مجلة حكمة
القلب الواشي

القلب الواشي: قصة قصيرة – إدغار آلان بو / ترجمة: وجدان الخنبشي

IMG_٢٠١٦٠٨١٠_١٨٤٦٠٦

القلب الواشي


هذا صحيح.. أنا عصبي، عصبي جدًا فوق ما تتصور، كنت وما زلت محافظًا على عصبيتي المريعة هذه. لكن لمَ قد يخطر على بالك أني مجنون؟ فالمرض لم يفسد حواسي، ولم يدمرها، على العكس تمامًا بل جعلها أكثر حدة. وأول هذه الحواس، حاسة السمع والتي أصبحت حادة جدًا. فأنا يا عزيزي أسمع ما يُسمع ومالا يُسمع، سمعت كل الأشياء التي في السماء وتلك التي في الأرض، سمعت حتى الأشياء التي تقبع في الجحيم. إذًا كيف تتهمني بالجنون؟ أنصت إليّ جيدًا! ولاحظ كيف أستطيع بهدوء وعقلانية أن أحكي لك القصة كاملة.

 من الصعب إخبارك كيف تبلورت الفكرة داخل رأسي لأول مرة، لكني بمجرد تخيلها علقت داخلي، فأصبحت تراودني ليلة تلو الليلة، فبات رفضها مستحيلا. هدف..؟ لم يكن هناك ثمة هدف. كره..؟ أوه لا، لا يتعلق الأمر بالعواطف أبدًا، فقد أحببت ذاك الرجل العجوز جدًا، فلا هو مرة أهانني ولا هو مرة خطّأني. ربما تقول أنني أسعى وراء ذهبه..؟ لا يا عزيزي لم أرغب أبدًا في سرقة ذهبه. حسنًا سأخبرك.. أعتقد أنها إحدى عينيه. نعم..! كانت إحدى عينيه تشبه عين النسر، زرقاء شاحبة يغطيها غشاء رقيق. في كل مرة أنظر إلى عينه تلك، كنت أشعر ببرودة تسري في أطرافي، وكأن دمي كان يتجمد في عروقي شيئًا فشيئًا، وهكذا قررت أن أحمل على عاتقي خطف حياة هذا الرجل، لأتخلص من هذه العين إلى الأبد.

الآن أنت ما زلت تتخيلني مجنونًا، المجانين يا صديقي لا يعرفون شيئًا. أما أنا.. آه ليتك رأيتني حينها، كان يجب أن تراني كيف كنت أفكر بعقل يملؤه الحكمة، وبشخصية يملؤها الحذر، وبعين بصيرة عزمتُ على فعل ما كنت أفكر به. نزلت عليّ رحمة وسكينة عجيبتين خلال الأسبوع الذي يسبق قتلي للرجل العجوز، لم أشعر بهما من قبل. وفي كل ليلة، تحديدًا في منتصف الليل كنت أمسك بمقبض بابه وأفتحه بكل هدوء، فأنا لا أريد إزعاج الرجل المسكين، آه يا لرقة قلبي! صنعت فتحة تسِع رأسي، ثم أدخلت فانوسًا داكن اللون، مغلق الجوانب، لا ينفذ الضوء منه. بعدها أدخلت رأسي من خلال تلك الفتحة، أوه، لو رأيتني كيف أدخل رأسي بمكر وخبث لضحكت عجبا! أدخلته ببطء شديد، فأنا كما أخبرتك لا أريد أن أيقظ مضجع الرجل العجوز. لقد أخذ هذا الأمر مني ساعة كاملة كي أتمكن من رؤيته وهو نائمٌ على سريره. ها..! هل يمكن لرجل مجنون أن يكون بهذه الحنكة.. ها؟ أخفضت ضوء الفانوس بحذر شديد، شديد جدًا، لأن مفتاحه اللعين كان يحدث صريرًا مزعجًا، ولكني أبقيت شعاع ضوءٍ نحيل ووجهته ليسقط على عين النسر. مرت سبع ليال طوال وأنا على هذه الحال، كل يوم وفي منتصف الليل أكرر ما أفعله، لكن لسوء حظي كنت أجد العين دائمًا مُغلقة، فاستحال عليّ فعل فعلتي. فلو كان العجوز هو الذي يثير غضبي لأتممت مهمتي من أول ليلة وأرحت نفسي، لكنها كانت عينه، عينه الشريرة. كنت كل صباح أذهب بكل وقاحة إلى حجرته وأتحدث إليه بكل جرأة، أناديه باسمه، بنبرة عطف وحنان، مستفسرًا إياه عن حال ليلته. لعلكم أدركتم كم كان هذا العجوز قد بلغ من الكبر ما بلغ حتى يخطر في باله أن أحدهم، والذي هو أنا، يحدق فيه وهو نائم كل ليلة عند الساعة الثانية عشر.

وفي الليلة الثامنة كنت أكثر حذرًا عندما فتحت الباب، كنت أفتحه ببطء شديد، حتى أن عقارب ساعتي كانت تتحرك أسرع من يدي! شعرت في تلك الليلة بمدى قوتي الهائلة وفطنتي العظيمة، شعورٌ لم أشعر به من قبل. حاولت جاهدًا احتواء مشاعر الانتصار، أخيرًا سأفعل ما خططت له! فتحت الباب شيئًا فشيئًا، وفكرة أن المسكين لم يحلم حتى بأفكاري وأفعالي هذه، أضحكتني، فضحكت بصوت منخفض لكن يبدو أنه سمعني، لأنه تحرك فجأة، وجلت وثبت مكاني. ربما تحسبني الآن أنني انسحبت وتركت ذاك العجوز بسلام! لا يا عزيزي، فلقد وصلت إلى مرحلة متقدمة جدًا. كان الظلام يلف غرفته، فكانت النوافذ مؤصدة بإحكام خوفًا من اللصوص، أراحني هذا الأمر من أنه لن يستطيع رؤية فتحة الباب التي صنعتها، بل لن يستطيع رؤية أي شيء. استمريت في دفع الباب رويدًا رويدا…

 فهمَمت حينها بفتح الفانوس، لكن إبهامي انزلق فجأة من على القفل الصفيحيّ مما أفزع مضجع الرجل العجوز المسكين وجعله يقفز من نومه ويصيح مذعورًا “من هناك؟” بقيت في مكاني من دون حراك، ولم أتفوه بكلمة واحدة. بقيت هكذا ساعة كاملة، لم أحرك حتى عضلة! وفي هذه الأثناء لم ينم العجوز، بل بقي مستيقظًا يتسمع، تمامًا مثلما كنت أفعل، ليلة تلو الأخرى، أستمع إلى دقات ساعة الموت، تك..توك..تك..توك!

وبعدها سمعت أنينًا خافتًا، لقد كان أنينُ هلعٍ من الموت. فلم يكن ذاك الأنين الصادر من الألم أو الحزن، أوه لا.. لم يكن كذلك، بل كان صوتًا مخنوقًا من أعماق روحٍ مشبعة بالخوف. إنني أعرف هذا الصوت جيدًا، ففي منتصف كل ليلة وعندما يغمض العالم عيناه، كان هذا الصوت يصدر من داخلي أنا، من أعماقي، بصداه المروّع الذي كان يكاد أن يدفعني إلى الجنون! قلت إني أعرفه، نعم أعرفه جيدًا وأعرف كيف يشعر هذا العجوز الآن وأشفق عليه، مع أني كنت أضحك في سرّي. كنت أعلم أنه كان ينام مستيقظا من أول صوت سمعه، منذ ذلك الحين ومخاوفه بدأت تتصاعد، كان يحاول أن يقنع نفسه أن مخاوفه لا صحة لها، لكنه لم يستطع. فأخذ يقول لنفسه: “هذا ليس إلا صوت الريح في المدخنة، أو فأرٍ يتجول في الغرفة، أو صريرُ صرصار الليل، أو أو أو…” نعم لقد كان يحاول طمأنة نفسه بهذه الافتراضات لكن بدون جدوى، كل هذا لم يفلح بشيء. فالموت يحبو نحوه، ويلفه بظله الأسود. لك أن تتصور مدى الشعور المُحزن والكئيب الذي كان يشعر به الرجل العجوز، فقد كان يشعر بالموت يلفه من كل جانب، مع أنه لم يكن يدري بوجودي في غرفته.

أوه.. لقد انتظرت طويلا.. طويلا جدًا، لكن الرجل بقي مستيقظًا. فقررت أن أصنع شقًا صغيرًا جدًا في الفانوس، فخرج منه شعاع نحيل خافت، نحيل كخيطٍ من خيوط العنكبوت، ومباشرة وقع على عين النسر.

 كانت عينه شاخصة، وكان غضبي يزداد كلما حدقت بها. رأيتها بكل وضوح، زرقاء شاحبة يغطيها غشاء قبيح، يقشعر بدني منها. لم أكن أرى في الغرفة كلها إلا هذه العين اللعينة لأن شعاع الفانوس كان موجهًا نحوها فقط.

 ألم أخبرك من قبل؟ ألم أخبرك بأنك مخطئ؟ هذا ليس جنونًا بل حدة الحواس. لقد دغدغ أذني صوتٌ مشوش ومنخفض وحاد كصوت ساعة لُفت بقطعة قطن، بالكاد تسمعه. لكني عرفت هذا الصوت جيدًا، لقد كانت ضربات قلب ذاك العجوز. إنها تُشعل غضبي كما تشعل دقات الطبول في المعارك حماس الجنود.

 ما زلت واقفًا بلا حراك، حاملًا فانوسي وبالكاد ألتقط أنفاسي. وبينما كنت أحاول تثبيت الضوء على عينه، كانت دقات قلبه تزداد كقرع الطبول، إنها تتسارع أكثر فأكثر، وترتفع أكثر فأكثر في كل لحظة. لابد أن الرجل العجوز بلغ من الخوف ما بلغ! أقول لك إن صوت دقات قلبه يزداد ارتفاعًا في كل لحظة، كل لحظة.. هل أنت واعٍ لما أقول؟! لقد أخبرتك أنني عصبي، وأنا صدقًا كذلك.

  ساعة الموت تصدع بدقاتها الصمت الرهيب لهذا المنزل العتيق، دق.. دق.. دقاتها المزعجة تدفعني إلى خوف لا أستطيع السيطرة عليه. مع ذلك ظللت واقفًا في مكاني لبضع دقائق، ولكن نبضات قلبه ترتفع وترتفع ارتفاعا فظيعا، حتى ظننت أن قلبه سينفجر. وبدأ ينتابني قلق آخر، لربما سمع الجيران صوت نبضات قلبه المرتفعة! أوه… لقد حانت ساعة الرجل العجوز، ولا يجب أن أنتظر أكثر. صرخت بكل صوتي وأضأت الفانوس كله، ثم اندفعت إلى وسط الحجرة اندفاعًا. لقد صرخ صرخة واحدة، واحدة فقط. في لحظة جرَرته إلى الأرض وأطبقت السرير فوقه إطباقًا. تبسمت فرحًا، فأخيرًا أتممت فعلتي. بعد دقائق معدودة سمعت صوتًا.. صوتًا مكتومًا، إنه صوت نبضات قلبه! لا يهم، فالصوت لن يزعجني، فلن يخترق الجدران، ولن أسمعه. كما أنني أبعدت السرير من فوقه لأتفحصه، ووضعت يدي فوق قلبه لعدة دقائق، لم يكن هناك نبض، لقد كان جثة هامدة. حُق لي أن أنام الآن قرير العين، فلن تزعجني عينه بعد ذلك.

ها.. أما زلت تظنني مجنونًا؟! صدقني ستتراجع عن رأيك عندما أصف لك حكمتي في اتخاذ الاحتياطات لإخفاء الجثة. بدأ الليل ينكشف، كنت أعمل بسرعة لكن في صمت. أولًا وقبل كل شيء بدأت بتقطيع الجثة، قطعت الرأس والذراعين والساقين.

اصبر.. ستكتشف الآن أين حكمتي.

بعدها أخذت ثلاثة ألواح من الخشب الذي يغطي أرضية الغرفة ووزعت أعضاؤه بين قطع الخشب، بعدها أعدت الألواح إلى مكانها بكل مهارة وذكاء، بحيث لا يُمكن لأي عين بشرية -ولا حتى عينه هو- أن تشك بأي شيء. ولم يكن هناك أي شيء بحاجة إلى التنظيف، لا بقع دم أو غيره، فقد جمع حوض الاستحمام كل شيء. ذكيٌ فطن!

 كانت الساعة الرابعة تمامًا عندما انتهيت من هذا العمل المُجهد، ولكن الليل كان حالكًا كأنه في منتصفه. دق جرس المنزل، أحدهم يطرق الباب. ذهبت لأفتح بقلب مرتاح، فليس هناك شيئًا أخشاه، أليس كذلك؟! فتحت الباب فإذا بثلاثة رجال عرّفوا بأنفسهم بكل لباقة بأنهم ضباط شرطة. أخبروني أن أخبارًا وصلتهم بأن أحد الجيران سمع صرخة مُفزعة خلال الليل، واشتبهوا بأن يكون هناك جريمة مدبرة، فأرسل مركز الشرطة هؤلاء الضباط للتحري عن الأمر وتفقد المنطقة.

ابتسمت.. فليس هناك شيئًا أخشاه، أليس كذلك؟ رحبت بالسادة الضباط، وقلت: الصرخة؟ ليست إلّا صرختي أنا من كابوس مفزع. أخبرتهم بالطبع عن الرجل العجوز وأخبرتهم بأنه ذهب إلى الريف. أخذتهم في جولة حول المنزل، وطلبت منهم أن يبحثوا، ويبحثوا جيدًا، أكملنا الجولة وأخذتهم إلى غرفة الرجل العجوز، وجعلتهم يتفقدون محتويات الغرفة جيدًا. أريتهم ممتلكاته، وكيف أنها مرتبة ولم يمسسها أحد. ولحماستي الشديدة وثقتي بأن يُستحال على أحد أن يكتشف فعلتي، أحضرت كراسي وأجلست رجال الشرطة في غرفة الرجل العجوز، وجلست أنا -لثقتي الزائدة- واضعًا كرسيي فوق بقعة الجثة، مُثبتًا لنفسي انتصاري الساحق.

كانوا ضباط الشرطة مقتنعين بكل شيء أقوله، فقد أقنعتهم أخلاقي الرفيعة بأن كل شيء على ما يرام. كانوا يسألون وأجيبهم بكل حماس وشجاعة، ثم أخذوا يتحدثون عن جرائم مألوفة. وبعد هُنيهة شعرت بأن وجهي أصبح شاحبًا فتمنيت في سري لو أنهم يذهبون. ثم أخذ رأسي يؤلمني ألمًا فظيعًا، وخُيّل إليّ أن رنينًا يصدح في أذني، تمنيت لو أنهم يذهبون، لكنهم مازالوا هناك يتحدثون. ازداد الرنين وضوحًا أكثر فأكثر بشكل مستمر، حاولت أن أتكلم بأريحية أكثر لأتخلص من هذا الشعور المربك، فإذا بالرنين يزداد وضوحًا، لأكتشف فيما بعد أن هذا الصوت المزعج لم يكن مصدره أذني!

لا شك أن وجهي الآن ازداد شحوبة، على الرغم من هذا أكملت حديثي بفصاحة وبنبرة عالية واثقة. لكن الصوت مازال يرتفع، يا إلهي ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد كان صوتٌ مشوش ومنخفض وحاد كصوت ساعة لُفت بقطعة قطن. التقطت أنفاسي برعب، ومازال ضباط الشرطة يتحدثون ولم يسمعوا ما أسمع، حاولت التحدث بسرعة، تحدثت عن أمور تافهة بغضب وعصبية، لكن الصوت ظل يرتفع ويرتفع. يا إلهي لم لا ينصرفون؟ أخذت أمشي ذهابًا وإيابًا على أرضية الغرفة بخطوات قوية غاضبة ملمحًا لرجال الشرطة بأن ينصرفوا، حنقت واهتجت وسببت ولعنت! أخذت أهز كرسيي وأحكّه على الألواح، مازال الصوت يرتفع ويرتفع ويرتفع، ومازال رجال الشرطة يتحدثون ويبتسمون بكل أريحية. أوه يا إلهي.. يا قادرًا على كل شيء، أيُعقل أنهم لم يسمعوا هذه الضوضاء، ألم يسمعوا هذا الصوت المزعج؟! لا لا.. بل سمعوا وشكّوا.. إنهم يعرفون.. يعرفون كل شيء، وكل تمثيلهم هذا ما هو إلا استهزاء بي وسخرية من رعبي! هذا ما ظننته، وهذا ما أظن. لقد كان أي شيء أرحم من هذا العذاب! يمكنني تحمل أي شيء ولا هذه السخرية!

لم يعد بإمكاني تحمل هذه الابتسامات المنافقة. شعرت أنني لابد أن أصرخ وإلا سأموت! والآن مرة أخرى، أنصتوا.. أعلى فأعلى فأعلى..!

صرخت بذعر “أيها الأوغاد”… يكفي خداع! إنني أعترف.. أعترف بالجريمة! انزعوا الألواح، هنا.. هنا، إنها دقات قلبه اللعين!”