مجلة حكمة
سترةٌ بيضاء وأسلوب لطيف، هكذا يكون الطبيب الجيد! - جيسيكا بارون / ترجمة: أحمد الخصيبيسترةٌ بيضاء وأسلوب لطيف، هكذا يكون الطبيب الجيد! - جيسيكا بارون / ترجمة: أحمد الخصيبي

سترةٌ بيضاء وأسلوب لطيف، هكذا يكون الطبيب الجيد! – جيسيكا بارون / ترجمة: أحمد الخصيبي

 

jessicapic
د. جيسيكا بارون، متخصصة في تاريخ فلسفة العلوم

يصعب تصديق أن أطباء الغرب الحديث يملكون قواسم مشتركة مع نظرائهم القدماء رغم تواجد المستشفيات الثرية وأجهزة التكنولوجيا فائقة التطور، وحتى مطلع القرن التاسع عشر، شغل الأطباء مكانة اجتماعية متواضعة تماما منذ عصر الرومان مرورا بعصور أوروبا الوسيطة، فقد عرّضوا أنفسهم للإهانة بتذوقهم بول مرضاهم كوسيلة للتشخيص؛ الامر الذي منحهم ألقاب مثل “متذوقي البول” و “أنبياء البول”. اليوم يتمتع الأطباء عموما بأوضاع مهنية أفضل لكن الأُسس المحددة لأسلوبهم ولباسهم ولباقتهم ظلت ثابتة وكما هي بشكل مذهل خلال 2500 عام.

 

كان مظهر الطبيب الأكثر مراقبة على مر التاريخ وأكثر من أي مهنة أخرى وبعناية بجانب مظهر الشرطي والجندي، وقد لا يكون الأمر محض صدفة كون عمل هؤلاء متعلق بالحياة والموت. عند الإغريق كان يُعالجُ المرضى أمام الملأ، حتى عند العلاج في البيوت كان هنالك غالبا من يتفرج على ذلك، ولَم تُعرف المستشفيات بشكلها الحالي حتى القرن التاسع الميلادي حيث بنى المسلمون أول بيماريستان في بغداد. كان بعض الازدهار متوقعا بسبب تواجد المشاهدين في كثير من الأحيان وعلى ما يبدو فإن قدامى أطباء الإغريق اجتمعوا بالتزامٍ معا تحت راية مؤلفٍ واحد يُحذر من استغلال وجذب المرضى عبر القبعات الفاخرة والعطور الفواحة فالغرابة الشديدة تكسبك السمعة السيئة وبالتقليل منها يصبح ذوقك جيدا.

 

ما زلنا نتوقع من أطبائنا الظهور بمظهر لائق وأنيق دون الإكثار من الزينة، أود لو أعود للماضي لأرى طبيبتي للرعاية الصحية مرتدية ألماسة كبيرة أو وشاحًا من ماركة هيرميس. فرغم إمكانية الأطباء إظهار بعض ميولهم الشخصية، إلا أن الأمر يظل محدودًا عموما. فقد بدأت هذه القيود عند الطبيب الإغريقي أبقراط وأخذت تُدعى بالمدرسة الأبقراطية. كما يُجمع المؤرخون بأن عدة أشخاص عملوا على كتابة حوالي 60 نصّا طبيا لأبقراط والتي يستعرض فيها بعض الخطوات الأولى تاريخيا التي تساعد على الإلمام بالطب. إنّ لُبّ المدرسة الأبقراطية يكمن في كونها منبع الأخلاقيات الطبية ومصدر القَسَم الذي بقي يؤديه كل الأطباء حتى يومنا هذا بعد الانتهاء من تدريبهم.

 

في نصٍّ لأبقراط بعنوان “اللباقة” يُرشد الأطباء إلى ارتداء زي لائق وبسيط لا تكثر فيه البهرجة بل يهدف إلى إضفاء سمعة جيدة ويكون متكيفاً مع التأمل والتفكير والحركة كما يرشد المؤلف الأبقراطي أطباء الجراحة على تفاصيل دقيقة مملة عن موضع الجسد وموقع أطرافهم خلال إجرائهم للعمليات كما أكّد على أن يكون اللباس منسجما جيد الكيّ مستويا متطابق المرفقين والأكتاف. وعلى ذكر ذلك تقتضي اليوم كلية ستانفورد للطب رداءً احترافيا ومتحفظا بسترة بيضاء نظيفة مغلقة ترتدى دائما، وتملي جامعة يوتاه للطب على الطلبة تفاصيل تجاه نوعية القماش المناسبة للبناطيل والتي يجب أن تكون ذات قماش أشد سماكة للحفاظ على المظهر المهني الاحترافي.

 

لكن هل تستحق فعلا ملابس الطبيب وعطره ومجوهراته كل هذا الاهتمام؟ وفقاً لأحد الأبحاث فإن إبراز الأسلوب بشكل مفرط وجلي يعد أكثر أهمية بكثير مما قد يتصوره المرء ففي دراسة أجريت عام 2013 على 337 مريضا في العناية المركزة، وجد الباحثون أن المرضى وعائلاتهم قد أعطوا انطباعا بأن الأطباء ذوي الرداء الأبيض هم أكثر معرفة وإخلاصا وكفاءة عوضًا عمن يرتدي الملابس “قصيرة الأكمام” اللارسمية. كما أُعلم المرضى في دراسة أخرى بالحقيقة التي تؤكد أن بإمكان السترة البيضاء نقل المرض لكنهم رغم ذلك ما زالوا يحبذونها على الأحذية الرياضية وبناطيل الجينز.

 

أشار علماء الاجتماع في سبعينيات القرن الماضي بأن التفاعل الاجتماعي قد يُعتبر نوعا من تجارب الأداء التي قد تُمثل الوسيلة الأمثل لتوضيح الصورة كاملةً للطبيب فلدينا مكان نموذجي وشخصيتان على الأقل تؤديان أدوارهما كما أن لدى كل أحد منهما زيّه المناسب، وتماشيا مع التيار نرى أن للطبيب نصّا مسرحيا يبدأ من خلاله المريض بذكر أعراض المرض يليها استجوابه متبوعا بالفحوصات والوخز التقليدي مع ذكر العلة مرفقا بنصيحة أو وصفة طبية للعليل قبل إنهاء الحوار بمشهد ختامي.

 

إن المظهر الخارجي هنا هو أبرز ما يميز الطبيب عن المريض، فأناقته وبراعته وحيويته يقابلها المريض بحالته الواهنة المعبرة عن حاجته. يجد المريض نفسه مقيدا بطقوسه أو بالأحرى بزيّه العادي والمخزي بينما يظهر الطبيب بزيٍّ لائق ومرتب وغالبا ما يكون متمما بسترة مختبر حديثة.

 

 

تعد السترة تطورا حديثا تمامًا والذي جاء بديلا للرداء الاسود الكئيب الذي اعتاد الأطباء ارتداءه حتى أواخر القرن التاسع عشر، عندها بدأ الأطباء بالظهور باللون الأبيض محاكاةً لزي رجال المختبرات لأجل إضفاء المصداقية على هذه مهنة الطب، لكن كون هذا الزي يخدم تأسيس سلطة طبية، فإنه أحياناً يطبقه جيداً. يعاني بعض الناس من متلازمة السترة البيضاء والتي تتسبب بارتفاع ضغط الدم وازدياد القلق والتوتر حال دخول الطبيب إليهم، كما يعاني بعضهم من هذه المتلازمة عند حضور أي شخص من الكادر الطبي بغض النظر عما يرتديه، لكن يقل شيوع المتلازمة عند معاملتهم من قبل الممرضات.

 

هذا إلى جانب حسن السلوك الذي يعتبر مؤهلًا لا يمكن تخيل أطبائنا من دونه. يحذر أبقراط في نصّه “اللباقة” بأن للقسوة أثرا سلبيا على الشخص المريض والسليم معا كما يشير إلى أن على الطبيب أن يكون هادئا متيقنا مما يقوله متحملا لطبيعة المكان متحفظا مرتبا زيّه، وأن يكون ذا خطاب حاسم شديد الإيجاز في كلامه ورزيناً. تأسس الطبيب الأبقراطي ليكون لطيف السلوك حازم التفكير ورصينا لا يسهل إبهاجه أو إثارة غضبه كما عليه أن يكون لطيفا مع المرضى وعائلاتهم لا يأخذه الفرح الشديد أو الضحك.

 

هنالك الآن تزايد في مجمل الأدلة التي تشير إلى أن نظرة المريض لشخصية الطبيب تؤثر في نتائجه الصحية، فنسبة صراحة ورضا الطبيب تزداد عند عرضهم على طبيب لا يكتفى بأن يكون مقتدرا وكفؤا فحسب بل ورحيما كذلك. إن اظهار الشفقة كما قد كُشف مؤخراً يؤثر إيجابا على اللذين يعانون من أمراض تشمل السمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم والربو وأمراض الرئة والعدوى وأمراض المفاصل.

 

يعد عندها عرض الطبيب المرئي جزءًا يبني الثقة والامتداد في علاقة الطبيب بمرضاه، لكن تزايد الطب المُنصبّ تركيزه على المريض وقدرة مرضى اليوم على صون أنفسهم بتسلحهم بالمعرفة الطبية يدفع المريض إلى أن يصبح زبونا أو مستهلكا أكثر من كونه محتاجا للمعونة. على أطباء القرن الحادي والعشرين الحفاظ على مكانتهم المهنية مع تخلصهم من كل ما تبقى من آثار ومسببات الترفع والتكبر، وللمرة الأولى منذ القرن الخامس قبل الميلاد فقد يحوي نصّ الحوار الطبي بين الطرفين على القدر ذاته من الأسطر.

المصدر