلم حتى بالقول أن الليبراليين في وقتنا هذا مناصرون للإبادة الجماعية أو وحشيون في مواقفهم السياسية كما كان النازيون . لكن يظل من الواجب ملاحظة أن يسار ما بعد الحداثة يتكلم بمصطلحات يفهمها النازيون جيدا . بالتأكيد ، أفكار مثل ” منطق الأبيض ” و ” استمرارية العرق ” لم تكن فقط مفهومة عند النازيين بل وفي بعض الحالات مبتكرة من قبلهم . المؤرخة Anne Harrington  تلاحظ أن ” الكلمات المفتاحية  في مفردات ما بعد الحداثة ( التقويضية و مركزية العقل ) لها بالفعل جذور في الأوراق المعادية للعلم التي كتبها نازيون فاشيون متقدمون مثل Ernst Krieck و Ludwig Klages ” .

أول ظهور لكلمة Dekonstrucktion كان في مجلة نازية عن علم النفس يشرف على تحريرها ابن عم Hermann Göring . العديد من اليساريين يتكلمون عن تدمير ” سيادة الأبيض ” بطريقة تسترجع ذكرى جهود الاشتراكيين القوميين في إقصاء اليهود من المجتمع الألماني . مما يدل على ذلك بالتأكيد ، أن الرجل الذي أشرف على الواجهة القانونية لهذا المشروع ، أعني Carl Schmitt ، مشهور بشكل واسع في أوساط الأكاديميين اليساريين . الليبراليون الممثلون للاتجاه السائد لا يتفقون بالضرورة مع أولئك المثقفين ، ولكنهم حقا ينظرون إليهم بنظرة تبجيل واحترام قد تعني غالبا ترحابا وقبولا ضمنيا .

يتبقى حقيقة بسيطة ، التقدميون قاموا بالعديد من الأشياء التي قد نسميها بموضوعية في وقتنا الحالي بفاشية ، والفاشيون قاموا بالعديد من الأشياء التي قد نسميها موضوعيا بتقدمية. تجلية هذا التعارض الظاهري ، وإظهار لماذا هذا في الحقيقة ليس تعارضا هي من الأهداف الكبرى لهذا الكتاب .ولكن هذا لا يعني بأي حال أني أسمي الليبراليين بالنازيين.

دعوني أضعها بهذه الطريقة ، لا يوجد شخص جاد ينكر أن للأفكار الماركسية تأثير عميق على ما نسميه الليبرالية . الإشارة إلى ذلك لا تعني أن باراك اوباما مثلا ستاليني أو شيوعي . قد يذهب أحد ما أبعد من ذلك ويقول بأن العديد من الليبراليين البارزين واليساريين في القرن العشرين خفضوا باجتهاد من شرور وأخطار الشيوعية السوفيتية ، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه سيكون من العدل بمكان القول بأنهم بالفعل يفضلون جرائم التطهير العرقي التي قام بها ستالين . من القسوة إطلاق وصف النازي على أحدهم لأن ذلك يفترض زورا تعاطفه مع المحرقة . لكن من الصواب الافتراض أن الفاشية كانت هي العقيدة خلف إبادة اليهود . إذا كنت تحتاج إلى تمييز ذلك بوسم خاص ، فلتطلق عليه هتلرية ، لأن هتلر لن يكون هو هتلر بدون العنصرية التطهيرية . وحيث أن هتلر كان فاشيا ، فلا يجب مرادفة الفاشية بالهتلرية .

على سبيل المثال ، يجب ملاحظة أن اليهود كان يتم تمثيلهم بشكل كبير في الحزب الفاشي الايطالي وظلوا كذلك منذ بداية العشرينيات وحتى عام 1938 . لم يكن في ايطاليا الفاشية اشياء كمخيمات الموت . لا يوجد يهودي واحد من أي جنسية كانت تحت الحكم الايطالي في أي مكان في العالم وتم تسليمه الى المانيا الى عام 1943 ، حين احتل النازيون ايطاليا . اليهود في ايطاليا نجوا من الحرب بمعدلات كبيرة مقارنة بأي مكان آخر تحت حكم الحلف ، واليهود في المناطق الأوروبية المحكومة من قبل ايطاليا كانت لهم نفس المعاملة في الغالب . موسوليني قام فعلا بإرسال جيوش بطرق كانت مضرة بهم فقط لإنقاذ اليهود . Francisco Franco ، الدكتاتور الفاشي المثالي المزعوم ، أيضا رفض مطالب هتلر بتسليم اليهود الاسبان منقذا بذلك عشرات الالاف من اليهود من الفناء . لقد كان فرانكو هو من وقع وثيقة الغاء مرسوم 1492 والقاضي بنفي اليهود من اسبانيا . وفي هذه الأثناء ، تعاون ” الليبراليون ” الفرنسيون والهولنديون بنشاط مع برنامج التهجير النازي .

ما دمت وصلت الى هذه النقطة ، فلابد من بعض التأكيدات التي من المفترض بها ان تكون واضحة ، لكنها ضرورية لمنع احتمالية أي سوء فهم أو أي تحريف لكلامي من قبل النقاد العدائيين . أنا أحب هذه الدولة ، ولدي إيمان عميق بأنها خيرة ونزيهة . ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن أتصور نظاما فاشيا يتسلم مقاليد الحكم هنا ، فما بالك بحدث كالمحرقة . هذا لأن الأمريكيين ، جميعهم – ليبراليين ، محافظين ، محايدين ، سود ، بيض ، لاتينيين ، آسيويين – تم تشكيلهم بثقافة ديموقراطية ، حرة ، ومساواتية  ، قوية بالدرجة الكافية لردع ومقاومة أي اغراءات شمولية . إذا كلا ، لا أعتقد أن الليبراليين أشرار ، حقيرون ، أو متعصبون بالمعنى الذي توحيه المقارنات التقليدية بالنازية . اللقب الفكاهي الذي يتم اطلاقه على هيلاري كلينتون ( هيتلاري ) لا يقل طفولية عن نغمة الطنبور المتواصلة ( بوشيتلر ) [ أي بوش وهتلر ] التي يسمعها أحدنا في اليسار . الأمريكيون الذي شجعوا موسوليني في العشرينيات لا يمكن أبدا محاسبتهم على ما فعله هتلر بعد عقدين ، والليبراليون الحاليين غير مسؤولين عما آمن به أسلافهم الثقافيين ، مع أنه يجب عليهم شرح ذلك والتكلم عنه!

ولكن في نفس الوقت ، فإن جرائم هتلر لا تمحي التشابهات بين التقدمية – المسماة حاليا بالليبرالية – وبين الأيديولوجيات والأفكار التي أتت بهتلر و موسوليني الى السلطة . على سبيل المثال ، فإنه من المتعارف عليه منذ وقت طويل أن النازيين كانوا اقتصاديين شعبويين ، متأثرين بقوة بالأفكار ذاتها التي حفزت الشعبويين الأمريكيين والبريطانيين . وكما يتم غض النظر عن هذه الحقيقة من قبل المؤرخين الليبراليين ، فإن في الشعبوية الأمريكية العديد من الخطوط المعادية للسامية و التآمرية . رسم كاريكاتوري في أحد المنشورات الشعبوية يصور العالم وهو مقبوض عليه بين أذرعة أخطبوط يجلس على الجزر البريطانية . كان مكتوبا على الأخطبوط ” Rothschild ” [ عائلة يهودية أنشأت مؤسسة تجارية عالمية اشتهرت بتدخلاتها في السياسات العالمية ] . صحافي في أحد المؤتمرات ، الاجتماع الشعبوي لعام 1896 ، لاحظ ” الكراهية الغير اعتيادية للعرق اليهودي ” في العرض . الأب Charles Coughlin ” قسيس الإذاعة ” ، كان واعظا شعبويا ينتمي الى اليسار ، ومنظرا تآمريا ، وكانت معاداته للسامية معروفة جيدا عند الليبراليين المؤسسين حتى عندما دافعوا عن الديماغوجي المناصر لروزفلت بوصفه ” يصطف بجانب الملائكة ” .

في وقتنا الحالي ، تنتشر نظريات المؤامرة الشعبوية كالنار في الهشيم في الأوساط اليسارية . ثلث الأمريكان يؤمنون بأنه محتمل ” جدا ” أو ” بطريقة ما ” أن الحكومة دبرت ( أو سمحت ) بأحداث الحادي عشر من سبتمبر . الذعر من تأثير ” اللوبي اليهودي ” أصاب بنسبة كبيرة اليسار الأوروبي – وأيضا بالطبع الشعبوية المسمومة المعادية للسامية والهتلرية بحق لدى ” الشارع ” العربي في ظل أنظمة يعدها الغالبية بالفاشية . لا أود القول بأن اليسار يرحب باللاسامية الهتلرية . عوضا عن ذلك ، إنه يرحب بالشعبوية ويتسامح مع اللاسامية بشكل خطير وجدير بالحذر . أيضا ، من الجدير بالذكر أن نجاح النازية في Weimar بألمانيا ناتج عن عدم رغبة العقلاء حملها محمل الجد .

هناك تشابهات أخرى بين أفكار الفاشية بنسختيها الإيطالية والألمانية وبين الليبرالية الأمريكية الحديثة . على سبيل المثال فإن هيمنة الشركات التي هي من صميم الاقتصادي الليبرالي أصبحت ترى اليوم على أنها حصنا منيعا في وجه حزب اليمين . ومع ذلك فإن أفكار بيل و هيلاري كلينتون وجون كيري وآل قور وروبرت رييتش متشابهة إلى حد كبير مع أيديولوجيات” “ Third Way التي أنتجت الاقتصادات الفاشية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين . بلا شك  أن استيلاء الليبرالية المعاصرة على ”  “ New Dealكفيل بوضع الليبرالية الحديثة في شجرة عائلة الفاشية . أو خذ في الحسبان انفجار دعاة الصحة و حركة العصر الجديد في السنوات القريبة . من الحرب على التدخين ، مرورا بالهوس بحقوق الحيوانات ، وصولا إلى تقديس الأطعمة العضوية . لا أحد يناقش في كون هذه الصرعات نتاجا ثقافيا وسياسيا  لليسار . ولكن القلة فقط ينوون الاعتراف بحقيقة أننا قد رأينا هذا النوع من الأشياء من قبل . Heinrich Himmler كان ناشطا في مجال حقوق الحيوان و أحد المناصرين بشدة للتداوي الطبيعي . Rudolf Hess – مساعد ادولف هتلر – كان من دعاة الطب التجانسي والتداوي بالأعشاب . هتلر نفسه مع مستشاريه اقتطعوا ساعات من أوقاتهم لمناقشة ضرورة تحويل الشعب بأكمله إلى نباتيين كردة فعل تجاه سوء الصحة الذي ترعاه الرأسمالية . Dachau استضاف أكبر مختبر أبحاث في الطب البديل الذي أنتج عسلا عضويا . خلاصة القول أن أساليب مناهضة التدخين والرعاية الصحية النازية تختبئ تحت الحملات على الأطعمة المضرة والشحوم وغيرها في وقتنا الحالي . كان يكتب في منشورات Hitler Youth  أن ” التغذية ليست مسألة شخصية ! ” – وهي ترنيمة ترددها مؤسسة الصحة العامة حاليا . هوس النازية بالأطعمة العضوية والصحة الشخصية يلائم تماما نظرتها وفهمها لما يجب أن يكون عليه العالم . العديد من النازيين كانوا مقتنعين بأن المسيحية – التي تدعو إلى أن البشر مصممين للهيمنة على الطبيعة عوضا عن العيش بتناغم معها – والرأسمالية – التي عزلت البشر من مكانتهم الطبيعية – تتآمران للحط من الصحة الألمانية . في كتابه المشهور عن التغذية ، Hugo Kleine يلوم ” مصالح الرأسمالية الخاصة ” و ” الذكور أنصاف النساء اليهود ” على انحدار جودة الأغذية في ألمانيا ، والذي بدوره كان سببا لشيوع مرض السرطان ( هوس نازي آخر ) . الأطعمة العضوية كانت مرتبطة بما كان يصفه النازيون قديما – واليسار حاليا – بمسائل ” العدالة الاجتماعية ” .

هل أنت فاشي إن كنت مهتما بالصحة والتغذية والبيئة ؟ بالطبع كلا . الفاشي في الأمر هو فكرة انه في مجتمع طبيعي عضوي ، ليس للفرد أي حق في ألا يكون صحيا ، وبالتالي فإنه من واجب الدولة إجبارنا على أن نكون صحيين لأنه من مصلحتنا . إلى حد ان منظمات الصحة الحالية تجد في تحويل قوة الدولة وسطوتها إلى خدمة أهدافها ، في مغازلة مع الفاشية التقليدية . حتى ثقافيا ، فدعاة البيئة يسمحون بهذا النوع من التطفل والتنمر الأخلاقي الذي إن وضع في مصطلحات الأخلاق التقليدية لكان الليبراليون في عداد الفاشيين مباشرة .

في وقت كتابة هذا الكتاب ، أحد المشرعين في نيويورك يريد منع استخدام أجهزة iPods عند قطع الشارع . من غير القانوني في العديد من الأماكن في هذه الدولة أن تدخن في سيارتك أو حتى خارج المنزل إذا كان هناك أحد ما بالقرب منك . نسمع كثيرا أن المحافظين يريدون ” غزو غرف نومنا ” ، ولكن في الوقت الذي يذهب فيه هذا الكتاب إلى النشر ، فإن منظمة Greenpeace وغيرها يطلقون حملات ضخمة لـ ” تعليم ” الناس طريقة ممارسة الجنس الصديق للبيئة ! Greenpeace لديها قائمة مطولة من الخطوات اللازمة لـ ” القيام بذلك لأجل مصلحة العالم ” ! قد تكون عندك ثقة بان دعاة البيئة لا يرغبون بتحويل هذه الدعايات إلى قوانين في المستقبل ، لكني لا أملك تلك الثقة بعد تتبع حملات مشابهة أقيمت في الماضي . حرية التعبير أيضا ، فهي محل اعتداء فج عندما تكون مهمة أكثر – حملات الانتخابات –  وتكون مقدسة عندما لا تكون فعلا بتلك الاهمية – عند الحديث عن راقصات التعري ومواقع الإرهابيين الالكترونية . في كتابه ” الديموقراطية في أمريكا ” حذر Alexis de Tocqueville قائلا : ” يجب ألا ننسى أنه من الخطورة البالغة استعباد البشر في التفاصيل الصغيرة في حياتهم . بالنسية إلي ، فأنا أعتقد أن الحرية أقل ضرورة في الأشياء الكبيرة منها في الأشياء الصغيرة ” يبدو أن هذه الدولة قلبت هرم Tocqueville رأسا على عقب . فأصبح يجب علينا جميعا التخلي عن حرياتنا في الأشياء الصغيرة لكي تنعم تلك القلة من الناس بحريتهم كاملة .

لأجيال وأجيال كانت فكرتنا الأساسية عن الدستوبيا هي تلك التي أوردها Orwell في رواية 1984 . كان ذلك كابوسا مروعا عن القسوة الفاشية . ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي واضمحلال ذكريات انظمة القرن العشرين الفاشية والشيوعية ، فإن نسخة الكابوس الأورويلي تلاشت تدريجيا . وعوضا عنه ، يحل كتاب Aldous Huxley ( Brave New World ) كأكثر كتاب تنبؤي . في الوقت الذي نفك فيه شفرة الجينات ونمتلك القدرة على إسعاد الناس عبر شاشات ، تصبح السياسة أكثر وأكثر كمركبة لتوصيل السعادة المعلبة مسبقا . كان النظام السياسي الأمريكي قائما على البحث عن السعادة ، الآن أصبحنا نحن من نطالب بإيقاف البحث عنها ونريدها فقط أن تصل . ورغم أنه كان موضوع المقالات في الثانويات الأمريكية على مدى اجيال ، فإننا لم نقترب أبدا من إجابة سؤال : ما هو الخطأ بالتحديد في رواية Brave New World ؟ الإجابة ببساطة هكذا : إنه محال . فكرة أننا قادرون على خلق جنة أرضية عبر علم العقاقير والأدوية و علم الاعصاب هي طوباوية بنفس الدرجة التي لدى الماركسيين حين يأملون بخلق عالم أفضل عن طريق إعادة تنظيم وسائل الإنتاج . تاريخ النزعة الشمولية هو تاريخ ابتغاء تجاوز الوضع البشري وخلق مجتمع يكون فيه قدرنا وجوهرنا محددا ببساطة بحقيقة أننا فقط نعيش فيه . هذا مستحيل ! بل حتى ولو قلنا بإمكانية ذلك – كما هو دائما في حالة الليبرالية الفاشية ، يكون الجهد منصبا على كوننا إنسانيين – ستكون النتيجة حتما باتجاه الاستبداد والطغيان حيث تقوم مجموعة من الناس بفرض آرائهم عن الخير والسعادة على أولئك الذين لا يتشاركونها معهم .

التقديم لمصطلح كالليبرالية الفاشية كما اتضح يحتاج تفسيرا . مهما يكن كلام النقاد فلست أول من استخدم هذا المصطلح . فقد نال شرف استحداثه H. G. Wells ، أحد أعظم المؤثرين على العقل التقدمي في القرن العشرين ( وقد اتضح أنه بتأثير منه ، خرجت إلى الوجود رواية Brave New World ) . والجدير بالذكر أنه حتى Wells لم يكن يستخدم المصطلح كوصمة عار ، بل كوسام شرف ! التقدميون يجب أن يكونوا ” ليبراليون فاشيون ” و ” نازيين متنورين ” كما أخبر الليبراليين الشباب في خطاب له في أوكسفورد في July 1932 . Wells كان صوتا رائدا في ما أسميه اللحظة الفاشية ، عندما كانت العديد من النخب الغربية تنشد استبدال الكنيسة والتاج . لقد ركز عمله على الانتصار لفكرة أن الأشخاص المميزين – كالعلماء ورجال الدين والمحاربين – يجب أن يفرضوا التقدمية على العامة من اجل خلق ” جمهورية جديدة ” أو ” ثيوقراطية عالمية ” . فقط عبر التقدمية العسكرية يمكن للنوع البشري إقامة مملكة الرب . Wells كان مهووسا بالشمولية ، كما قال ” لم أستطع يوما الهروب من منطقها ” .

الفاشية ، كالتقدمية والشيوعية ، توسعية لأنها لا ترى حدودا طبيعية لطموحاتها ، وعند العديد من النظائر العدائية كالمسماة الفاشيوإسلامية ، هذا واضح بلا شك . لكن التقدمية أيضا لديها تصور عن نظام عالمي جديد . الحرب العالمية الأولى كانت ” حملة صليبية ” لتخليص العالم أجمع كما قال Woodrow Wilson . بل حتى وزير خارجيته William Jennings Bryan لم يزعزع نظرته إلى نظام مسيحي عالمي يأتي متكاملا مع منع للكحول على مستوى العالم !

أحد الاعتراضات على كل هذا قد يكون : وماذا إذا ؟!  إنه من الممتع معرفة أن بعض الليبراليين والتقدميين الأموات قد فكروا بهذا أو ذاك ، ولكن ما علاقة هذا بالليبراليين اليوم ؟

لدي جوابين عن هذا . الأول هو أن المحافظين في أمريكا قدر عليهم أن يحملوا تاريخهم الثقافي – الحقيقي والمدعى – حول رقابهم كقيد . فصحف النخبة الليبرالية ممتلئة بكتاب يشيرون إلى ” التاريخ المخبوء ” في خزانة تاريخ المحافظين . ربط هؤلاء باليمينيين الأموات ، مهما كان سخيفا ، يتم إبرازه كدليل على أن المحافظين اليوم هم فقط تكملة للمشروع . لماذا إذا من غير المهم الإشارة إلى أن خزانة الليبراليين فيها هيكل عظمي خاص بها  ، خصوصا عندما تكون تلك الهياكل من صنع الدولة الحديثة ؟

وهذا يجرني إلى الجواب الثاني . الليبرالية ، بعكس المحافظية ، غير مهتمة بتاريخها الثقافي . ولكن هذا لا يجعها أقل مديونية لذلك التاريخ . الليبرالية تقف على أكتاف عمالقتها وتظن أن أقدامها مغروسة في الأرض . يمكن تتبع تاريخها وصولا الى الحقبة التقدمية ، وهذه حقيقة يمكن لمسها عبر العادة الليبرالية في استخدام كلمة ” تقدمي ” دائما عند الحديث عن جوهرها أو مؤسساتها المنتجة لأفكارها ( Progressive Magazine و Progressive Policy Institute و The Center for American Progress وهلم جرا ) . أنا ببساطة أقاتل على أرضية اختارتها الليبرالية ذات نفسها ، فهم من أصروا على ربط المحافظين بالفاشية ، وهم من ادعى ان اقتصاد السوق الحرة فاشي وبالتالي فإن اقتصادهم هم أكثر فضيلة ، حتى وإن كانت الحقيقة هي العكس تماما .

الليبرالية اليوم لا تطمح إلى احتلال العالم بقوة السواعد . إنها ليست مشروعا قوميا او عرقيا . على العكس من ذلك ، إنها أيديولوجية قائمة على نوايا حسنة ، ولكننا جميعا نعلم أين يمكن ان تأخذنا حتى أحسن النوايا وأفضلها . لم أكتب هذا الكتاب لكي أقول بان الليبراليين نازيون أو فاشيون ، ولكن حاولت أن اكتب كتابا أحذر فيه من أن حتى أفضل ما فينا يضل عرضة لإغراء الاستبداد . وهذا يشمل حتى من يصفون أنفسهم بالمحافظين . المحافظون المتحمسون هم شكل آخر من التقدمية سليلة الاشتراكية المسيحية . تماما مثل George W. Bush ومقولته حول ” No Children Behind ” وكيف أنه ” عندما يتضرر أحد ما ، فإنه يجب على الحكومة أن تتحرك ” . هذه النوع من الأقوال يشي بحالة هي بالتأكيد استبدادية شمولية وليست محافظية بالمعنى الامريكي . مجددا ، إنها استبدادية لطيفة ، مستوحاة بلا شك من الحب المسيحي ، ولكن حتى الحب أيضا ، يكون قاتلا أحيانا . في الحقيقة ، حتى الغضب الذي كان يقابل به Bush بعض منتقديه يمكن تفسيره . فنواياه كانت حسنة ، ولكن اولئك الذين لا يشاركونه آراءه يرونها ظالمة . نفس الشيء صحيح في الجهة المقابلة . الليبراليون يتفقون مع نوايا Hillary Clinton ، إنهم فقط يصرحون بان من يراها ظالمة فهو فاشي .

أخيرا ، بما أننا يجب ان نضع تعريفا للفاشية ، فها هو تعريفي : الفاشية هي دين الدولة . إنها تفترض وحدة الجسد السياسي وتشرئب بعنقها نحو قائد قومي مخلص لما فيه منفعة الشعب . إنها استبدادية من حيث أنها ترى كل شيء سياسي ، وتبرر أي تصرف من الدولة بأنه في صالح الشعب ولأجله . إنها تضع على عاتقها مسؤولية تنظيم جميع جوانب الحياة ، بما في ذلك صحتنا وطريقة عيشنا ، وتفرض علينا وحدة في الأفكار والأفعال ، سواء بالقوة او بالقوانين أو بالضغط المجتمعي . كل شيء ، بما في ذلك الدين والاقتصاد ، يجب أن يكون في صف واحد مع اهدافها . أي هوية منافسة هي جزء من ” المشكلة ” وبالتالي يتم تصنيفها عدوا . سأحاج بأن الليبرالية الأمريكية المعاصرة هي تجسيد شامل لكل جوانب الفاشية .

 

رابط الجزء الثاني