مجلة حكمة

جورجيو أغامبين عن (أمام القانون) لكافكا – ترجمة: حسين القطان

فصل المسيح و السيد: مشكلة القانون عند والتر بنجامين


     سأحاول أن أقرأ قصة لكافكا من وجهة نظر بنجامين، “أمام القانون ” و التي يمكن العثور عليها في مجموعة قصصية بعنوان “طبيب ريفي” و في رواية المحاكمة.بطبيعة الحال، لا أعني بأن بنجامين سيقرأ القصة كما سأقرؤها أنا. بالأحرى، سأحاول أن أقدم بشكل غير مباشر تصور بنجامين عن المهمة المسيحانية(وهي الإيمان بالمسيح المنتظر الذي سوف يأتي ليخلص شعبه بنو اسرئيل عند نهاية العالم )، من خلال تفسير أحد أمثولات كافكا.

     أفترض هنا بأن القارئ يتذكر قصة حارس الباب الذي يقف أمام باب القانون، و الرجل من الريف الذي يسأل إذا كان بإمكانه أن يذخل، منتظرا دون نجاح إلى أن سمع الحارس يخبره ـ في نهاية حايته ـ بأن الباب كان مخصصا له وحده. إن الأطروحة التي أنوي تقديمها هي ، بأن هذه الأمثولة هي تشبيه لحالة القانون في العصر المسيحاني، وهو العصر الذي يكون فيه القانون مطبقا و لكن دون تأثير. الباب المفتوح الذي لا يمكن الدخول إليه هو شفرة لهذه الحالة للقانون.المفسران الإثنان اللذان قدما أحدث تفسيرين لهذه الأمثولة هما جاك ديريدا و ماسيمو كاجياري، و كلاهما أكد على هذه النقطة.

    “القانون”، يكتب ديريدا، يحفظ نفسه من دون أن يبقى محفوظا من قبل حارس يحفظه، حارس لا يحفظ شيئا، يبقى الباب مفتوحا، و يفتح على لا شيء.و كاجياري يحدد بوضوح حقيقة أن قوة القانون تكمن تحديدا في استحالة الدخول للمفتوح مسبقا، للوصول إلى المكان الموجود فيه المرء أصلا:”كيف يمكن لنا أن نأمل بأن “نفتح” إذا كان الباب مفتوحا مسبقا؟ كيف يمكن لنا أن نأمل بأن ندخل المفتوح؟في المفتوح ، يوجد، الأشياء هناك، المرء لا يدخل إلى هناك، يمكننا أن ندخل فقط أينما يمكننا أن نفتح. المفتوح مسبقا يجمد. الرجل من الريف لا يمكن أن يدخل، لأن الدخول للمفتوح مسبقا مستحيل أنطولوجيا.

من السهل أن نميز تشبيها بين الوضع التي تصفه الأمثولة و القانون في حالة تطبيقه بدون تأثير، و الذي يكون فيه القانون فعالا بالتحديد ما دام لا يطلب شيئا وقد أصبح غير قابل للتحقق. الرجل من الريف قد سلم بقدرة القانون لأن القانون لا يطلب شيئا منه، لا يفرض عليه شيئا سوى حظر القانون نفسه.لو كان هذا التفسير صحيحا، لو كان الباب المفتوح صورة للقانون في زمن نفيه المسيحاني، إذا من هو الرجل من الريف؟

     في تحليله للأمثولة،يقترح كيرت واينبرغ، بأننا سنرى “صورة لمسيح مسيحي معاق(يعيقه شيء ما) “في هذا الرجل العنيد الخجول من الريف. يمكن أخذ هذا الاقتراح بعين الاعتبار فقط عندما نعيد المسيحانية لسياقها الفعلي. إن الذين قرؤوا كتاب سيغموند هورويتز  “Die Gestalt der sterbenden Messiahs” سيتذكرون بأن صورة المسيح في التعاليم اليهودية هي صورة مثناة.

   منذ القرن الأول قبل ولادة المسيح، تم تقسيم المسيح إلى المسيح ابن يوسف و المسيح ابن داود ،المسيح من بيت يوسف هو المسيح الذي يموت، يقضى عليه في المعركة أمام قوى الشر، المسيح من بيت داود هو المسيح المنتصر، الذي سيقضي بالنهاية على الأرميلوس (المسيح الدجال في التعاليم اليهودية) و يعيد المملكة. بينما يحاول علماء اللاهوت المسيحيون ترك تثنية صورة المسيح جانبا، يبدو من الواضح بأن المسيح الذي مات و بعث مجددا، يجمع في شخصه المسيحان الإثنان الموجودان في التعاليم اليهودية. جدير بالذكر أن نوضح بأن كافكا، من جانبه، قد كان مدركا لهذه التعاليم، من خلال كتاب ماكس برود Heidentum, Christentum, Judentum.

   كتب شولم مرة بأن المسيح ابن يوسف هو صورة بائسة، لا تخلص أحدا أمام القانون، و يتزامن تدميرها مع تدمير التاريخ بينما هذا التشخيص صحيح بالفعل، لست متأكدا تماما بأنه يمكن الحفاظ عليه بأكمله إذا نظر المرء للدور الذي اضطر المسيح ابن يوسف للعبه في مصلحة تثنية صورة المسيحانية (و التي من الممكن أن يكون قد فكر فيها كافكا عند تصوره لمسيح دولته). في التعاليم المسيحية، و التي تعرف مسيحا واحدا، المسيح الذي يحمل مهمة مزدوجة، بما إنه مخلص و مشرع. بالنسبة لعلماء الللاهوت ، فإن الجدلية (الديالكتيك) بين هاتين المهمتين يشكل المشكلة الخاصة بالمسيحانية.

   في رسالته عن القانون، عرف توماسو كامبانيلا صورة المسيح كما يلي، مناظرا لرأي لوثر و ابيليار حول موضوع هذه الجدلية. لوثر لا يعترف بالمشرع و لكن بالمخلص، بيتر ابيلار يعترف فقط بالمشرع و ليس المخلص. و لكن الكنيسة الكاثوليكية تعترف بهما كلاهما.

أحد الصفات الخاصة بأمثولات كافكا، هو أنها في نهايتها تحمل احتمالية تغيير كامل و مفاجئ يغير معناها تماما. في التحليل النهائي، كل مفسري الأمثولة قرؤوها قصة (ذات معنى أخلاقي) عن الفشل أو الهزيمة المحتومة لرجل الريف أمام المهمة المستحيلة المفروضة عليه من قبل القانون.

   على الرغم من ذلك، يجدر بنا التساؤل حول إذا ما كان نص كافكا يسمح بقراءة مختلفة. يبدو بأن المفسرين ينسون، في الواقع، الكلمات التي تنتهي فيها بالتحديد هذه القصة. “هنا لم يكن أحد آخر يقدر أن يحصل على إذن بالدخول، إذ أن هذا المدخل كان مخصصا لك وحدك. سأذهب الآن و أغلقه”. لو كان صحيحا بأن انفتاح الباب ذاته هو ما أسس، كما رأينا، القدرة الخفية و “القوة” الخاصة بالقانون، سيكون إذا من الممكن أن نتخيل بأن سلوك الرجل من الريف ليس إلا استراتيجية معقدة و صبورة لإغلاق الباب من أجل إيقاف القانون المطبق حينها.

المعنى الأخير للقصة إذن ليس، كما كتب دريدا، ذلك الذي ل “حدث ينجح في عدم الوقوع” (أو حدث في عدم حدوثه: حدث حدث أن لم يحدث). بل بالأحرى، العكس هو الصحيح: القوة تتكلم عن كيف أن حدث شيء ما فعلا من خلال أن يبدو بإنه لم يحدث، و التناقض الظاهري لقصة رجل من الريف يعبر بدلا عن ذلك عن تعقيد المهمة المسيحانية، التي شبهت بالقصة. إنه على ضوء ذلك، يجب علينا أن نقرأ الفقرة المحيرة في دفتر كافكا التي تقول، “المسيح سيعود في الوقت الذي لا يعود فيه ضروريا، سيأتي فقط بعد وصوله، لن يأتي في آخر يوم، و لكن في اليوم الأخير.”

    هذه البنية المزدوجة المضمنة في هذا الإيمان المسيحاني، يقابلها النموذج الذي كان يفكرفيه بنجامين حين يتكلم ، في أطروحته الثامنة، عن “حالة استثناء فعلية” مقابل حالة الاستثناء التي نعيش فيها.

هذا النموذج هو الطريقة الوحيدة التي يمكن للمرء أن يفهم فيها شيئا كال”إسخاتون” (يوم الحساب، ما بعد يوم القيامة) . أي، شيء ينتمي للزمن التاريخي و قانونه، و لكنه يقوم ،بالوقت نفسه، بوضع حد له.

على الرغم من إنه حين يطبق القانون، نحن نواجه فقط بأحداث تحدث دون حدوثها، و هي بذلك تختلف بشكل غير واضح عن أنفسها(الأحداث)، هنا، بدلا عن ذلك، فيتم التفكير بالحدث المسيحاني عبر صورة ثنائيةـ موحدة. هذه الصورة، في الغالب، تؤسس المعنى الفعلي لانقسام المسيح الواحد (كما القانون الواحد) إلى صورتين مختلفتين، الأولى تستهلك في اكتمال التاريخ و الأخرى، التي تحدث، إذا جاز التعبير، فقط بعد وصولها بيوم. هذه الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها لحدث المسيح، بأن يتزامن مع الزمن التاريخي، ولكن دون أن يتم تمييزها فيه في الوقت نفسه، محدثة في الإسخاتون” التعديلات الصغيرة” التي ، بناء على قول الحاخام كما أخبر بذلك بنجامين، تتكون المملكة المسيحانية منها.

 


المقالة الأصل