مجلة حكمة
دوكينز

ردًا على إلحاد دوكينز – جارى جاتينج / ترجمة: جميل أبو العباس

alexander-Gary-Gutting-credit-Andrew-Grant
الفيلسوف جارى جاتينج

ليس ثمة شك، أن مقالي الذي تم نشره في أول أغسطس، بعنوان “الفلسفة والإيمان” كان موجهًا في المقام الأول إلى المؤمنين بالأديان. والذي جادلت فيه بأن الإيمان ينبغي أن يسير جنبًا إلى جنب مع التفكير العقلاني، على الرغم من أن هذا التفكير قد يتطلب تساؤلات خطيرة حول إيمان مُعتقِديِّ الأديان. ومن ثمَّ، فإنني أعرب عن تقديري البالغ للتعليقات العديدة، والمتنوعة، وعن الصدق، والعاطفة التي عبَّر الكثيرون عن وجهات نظرهم من خلالها. ومن المثير، أن أكثر الردود العاطفية جاءت من غير المؤمنين الذين اعترضوا على ادعائي بأن الحجج الإلحادية المشهورة (مثل الحجج الإيمانية الشهيرة) لا تثبت استنتاجاتهم التي يؤمنون بها. وقد وجدت استياءً شديدًا بصفة خاصة على تعليقي السابق من أن حجج ريتشارد “دوكينز” خاطئة بشكل واضح. هذه النتيجة تدعم تقييمي السلبي. لذا فإنني سأركز على حجج دوكينز في كتابه “وهم الإله” الصادر عام 2006م.

تُعطي كتابة “دوكينز” انطباع الوضوح، ولكن أسلوبه المقروء يمكن أن يُغطيِّ الكثير من الالتباسات المفاهيمية الرئيسة. مثل: جوهر قضيته ضد وجود الله، كما لخصها في الصفحات من 188-189، ويبدو أنه ذهب إلى مثل هذا:

  • إنه توجد حاجة إلى شرح التصميم الواضح للكون.

  • الكون معقد للغاية.

  • مصمم الكون الذكي سيكون أكثر تعقيدًا إلى حد كبير.

  • المصمم المعقد يحتاج نفسه لتفسير.

  • لذلك، المصمم الذكي لا يُقدم تفسيرًا لتعقيد الكون.

  • من ناحية أخرى، فإن عمليات الانتقاء الطبيعي البسيطة (الفردية) يمكنها تفسير التصميم الواضح للكون.

  • وبالتالي، فإن المصمم الذكي (الله)، بالتأكيد غير موجود تقريبًا.

( لقد قمت هنا بصياغة حجة “دوكينز”  بشكل تخطيطي أكثر قليلًا مما فعل، وقمت بحذف تعليقاته على المتشابهات في الفيزياء للتفسيرات التي يوفرها الانتقاء الطبيعي للتصميم الظاهر في علم الأحياء).

فهذه الحجة، بصيغتها الحالية، تكون خاطئة. فالمقدمات (1-6)، إذا كانت صحيحة، تُظهر أن الله لا يمكن أن يُطرح كمفسر لتصميم العالَم الظاهر، والذي بالأحرى أن يكون شرحه عن طريق الانتقاء الطبيعي. فهذه المقدمات لا تفعل شيئًا لإثبات أن ” الله من المؤكد غير موجود تقريبًا”(189).

لكن الأفكار الكامنة وراء المقدمة الثالثة والرابعة تشير إلى خط الحجة الأكثر إقناعًا، التي يبدو أن “دوكينز”  يضعها في الاعتبار في مقاطع أخرى:

  • إذا كان الله موجود، لا بد أن يكون كلا من: المصمم الذكي للكون، والكائن الذي يفسر الكون، لكن لم يكن في ذاته بحاجة إلى تفسير.

  • المصمم الذكي للكون سيكون الكائن المعقد للغاية.

  • الكائن المعقد للغاية هو نفسه سيحتاج للتفسير.

  • لذلك، لا يكون الله كلا من: المصمم الذكي للكون، ولا المفسر النهائي للكون.

  • وبالتالي، فالله غير موجود.

هنا، تُدعِّم المقدمات النتائج، ولكن المقدمة الثانية، على الأقل، تكون معضلة. فبأي معنى يعتقد “دوكينز”  أن الله معقد، ولماذا يتطلب هذا التعقيد تفسيرًا؟ هو لم يناقش هذا بأي شيء من التفصيل، لكن يبدو أن فكرته الأساسية هي أن المعرفة الهائلة وأن قوة الله الممتلكة ستتطلب كائنًا معقدًا جدًا، وهذا التعقيد في حد ذاته يتطلب التفسير. فقد قال (“دوكينز” ) على سبيل المثال:”إن الإله القادر على المراقبة بشكل متواصل والمتحكم في كل جزيء من الكون، لا يمكن أن يكون بسيطًا”(ص178). والأكثر قليلًا بشكل تام “إن الله القادر على إرسال إشارات واضحة للملايين في وقت واحد، واستقبال الرسائل من كل منهم في وقت واحد أيضًا، لا يمكن أن يكون بأي معنى من المعاني بسيطًا. مثل عرض النطاق!… إذا كان (الله) لديه القوى المنسوبة إليه يجب أن يكون ممتلكًا لأشياء متقَنة ومبهرة وليست عشوائية أبدًا، وأعظم كثيرًا من أكبر دماغ أو أفضل كمبيوتر نعرفه” (ص 184).

هنا يتجاهل “دوكينز”  احتمال أن الله نوع مختلف جدًا من الوجود عن الأدمغة (العقول) وأجهزة الكمبيوتر. فحجته عن تعقيد الله؛ إما تفترض أن الله مادي أو، على الأقل، أن الله معقد بالطريقة نفسها التي تكونها الأشياء المادية (وجود أجزاء كثيرة مرتبطة بأساليب معقدة مع بعضها بعضًا). فوجهة نظر المتدين التقليدية، مع ذلك، هي أن الله لم يكن ماديًا ولا يتألف من أجزاء غير مادية (أيًا كان يعني هذا). بل ، قيل إنه بسيط، فوحدة الصفات التي قد نضطر إلى التفكر فيها بوصفها مستقلة، إلا أنها بشأن الله تكون متحدة في حقيقة واحدة من الكمال الخالص.

من الواضح، أنه توجد صعوبات كبيرة في فهم كيف أن الله يمكن أن يكون بسيطًا بهذه الطريقة. ولكن الفلاسفة بدءًا من “توما الأكويني” مرورًا بالمفكرين المعاصرين قد عرضوا مناقشات مفصَّلة للسؤال الذي يقدم اقتراحات ذكية عن كيفية التفكير بشكل متماسك عن الجوهر البسيط الذي لديه القدرة والمعرفة التي تُعزى إلى الله. وبغض النظر عن العدد القليل من الصفات السطحية في معالجة “ريتشارد سوينبرن” في “هل يوجد إله؟”، فإن “دوكينز” يتجاهل مثل هذه المناقشات. (انظر رد سوينبرن على “دوكينز” ، الفقرة الثالثة.). إن اتخاذ قضية “دوكينز”  بأي طريقة مقنعة ستتطلب مشاركة تفصيلية ليس فقط مع “سوينبرن”، ولكن أيضًا مع المعالجات الأخرى عن طريق الفلاسفة الحاليين مثل: “نظرية الإله البسيط المعقدة” الخاصة بـ”كريستوفر هيوز”. (للإطلاع على دراسة العمل الحالي حول هذا الموضوع، راجع مقالة William Vallicella وليام فليسيلا، “البساطة الإلهية” في موسوعة ستانفورد الفلسفية).

علاوة على ذلك، فإن حجة “دوكينز”  تتجاهل احتمالية أن الله ضروري الوجود ( أي أنه، الكائن الذي، بطبيعته، يجب أن يكون موجودًا، بغض النظر عن أي شيء). فبالنسبة لوجهة النظر التقليدية، فإن وجود الله ينبغي أن يكون، إن جاز التعبير، واضح بذاته ومن ثمَّ لا يحتاج إلى تفسير، على عكس مقدمة “دوكينز”  الثالثة. إن تجاهله هذه النقطة أيضًا يقوِّض جهده عند التفنيد السريع للحجة الكونية بالنسبة للإله كسبب لوجود كل الكائنات الممكنة (أي أن، كل الكائنات التي، في كل الظروف المختلفة، لن تكون موجودة). ربما “دوكينز”، مثل بعض الفلاسفة، يجادل أن فكرة الكائن الضروري غير متماسكة، ولكن لجعل هذه الحالة، قال: يجب أن يشارك [أي الكائن الضروري] مع التعقيدات الهائلة لمعالجة المسألة الفلسفية الحالية.(انظر،على سبيل المثال، “الإيمان والتفسير النهائي” الخاص تيموثي أوكونور Timothy O’Connor ومقال بروس رايشنباخ في موسوعة ستانفورد للفلسفة).

غالبًا ما يتهم المؤمنون بالأديان، الملحدين الجدليين أمثال: “دوكينز”  لكونه عقلاني بشكل مفرط، مطالبًا بمعايير شديدة المنطقية ومبنية على براهين، والتي لا تتناسب مع المسائل المتعلقة بالإيمان. إن انتقادي هو العكس تمامًا، فـ”دوكينز”  لا يستوفي المعايير العقلانية التي يتطلبها موضوع مهم كموضوع الدين.

إن المشكلة الرئيسة هي أن تلبية مثل هذه المعايير يتطلب التوصل إلى تفاهم مع أفضل التحليلات والحجج المتاحة. وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون[المعايير] قادرة على المساهمة في المناقشات المتطورة للفلاسفة المعاصرين، ولكنها تتطلب إتباع هذه المناقشات وتطبيقها على المشكلات الفكرية الخاصة بالفرد. ببساطة لا يفعل “دوكينز” هذا. إنه ينتقد بشكل صحيح النقاد الدينيين لفكرة التطور، لعدم معرفتهم بشكل دقيق بالعلم الذي يشككون فيه. لكن الانتقاد نفسه ينطبق على معالجته الخاصة للقضايا الفلسفية.

قد يعترض أصدقاء “دوكينز”  قائلين:” لماذا نهتم بما يقوله الفلاسفة عندما يستمروا، بشكل ملاحظ، في الاختلاف بشأن “المسائل الكبرى”، ولا سيما وجود الله؟”، لأن الفلاسفة يقدمون أفضل تفكير عقلاني بشأن هذه الأسئلة، سواء أكان هذا التفكير ناجحًا أم غير ناجح. إن المؤمنين الذين يعتقدون بأن الدين يبدأ حيث يتعثر العقل قد يكونون قادرين على تقديم حجة لعدم جدوى المعالجات الفلسفية رفيعة المستوى للدين- حسب ما، جادلت في مقال “الفلسفة والإيمان”، هذا الإجراء في حد ذاته يثير تساؤلات فلسفية لا مفر منها والتي تتحدى الإيمان الديني. ولكن هؤلاء، أمثال “دوكينز”، ملتزمون فقط بالاعتقاد الذي يمكن تبريره بشكل عقلاني، وليس لهم بديل عن الخوض في المناقشات العقلانية المتاحة الأكثر صرامة. ببساطة فإن تفلسف “دوكينز”  الهاوي غير كافٍ بشكل واضح.

بطبيعة الحال، فإن المناقشات الفلسفية لم تحسم مسألة وجود الله. حتى أفضل الحجج الإيمانية والإلحادية تظل جدلية. ونظرًا لهذا، فإن الملحدين قد يستغيثوا (كالعديد من التعليقات على مدونتي) بما نسميه “حجة اللا حجج”. لكي نقول إن الكون تم خلقه من قِبَل الكائن الخيِّر والقوي الذي يعتني بنا، هو إدعاء خارج المألوف، لذا من السيئ أن نبدأ بما يجب أن ننكره بشكل مؤكد ما لم توجد حجج حاسمة له (الحجج التي تظهر أنها أعلى ترجيحًا). حتى لو أن حجج “دوكينز”  ضد الإيمان فإنها معيبة، ألا يمكنه أن يستشهد بعدم قطعية حتى الحجج الإيمانية الأكثر عملًا بها بشكل جيد كأساس لإنكار وجود الله؟

إنه يستطيع ذلك، إذا كان لديه سبب وجيه للاعتقاد بأن، بعيدًا عن الحجج الإيمانية المحددة، وجود الله مستبعد جدًا. بالإضافة إلى ما يمكننا إثباته من الحجج، إلى أي مدى يكون الإله موجود؟ هنا يشير “دوكينز”  إلى مثال إبريق الشاي الدائر الخاص بـ”برتراند رسل”. سيتطلب منا أدلة قوية جدًا قبل الإقرار بأن هناك إبريق شاي في مدار حول الشمس، والافتقار إلى مثل هذا الدليل سينكر ولن يظل إلا لا أدري بشأن هذا الإدعاء. وهذا لأنه لا يوجد في تجربتنا ما يوحي بأن الإدعاء قد يكون صحيحًا؛ لأنه ليس لديه احتمال جوهري كبير.

ولكن لنفترض أن عددًا من رواد الفضاء ذكروا أنهم رأوا شيئًا يشبه إلى حد كبير إبريق الشاي، وبعد ذلك فسر عدد من علماء الفضاء المشهورين بيانات قمر صناعي معين على نحو يُظهر وجود شيء على هيئة إبريق الشاي، على الرغم من أن علماء فضاء آخرين شككوا في هذا التفسير. فإنه سيكون من غير المبرر رفض الفرضيات بصورة قطعية. حتى دون دليل حاسم بأنها كانت صحيحة. ينبغي علينا فقط أن نظل لا أدريين حول هذا الموضوع.

إن الإدعاء بأن الله موجود هو الأقرب كثيرًا إلى هذه القضية الثانية. فثمة أشخاص عقلاء يذهبون إلى أن لديهم نوع من الوعي المباشر بالذات الإلهية، كما يوجد فلاسفة مختصون يؤيدون حجج وجود الله. وبذلك فإن موقف اللا أدري يبدو إلحادًا مفضلًا.

وعلى ذلك، من الممكن أن يرد “دوكينز”  بأن هناك أسباب أخرى تجعل فكرة وجود الله بعيدة الاحتمال حيث أنه لا يوجد شيء قاصر على حجج حاسمة يمكن أن يتجاوز أفكار هذا الوجود. كما لو، أنهم قد يقولون، إننا لدينا دليل علمي قوي على أن لا شيء يشبه إبريق الشاي يمكن أن يبقى في مدار حول الشمس. حينئذٍ يمكننا أن ننكر بحق وجود إبريق شاي يدور، على الرغم من تقارير شهود العيان والحجج العلمية المدعمة لوجوده.

ما الذي يمكن أن يكون سببًا للاعتقاد بأن وجود الله هو، في حد ذاته، بعيد الاحتمال؟ هناك، بطبيعة الحال، إدعاء “دوكينز” بأن الله معقد للغاية، ولكن، كما رأينا، هذا افتراض ليس له ما يبرره. سبب آخر، يبدو ضمنًا في العديد من تعليقات “دوكينز”، وهو أن المادية (الرأي القائل بأن كل شيء مادي) مرجحة جدًا. وإذا كان الأمر كذلك، فإن وجود الكيان غير المادي مثل: وجود الله سيكون بعيد الاحتمال.

ولكن ما الدليل على المادية؟ من المفترض أن الاستقصاء العلمي يكشف عن وجود اللاشيء باستثناء الأشياء المادية أو الحسية. ولكن المؤمنين المتدينين سيردون بشكل عقلاني بأن العلم مناسب لاكتشاف ما هو حسي فقط (وبالفعل، فإن أنسب تعريف “للشيء المادي” يمكن أن يكون “الشيء الذي يمكن للعلم أن يكتشفه”). وسوف يستشهدون أيضًا بأن خبراتنا بحياتنا الواعية الخاصة (كالأفكار، والمشاعر، والرغبات، …إلخ) كدليل جوهري لوجود الحقائق غير المادية التي لا يمكن فهمها بشكل كامل عن طريق العلم.

وعند هذه النقطة، فإن النزاع بين المؤمنين والملحدين يتحول إلى واحد من أكثر النقاشات أو الجدالات الفلسفية الحالية حيوية (وصعوبة)_ بين هؤلاء الذين يعتقدون أن الوعي هو اختزال بطريقة أو بأخرى لحالات الدماغ المادية، وهؤلاء الذين لا يعتقدون ذلك. إن النقاش بعيد عن الاستقرار ويوضح، على الأقل، أن المادية ليست شيئًا يمكن للملحدين أن يؤكدوه ببساطة كحقيقة ثابتة. ويترتب على ذلك أنهم لا يملكون أساسًا جيدًا لعلاج مسألة وجود الله على أنها بعيدة الاحتمال وأنها لابد أن تُنكر حتى يوجد دليل حاسم لها. وهذا بدوره يوضح أن الملحدين على أفضل تقدير يحق لهم أن يكونوا لا أدريين، يشككون بجدية ولكن لا ينكرون وجود الله.

إنني أجد “وهم الإله” لـ”دوكينز” ، محفز، وغني بالمعلومات، وكثيرًا ما حقق الهدف المرجو. ولكنه لم يقدم حجة قوية للإلحاد. فحجته ضعيفة لأنها لا تأخذ الحيز الكاف من النقاشات الفلسفية التي ارتقت بمستوى التفكير حول وجود الله أكثر من هذه التي كان يعمل بها. قد يكون من الممكن لإجراء حجة قوية ضد الإيمان بالله من خلال اختراق المعالجة الفلسفية للضرورة، والتعقيد، والتفسير، والمفاهيم الأخرى ذات الصلة. ولأن حججه تفشل في فعل هذا، يصبح “دوكينز”  أقل بكثير من أن يُقيم دعوته أو حجته.

 

المصدر