مجلة حكمة
حقائق العلم في إبداعات الفن والأدب بروست

حقائق العلم في إبداعات الفن والأدب – ترجمة: بندر الحربي

حقائق العلم في إبداعات الفن والأدب عند بروست
اللحظة الحاسمة: كان بروست عالم أعصاب! حقائق العلم

بمزيج من السير الذاتية والأدب، والفن والعلم، تناول كتابُ جونا ليرر “كان بروست عالمًا للأعصاب” حكاياتٍ عن علاقة الفن والعلم، مدللًا على أنَّ للفنِّ والأدب دورًا سابقًا على العلم في اكتشاف حقائق العلم عن العقل البشريِّ، من خلال دراسته لمجموعاتٍ من أعمال الروائيين، والفنانين، والرسامين، والشعراء، والملحنين، ممن أحرزوا قصبَ السَّبقِ في الوصول إلى حقائق العلم هذه، فعلى سبيل المثال، كيف اكتشف الروائيُّ الفرنسيُّ مارسيل بروست لأول مرة وهْمَ الذاكرة، وكيف عرفت الروائيةُ ماري آن إيفانس المعروفة بـ (جورج إليوت) مرونةَ الدماغ، وكيف حدَّد الرسامُ بول سيزان التفاصيلَ الدقيقةَ لحاسة البصر، وكيف كشفتْ الناقدةُ الأدبية جيرترود شتاين عن بِنية اللغة العميقة قبل نصف قرن من عمل نعوم تشومسكي واللغويين الآخرين.

حمل الكتاب فصولًا ثمانية هي: “الشاعر والت ويتمان”، “جورج إليوت”، “أوغست إسكوفي”، “مارسيل بروست”، “بول سيزان”، “إيغور سترافينسكي”، “جيرترود شتاين”، “فرجينيا وولف”.

وهنا نعرض جزءًا من الفصل الرابع:

طريقة الذاكرة

حتى المنضدة مليئة بالتذكارات،

فواتير قديمة، ورسائلُ حب، وصور، وإيصالات،ودعاوى المحكمة، وخصلات شعر في جدائل، تخفي القليلَ من الأسرار لا يسعُني معرفتها….

إنها قبرٌ، مدفنٌ جماعيٌّ مليء بالموتى،

هرميُّ الشكل، فيه يضع الميتَ أشخاصٌ كُثر.. أنا مقبرة يمقتها القمر.

“شارل بودلير”

حمل عنوانُ رواية مارسيل بروست “البحثُ عن الزمن المفقود” معناه حرفيًّا، ففي الرواية، بحث بروست عن ذلك المكان الغامض الذي يتوقف فيه الزمنُ، وهو مستغرقٌ بما يسميه “شائبة اللحظة الراهنة”، كان بروست يشعر وكأن الوقت يتدفق من خلاله كالماء البارد.

هذه الفقرةُ الرائعة تجسِّد جوهرَ الإبداع لدى بروست، إنَّ الحقيقة تتصاعد مثل بخار كوب الشاي الصافيكان كلُّ شيء في تراجُع، فقد أنهكه المرضُ وهو لم يزل في الثلاثين، وحتى الآن، لم يفعل بروست شيئًا في حياته باستثناء ازدياد أعراضِ مرضه، وبعثِه لرسائل حنونة لوالدته، لم يكن مستعدًّا للموت، ولهذا، فقد سعى للحصول على طعم الخلود، وأصبح روائيًّا.

لقد قيَّده الربوُ فصارَ حبيسَ الغرف، وحُرم من الحياة الحقيقية، مما دفع بروست ليكتبَ الأدب من مصدره الوحيد، وهو ذاكرته، أصبحت استعادةُ الذكريات بلسمًا له، “إذا كانت حياتنا مشتتة، فإنَّ ذاكرتنا مستقرة”.

عرف بروست أنه في كلِّ مرة يستغرق في الذكريات، فإنه أيضًا يخسر الوقت، وكأنَّ دقاتِ الساعة تغرقُ بصدى همهماتِ عقله.

كان يعيشُ هناك، في ذاكرته، صنع من ماضيه عملَه الأدبيَّ، وبتشجيع من هذا الوحي، بدأ بروست بالكتابة، وكتب، وكتب، واختفى بين أوراقه، وما كان يظهر كما يقول: “إلّا عندما يحتاج التذكر”، استخدم بروست حدسَه، وتفانيه لنفسِه وأدبه، لصقْل ثقته بالذاكرة، وقدَّمها أطروحة كاملة.

في ذلك الصمت المُطبق في غرفته الباريسية، استمع بانتباهٍ إلى ذلك العقل العاطفيِّ الذي اكتشف هو طريقة عمله.

أيُّ نوع من الحقيقة اكتشفها بروست؟ إنه من البديهيِّ القولُ إنَّه وصفَ البيئة المحيطة، تلك الصورة من المجتمع الباريسيِّ إبَّان تألُّقه الساحر، غطى بروست بكتاباته مساحاتٍ شاسعة داخل فضاءاتِ الفتراتِ الزمنية (كانت جملة واحدة بطول 356 كلمة)، وغالبًا ما كان يبدأ بتفاصيل غامضة مثل: (نسيج من منديل، أو صوت تدفُّق المياه في الأنابيب)… وينتهي بتأمل استقرائيٍّ عن كل شيء!

وصفَ هنري جيمس أسلوبَ بروست بقوله: “إسهابٌ يثير المللَ مرتبطٌ بنشوة جامحة يمكننا تخيُّلها”، ولكن هذه الآراء في مهارة بروست الفنية، تجاهلتْ أهميةَ أفكاره عن الذاكرة.

على الرغم من أنَّ لديه نقطةَ ضعف، فإنه بطريقة أو بأخرى، ومن خلال توجيه القوة الهائلة لمهاراته وشعوره بالوحدة، قد عرف بالحدسِ بعضَ المبادئ الأساسية في علم الأعصاب الحديث.

الذكرياتُ لدينا – كما شرح العلماء – مرتبطةٌ بمناطق الدماغ، ولكنهم لم يكونوا يدركون أنَّ الروائيَّ الفرنسيَّ المنعزل عن العالم سبقَهم إلى ذلك.

الحدس

لم يتفاجأ بروست بقدراته التنبؤية، فقد كان يعتقد أنه ما دام الفنُّ والعلم يتعاملان معًا بالحقائق، “الانطباع للكاتب، التجربة للعالِم”، فإنَّ الفنانَ قادرٌ على وصْف الواقع كما هو حقيقة.

كان بروست على ثقة من أنَّ كل قارئ لروايته “سيلاحظ نفسَه كما يقول الكتابُ… وهذا سيكون دليلًا على صحته”. تعلَّم بروست عن القوة الغريبة الكامنة في الفنون من الفيلسوف هنري برجسون، عندما بدأ بروست الكتابة كان برجسون من المشاهير، وكان المفكرون يستمعون باهتمام بالغٍ إلى المناقشاتِ عن الكوميديا، و”التطور الخلّاق” من هذا الشخص المهتم بما وراء الطبيعة، وكان بروست واحدًا من أوائلِ الأدباء الذين استوعبوا فلسفة برجسون، وأصبح أدبه يحتفي بالحدس.

كان تأثيرُ برجسون لا يخلو من إثارة للقلق في نفْس بروست، فقد كتبَ في إحدى رسائله: “لقد بذلتُ قصارى جهدي لأحول دون تحويل فلسفة برجسون إلى رواية!”، ولا يزال بروست غير قادر على مقاومة موضوعات برجسون في طروحاته.

في الواقع، إنَّ استيعاب بروست لفلسفة برجسون أدى به إلى استنتاج أنَّ رواية القرن التاسع عشر تفضِّل المجرداتِ عن الأفكار، كتب بروست: “هذا النوعُ من الأدب الذي يكتفي بوصف الأشياء، وإعطائها حدودًا ومظاهر مجردة، يُطلِق على نفسه وصفَ (واقعيٍّ)، في حين أنه الأبعدُ عن الواقع”. وكما يُصر برجسون، فإنه يفهم الواقع بشكل أفضل حسيًّا، والوصول إلى الحقائق حدسيًّا.

ولكن كيف يمكن للرواية التدليلُ على قوة الحدس؟ كيف يمكن للرواية أنْ تثبت أنَّ الواقع – على حدِّ تعبير برجسون-: “روحيٌّ، وليس ماديًّا؟”، وصل بروست إلى الحلِّ في شكلٍ غير متوقع من خلال كعكة بنكهة الليمون ذات شكل صدفيٍّ، وهنا القليلُ من موضوع كشفه عن “هيكله الروحيِّ”، والحلوى التي يمكن أنْ “تحلل عناصرها الأولية”، بهذه الطريقة بدأ البحث مع الفاكهة الصيفية الشهيرة، التي منها تكشف العقل الكامل: “ما أنْ وصل السائل الدافئ الممزوج إلى حاسة الذوق في فمي حتى سرَتْ قشعريرةٌ في جسمي، وتوقفتُ، بإيحاء أنَّ هناك شيئًا غير عادي يحدث لي… متعة رائعة غزَتْ حواسِّي، بشيء منعزل، منفصل، دون معرفة مصدرها! وأصبحتُ لا أبالي بتقلبات الحياة وحوادثها، وهْمٌ قصيرٌ، هكذا شعرتُ… توقفتُ عن الشعور العادي، الإنسانيِّ. من أين أتتْ كلُّ هذه النشوة القوية؟ شعرتُ أنَّ لها علاقة بطعم الشاي والكعكة، إلا أنها تجاوزت ذلك المذاق، لا يمكنها في الواقع أنْ تكون من الطبيعة نفسها… من أين أتت؟ ماذا تعني؟ كيف يمكنني اغتنام هذه اللحظة والإمساك بها؟ شربتُ جرعة ثانية، ولم أجد شيئًا أكثر من الأولى، ثم الثالثة، التي أعطتني إحساسًا أقل وأقل بالنشوة! حان الوقتُ للتوقف، فالجرعة فقدتْ سحرَها… من الواضح أنَّ الحقيقةَ التي أبحث عنها ليست في الكوب، وإنما في نفسي!”.

هذه الفقرةُ الرائعة تجسِّد جوهرَ الإبداع لدى بروست، إنَّ الحقيقة تتصاعد مثل بخار كوب الشاي الصافي، وبينما كانت الفاكهة الصيفية زنادَ إلهامِ بروست، لم تكن هذه الجملة عن الفاكهة الصيفية في ذاتها، بل كانَ الارتباط مع الكعكة مجرد ذريعة مريحة لبروست لاستكشاف موضوعه المفضل، عن ذاته.