مجلة حكمة
تفكيك النقد بنعبد العالي

تفكيك النقد – عبدالسلام بنعبد العالي


يتميز التفكيك عن النقد. فالنقد يعمل دوما وفق ما سيتخذه من قرارات فيما بعد، أو هو يعمل عن طريق محاكمة. أما التفكيك فلا يعتبر أن سلطة المحاكمة أو التقويم النقدي هي أعلى سلطة. إن التفكيك هو أيضا تفكيك للنقد. وهذا لا يعني أننا نحط من قيمة كل نقد أو كل نزعة نقدية . لكن يكفي أن نتذكر ما عنته سلطة النقد عبر التاريخ”

J.Derrida, Points de suspension, entretien avec D. Cohen
Ed. Galilée 1992.

تذكرنا عبارة ” تفكيك النقد” بعبارة أخرى أكثر قدما هي عبارة “نقد النقد”، فهل يتعلق الأمر بالشيء ذاته ؟ وإن كان الجواب سلبا، فما الذي يميز العملية الأولى عن الثانية؟
ربما كان علينا، تمهيدا للجواب عن هاته الأسئلة،أن نتساءل أولا مشروعية الحديث عند النقد بصيغتي التعريف والمفرد. هاتان الصيغتان هما اللتان كان دريدا، فيما قبل، يستعمل بهما لفظا أخر لا يبعد كثيرا عن لفظ النقد في السياق التفكيكي، هو لفظ الميتافيزيقا. ونحن نعلم أنه تدارك الأمر فيما بعد منبها أن علينا بالأولى أن نتحدث عن ميتافيزيقات. ربما كان هذا أيضا شأن النقد . قد يقال وأن المقصود هنا هو النقد من حيث هو استراتيجية ، وليس شكلا بعينه من أشكال النقد ، غير أن هذه الملاحظة لن تبدو مقنعة إن راعينا أن تلك الاستراتيجية تلونت عبر التاريخ. وهو أمر يشير إليه دريرا نفسه في السطر الأخير من النص السابق.

من الأسلم إذن أن نخصص السؤال ونتحدث عن شكل بعينه من أشكال النقد، وربما من الأنسب أن نتحدث هنا عن ممارسة النقد عندنا، وخصوصا ونحن، على ما يبدو ” في منعطف” . ولا بأس أن يقف المرء مطولا عند المنعطفات كي يتبين المسارات.

لنعد إذن إلى سؤالنا المنطلق ، ولنصغه بالعبارة التي يستعملها صاحب التفكيك ، في النص المقدمة ونقول : هل يتعلق الأمر بمحاكمة النقد ” باسم الحقيقة، كل الحقيقة” مستغلين عبارة المحاكمات والمحاكم، مستخدمين لغة القانون والمشروعية والعقل، مستندين إلى سلطة مؤسسة؟

كل هاته الألفاظ تضعنا في المناخ الذي يتنفس فيه النقد عندنا، فلو نحن أردنا أن نجمل الخصائص التي يتميز بها ذلك النقد لقلنا إنه نقد ينطلق من موقع الحقيقة، أو بعبارة أخرى : إنه نقد ميتافيزيقي.

جل نقادنا يحاكمون نتاجاتنا ليعرفوا أين أصاب هذا الفكر وأين أخطأ ، صحيح أنهم يختلفون في تبين أسباب الخطأ، فهذا الناقد يتهم المفكر بالتقليد الأعمى ، وذاك بنقص في معارفه وضيق في أفقه ، وهذا يتهمه بالتعلق بالماضي، والآخر بضعف في الذكاء. والخلاصة أن أسباب “الخطأ” في نظر نقادنا أسباب سيكولوجية إبستمولوجية أخلاقية. وهي ، في أحسن الأحوال، اسباب أيديولوجية وحاى إن عزا بعضهم الخطأ الايديولوجي ( وإن كان التعبير غير دقيق مادام الطرح الأيديولوجي للمعرفة يروم، مبدئيا، تفكيك الثنائي الميتافيزيقي حقيقة/خطأ ليضع محله الثاني وهم/لا وهم) فبمعنى خاص عن الأيديولوجيا يختزلها إلى نظرية المصالح، ولا يخرجها عن فلسفة الإرادة، وفي النهاية، عن التفسير السيكولوجي – الأخلاقي.

لكن، على رغم هذا التباين الظاهري، فالموقف واحد.وهو موقف يصدر في مجمله عن مسلمات وفرضيات شعرية إبستمولوجية وفلسفية. وسنحاول باختصار شديد أن نعرض لكل من هاته الفرضيات على حدة عسى أن نتبين فيما بعد إمكانية تجاوزها.

أولى هاته الفرضيات هي أن النقد عندنا يسلم بأن المؤلف هو المسؤول الأول عما يكتبه ، إنه يحاسبه كما لو كان فاعلا عاملا ومؤلفا ، وهو يرجع الكتابة إلى مجرد فعل فردي يتحدد بنوايا صاحبه وقدراته النفسية وحنكته ومهارته وتمكنه من المعرفة وقدرته على الاطلاع وتطويعه للكتابة وصدقه الأخلاقي ونزاهته العلمية واتقانه للتأليف. ينظر إلى العمل هنا على أنه اجتهاد شخصي يتحدد بشرائط سيكولوجية تربوية أخلاقية . لا يسلم النقد هنا بأن هناك ” يدا ثانية” خلف كل إبداع . وهو لا يعير كبير أهمية للمكتسبات الشعرية أو السيميولوجية الأدبية التي تضع مفهوم الناسخ محل مفهوم المؤلف وتعطي الأولوية، في نقدها، للنص والقارئ بل وللناشر .

لقد بينت الشعرية المعاصرة أن أجناس الخطاب وأنواعه هي التي تملي على الكاتب “قواعد” التأليف ونماذجه وصوره، بحيث لا تبقى ، في ميدان الكتابة، قيمة كبرى لأسماء ، الاعلام مثلما لا يبقى في مجال الفكر معنى محدد للملكية.

لقد وعى المؤلف اليوم، إن لم نقل موته، فعل الأقل حياده. إنه أول من أصبح يشعر بقصور فعله وحدود عمله لنستمع إلى هذا الاعتراف الذي سجله بورخيس : “كل مرة أقرأ فيها مقالا ينتقدني أكون متفقا مع صاحبه بل إنني أعتقد أنه كان بإمكاني أن أكتب أنا نفسي أحسن من ذلك المقال ، وربما كان علي أن أنصح أعدائي المزعومين بأن يبعثوا إلي بانتقاداتهم، قبل نشرها، ضامنا لهم عوني ومساعدتي، لكم وددت أن أكتب باسم مستعار مقالا قاسيا عن نفسي ” نحن هنا أمام حالة يتماهى فيها الناقد والمؤلف، وربما ينتفيان معا ويذوبان ليغدوا مفعولين لـ”شيء” يتجاوزهما ، ويكتب بهما قد يكون هو الجنس الأدبي ، بل قد يكون اللغة ذاتها.

الفرضية الثانية التي ينطلق منها النقد عندنا هي الفرضية الابيستيملوجية التي تجعل الناقد يزن العمل بمعيار الصواب والخطأ الذي في حوزته، وتمكنه من أن ينتصب قاضيا يدافع عن الحقيقة ” كل الحقيقة” وينزل بضرباته العنيفة على كل من سولت له نفسه الزيغ عن الصواب لسبب أو لآخر . ولا حاجة إلى التذكر هنا بما عرفه مفهوم الخطأ ذاته من إعادة نظرداخل الابستمولوجيا المعاصرة. لكن يظهر أن النقد لا يشغل باله بمثل تلك التطورات، وهو لا يكاد ينشغل حتى بما عرفه مفهوم النقد ذاته من تحول ، فلو أردنا أن نضع نقدنا في موقع ضمن تاريخ الفلسفة فربما صح أن نقول إنه يصدر عن موقف ” قبل كنطي” فحتى النقد الكنطي نفسه الذي أراد أن يكون نقدا للعقل النظري والعملي لم يكن نقدا لمنتوجات العقل، ولا لإبداعات الأفراد ومؤلفات الفلاسفة وإنما كان نقدا متعاليا يضع العقل ذاته أمام محكمة النقد، ولا ييقتصر على النقد السيكولوجي أو حتى المنطقي لينحت نقدا من نوع جديد هو النقد ” الترنستدنتالي” الذي يكتفي بإثبات شروط الإمكان وحدود الصلاحية.

لن يرضى نقدنا بأن يوضع في حقبة لا تتجاوز القرن الثامن عشر الأوروبي، ما دام يقدم نفسه على أنه نقد إيديولوجي يريد أن يستلهم الفكر الجدلي في أرقى أشكاله ولن يكون الرد هنا مقبولا بطبيعة الحال إلا إذا أفقرنا مفهوم الايديولوجيا من كل حمولته الجديدة، وجعلناه مجرد مفهوم سيكولوجي منطقي أخلاقي.

معروف أن الطرح الأيديولوجي يتجاوز بكثير سيكولوجيا المعرفة ومناهج العلوم، إن مفهوم الإيديولوجيا يرفع عن المؤلف قسطا كبيرا من المسؤولية ليجعله هو نفسه ضحية أكثر منه جلادا، ومفعولا أكثر منه فاعلا، هذا فضلا على أن النقد الأيديولوجي هو دوما نقد كلي يحشر المؤلف ضمن رؤية وتيار و”نظرة إلى العالم” تضم المؤلفات والمؤلفين وتفكربهم وتذيبهم في نسيجها.

الفرضية الثالثة التي ينطلق منها النقد عندنا هي الفرضية الفلسفية فنحن لم نستطع بعد أن نتمثل الفكر كحركة تتجاوز الأحوال السيكولوجية أو الأفعال الفردية. وقلما ننتبه إلى ما أصبح يسمى فكرا في الفكر المعاصر. لست أشير هنا فحسب إلى البطانة اللاشعورية التي تغلف ذلك الفكر، وإنما أيضا إلى ما أثبتته الفلسفات الجدلية ، بمختلف فروعها، من أن الحركة الجدلية للفكر ليست مجرد تعاقب لتمثلات وعي الإنسان، تلك التمثلات التي يمكن أن تكون محل ملاحظة سيكولوجية. إن هذه الحركة هي حركة الوجود في كليته، كما أن الفكر ليس فكر إنسان بعينه، إنه لا يدور في دماغ ولا يجول بخاطر، الفكر عندما اتخذ بعدا جدليا لم يعد تمثلات سيكولوجية . وحينما نتمثل الفكر كقدرة بشرية فإن ذلك يكون مجرد تجريد، الفكر هو الذي يحدد وجود كل قدرة سيكولوجية ، وهو فكر تاريخي لا يكون وليد لحظة بعينها، ولا يخضع لأهواء الأفراد ومقاصدهم. وقوانين الفكر، بما هي قوانين الجدل ، هي قوانين الوجود. بل إن البعض يعتبر أن تاريخ الوجود يرقى إلى اللغة في ما يقوله المفكرون وليست أفكار المفكر إلاصدى لتاريخ الوجود. الفكر مجهول الاسم ، فاعله مبني للمجهول يفكر في الوجود.

هذه إذن هي أهم الفرضيات التي نعتقد أن نقدنا يقوم عليها، وقد اتضح لنا أنها تتجذر فيما أوجزناه في المقدمة في عبارة ميتافيزيقا الحقيقة، تلك الميتافيزيقا التي تحاول الفلسفة اليوم، تحت أسماء متباينة في الظاهر، قد تسمى حفرا أو تقويضا أو تفكيكا ، إن تتجاوزها لتجعل النقد لا يقابل حقيقة بحقيقة، بالحقيقة، وإنما يحفر النص ليجعله في “بعد عن ذاته”، ويكشف فراغاته ويحلل لاشعوره ويفضح لا مفكره فيصدع بناءه ويخلخل منطقه ويفك أواصره.

المنطلق الأساس لهذا التفكيك هو أنه يريد أن يمارس “النقد” من الداخل، أو قل إنه يريد أولا وقبل كل شيء أن يعيد النظر في الثنائي خارج/داخل، يعيب التفكيك على النقد المتداول أنه ، ببحثه عن الشرائط الخارجية التي توجد من وراء النصوص يكرس التمييز الذي أقامته الميتافيزيقا بين الداخل والخارج . إن الخارج الممكن، حسب دريدا، لا يمكن أن يقوم إلا داخل كل نص ، فلا يكفي تفسير النصوص بردها إلى عوامل “خارجة” عنها، يرى التفكيك أن هناك في كل نص، قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيك للنص. وما يهم هو الإقامة في البنية غير المتجانسة للنص والعثور على توترات يقرأ النص من خلالها نفسه ويفكك ذاته.في النص نفسه قوى متنافرة يكون على استراتيجية التفكيك أن تعمل على إبرازها ، غير أن هاته القوى لا تعيطي نفسها مباشرة ، فالنص لا يكون نصا إلا إذا أخفى عن النظرة المباشرة قاعدة لعبته ونسيجه العنكبوتي.

قلنا إن ما يميز النقد هو أنه يتم دوما من موقع حقيقة ما. أما التفكيك فهو لايدعي تكذيب موقف باسم آخر،وعلى رغم ذلك فهو ليس موقفا متشككا. إنه لا ينفي الحقائق، وربما كان العكس هو الصحيح، إذ أن الحديث يتم هنا عن غزارة الحقائق وفيض المعاني وتعدد القواعد المنطقية .

وبالرغم من ذلك فلا مفاضلة بين النصوص ، فلا يتعلق الأمر بتفكيك نصوص ” يمينية” من موقع يساري ، أو نصوص ” رجعية” من موقع تقدمي ، أو نصوص تقليدية من موقع حداثي أو نصوص علمية من موقع فني ، أو نصوص أيديولوجية من موقع فلسفي. استراتيجية التفكيك استراتيجية شاملة ، وهي تنصب حتى على ذاتها ، وهذه نقطة أساسية ينفصل فيها التفكيك عن النقد الذي نما ، داخل ميتافيزيقا اليمين واليسار . إن الحد بين ما للميتافيزيقا وما ليس لها في نظر دريدا يمر عبر كل النصوص.

مجلة الجابري – العدد الثالث