مجلة حكمة
أنّ العلاقة بين الفلسفة والنبوّة والروحانية، التي أكّدها عددٌ من علماء الغرب المعاصرين، تحظى بمكانةٍ جوهريةٍ في الموروث الفلسفي الإسلامي، وهذا ما سيكون محطّ تركيزنا

الفلسفة والنبوّة – سيّد حسين نصر / ترجمة: العنود سعد


 

     نجد في المشهد الثقافي الحالي في الغرب وأنحاء العالم الأخرى التي تأثرت بالحداثة وما بعد الحداثة أنّ الفلسفة والنبوّة تعدّان منهجين متباينين في فهمِ طبيعة الحقيقة، بل متضادّين في أعين الكثير، غير أنّ الحال لم تكن على هذا النحو في جلّ الحضارات التقليدية قبل ظهور العالم الحديث، وليست اليوم كذلك في الأماكن التي ما زالت محتفظة بالنظرة التقليدية إلى العالم، وغنيٌ عن الإشارة أنّنا لا نقصد “النبوّة” بمعنى الإخبار عن الغيب، بل إبلاغ رسالةٍ من مستوياتٍ أعلى من الحقيقة وأعمق إلى مجموعةٍ مخصّصةٍ من البشر، وهي وظيفةٌ تتفاوت أنماطها من دينٍ إلى آخر، لكنّها حاضرةٌ بجلاءٍ في عوالم مختلفة، فنحن نجدها في مصر واليونان القديمتين والديانة الهندوسية، فضلًا عن الديانات الإبراهيمية التوحيدية التي تحظى فيها بدورٍ مركزي، كما نراها إذا لم نتقيّد بمفهومها في التصوّر الإبراهيمي حاضرةً في دياناتٍ أخرى شديدة التنوّع، والتي لا تقتصر أهميّتها فيها على الجانب التشريعي والأخلاقي والروحي فحسب، بل تشمل أيضًا جانبَ الحكمةِ المعنيّةِ بالمعرفة، نشهد هذه الحقيقة في عالم الريشيين Rishis في الهند، والشامانيين في الديانات الشامانية، والإياترومانتس Iatromantis في الدين الإغريقي، والخالدين في الطاوية، وفي استنارة بوذا، وعند شيوخ بوذية الزِن الذين بلغوا الاستنارة أو الساتوري، وأنبياء الديانات الإيرانية مثل زرادشت، وأنبياء الديانات الإبراهيمية دون شك، إذن لطالما ارتبطت الفلسفة بمعناها العام بالنبوّة على صورٍ متعددةٍ ما ازدهرت في هذه سائر هذه العوالم.

     وحتّى إذا حصرنا تعريف الفلسفة في النشاط الفكريّ الذي عُرِف بها في اليونان القديمة، والذي يُعتبر في المفهوم الغربي الحديث للتاريخ أصل النظر الفلسفي ذاته، فإنّنا نجد الصلة بين الفلسفة والنبوّة كانت وثيقة منذ نشأة الفلسفة الإغريقية، كما نلاحظ أنهما لم تفترقا إلّا لاحقًا إذ لم تَكُنَا منفصلتين عن بعضيهما في مستهلّ التراث الفلسفي الإغريقي، ولنبحث في أهمّ ثلاث شخصيات من مطلع هذا التراث: لم يكن فيثاغورس، الذي يُنسب إليه سكّ مصطلح الفلسفة، قطعًا فيلسوفًا عاديًا شأنه شأن ديكارت وكانط، بل يُقال أنّه امتلك قوةً نبويةً خارقة، وكان أشبه بنبيٍ عمل على تأسيس تنظيمٍ دينيٍ جديد[1]، ولقد رآه المسلمون في واقع الأمر موحدًا، وعدّه بعضهم في مصاف الأنبياء.

     لطالما أطلق على بارمنيدس “أبَ” المنطقِ والفلسفةِ الغربية، ووصِف بالعقلانية، وكان قد كتب قصيدةً متواضعةَ الجودة، بيدَ أنّه كما أظهرت دراسات بيتر كينغزلي البارعة بوضوحٍ كان مُنغمسًا في عالم النبوّة بدلالتها في الدين الإغريقي، وكان رائيًا متنبئًا[2]، وهذا ما لا يتفق مع معنى العقلانية الحديث، ففي قصيدته التي ضمّت رسالته الفلسفية، تقود بناتُ الشمس القادمات من قصر النور الواقع في أقصى الوجود بارمنيدس إلى العالم الآخر[3]، أمّا عن كيف حصلت هذه الرحلة فمن خلال “الاحتضان”[4]، وهي ممارسةٌ روحيةٌ معروفةٌ في الدين الإغريقي، يستلقي فيها المرءُ في سكونٍ تام حتّى تُرفع روحه إلى مقاماتٍ أعلى من الحقيقة فتنكشف له أسرار الوجود.

     وهكذا انطلق بارمنيدس في رحلةٍ داخليةٍ إلى أن التقى الإلهة التي علّمته كل أمرٍ ذي أهميّة، أي علّمته ما يعدّ اليوم أسّ النظر الفلسفي الإغريقي، وجديرٌ بالملاحظة أنّ الإلهة لدى مقابلتها بارمنيدس خاطبته بالكوروس Kouros، أيّ الشاب، وهذه معلومة مثيرة ومدهشة، فمصطلح الفُتُوّة -جوانمردى بالفارسية- مأخوذٌ من لفظة فتى –جوان- الدالّة على المعنى عينه، وقد كانت هذه الفتوّة كما يُذكر موجودة من قبل الإسلام، وأُحْيَت بعد بزوغه إحياءً جديدًا، ارتبط فيه مرجعها بعليّ الذي تلقّاها عن نبيّ الإسلام[5]، وحيث كان التحامها بالتصوّف، كما تعزو المصادر الإسلامية التقليدية نشأة الميتافيزيقا الإسلامية إلى عليّ[6].

     كما أُطلق لقب كوروس على إيبيمنديس من كريتِ، والذي كان قد ارتحل إلى العالم الآخر أيضًا، والتقى العدالة، وعاد بشرائع إلينا، كان إيبيمنديس، مثل بارمنيدس، يكتب الشعر، وعُرِفَ بجَمْعِه بين النبوّة والقدرة على الشفاء، أي ممّن يُسمّون بالإياترومانتس، فقد رُفِع له ستار الغيب أثناء عملية “الاحتضان” التي استغرقت سنواتٍ من الاستلقاء في أحد الكهوف[7]، وهو تقليدٌ ارتبط ببارمنيدس، يرتحل فيه الإياترومانتس إلى العوالم الأخرى مثل الشامانيين الذين لا يكتفون بوصف رحلاتهم فحسب، بل يستخدمون اللغة على نحوٍ يتيحها لغيرهم، فهم يستعملون التعاويذ والتكرار في قصائدهم، وهذا ما نراه عند بارمنيدس أيضًا، كما يأتون بقصص وأساطير من بلدانٍ بعيدةٍ بُعدَ التّبت والهند، وهذا أمرٌ لافتٌ جدًا، إذ ينحدر مجتمع بارمنيدس في الجنوب الإيطالي من شرق الأناضول حيث يُبجَّل الإله أبولو، والذي يُعدّ النموذج المقدّس للإياترومانتس الذين يُلهمهم النبوّة لينسجوا قصائدَ تنويميةً تحمل بين ثناياها معرفةَ الحقيقة.

     تكشف الحفريات التي أُجريت في العقود الأخيرة في إيليا، مسقطِ رأس بارمنيدس في الجنوب الإيطالي، عن نقوشٍ تضعه في صلةٍ مباشرةٍ بأبولو والإياترومانتس، يقول كنغزلي: “يظهر لنا أنّ بارمنيدس كان ابنًا للإله أبولو، بِجِوار رسوم غامضة للإياترومانتس الذين برعوا في الشعر التعويذي والخوض في رحلاتٍ إلى العوالمِ الأخرى”[8]، ويتضح لنا إذا ما استحضرنا، من جانبٍ روحي، أنّ “أبولو ليس إله النور، بل نور الإله”[9] مدى عمقِ علاقة الفلسفة التي أتى بها أبوها بارمنيدس الإغريقي بالنبوّة منذ لحظة تشكّلها، وذلك حتّى في تصوّرها في الديانات الإبراهيمية على ألّا يُغفل المرء معناها الباطني والذي سنأتي على ذكره لاحقًا، لقد نشأ تقليدٌ شامل من الكهنة الشُفاة الذين انْبَروا لخدمة أبولو أوليوس ‘أبولو الشافي’، والذي يُعزى تأسيسه إلى بارمنيدس، إنّه لمن العجيب أنْ اندثرت نواحُ بارمنيدس هذه في الغرب فيما بعد، بينما ظلّت حاضرةً في الفلسفة الإسلامية، إذ لا يُقيم مؤرّخو الفلسفة المسلمون العلاقة بين النبوّة والفلسفة الإسلامية فحسب، بل بينها وبين الإغريقية كذلك[10]، ونستحضر في هذه المناسبة الأثر العربي القائل: “تنبع الحكمة من مشكاة النبوة”.

     وممّا يسترعي الانتباه غموضُ معلِّم بارمنيدس وفقرُه، وتعليمُه تلميذه السكون أو الهيزاخية Hesychia قبل كل شيء، والتي بلغت أهميّتها أنّ الذين سعوا لفهم بارمنيدس لاحقًا، كأفلاطون مثلًا، استعملوها أكثر من أيّ مصطلحٍ آخر لوصف مفهومه عن الحقيقة، “في نظر بارمنيدس، بواسطة السكون نصل إلى السكون، ومن خلال السكون يسعنا أن نفهم السكون، فعبر ممارسة السكون يتسنّى لنا اختبار الحقيقة الكامنة ما وراء عالم الحواس”[11]، ويجدر التفكّر مرةً أخرى في توظيف ‘الهيزاخية’، المنسوبة إلى مؤسّس المنطق والفلسفة الإغريقية، في الحركة الهدوئيّة Hesychasm التي تجسّد تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الغنوصية، والتي تصبو إلى تحقيق القداسة والعرفان.

     تطلب الإلهة بارمنيدس في قصيدته صراحةً أن يعود بما علّمته إيّاه إلى العالم ويكون رسولها، يوضّح كنغزلي معنى مصطلح الرسول في هذا السياق فيقول: “هناك كلمةٌ محدّدة تبيّن أيّ نوعٍ من الرُسُل كان بارمنيدس وهي: نبيّ، ولا علاقة لمعناها الدقيق بالقدرة على الإخبار عن الغيب، فهي تعني في أصلها شخصًا تمثّلت وظيفته في التحدّث نيابةً عن قوةٍ عظمى أو أحدٍ أو أمرٍ ما”[12]، ولم تقتصر هذه “الوظيفة النبويّة” التي تولّاها بارمنيدس على كونه فيلسوفًا وشاعرًا وشافيًا، بل اقتضت أيضًا أن يكون حاملًا للشريعة مثل إبيمنديس.

     لم تكن صلة بارمنيدس بالنبوّة اجتماعيةً وتشريعيةً ظاهريةً في جوهرها، بل كانت ذات ملمحٍ داخليٍ باطنيٍ روحيٍ، فقصيدته بحدّ ذاتها، إذا ما حُمِلت على وجهها الصحيح، ما هي إلّا إعدادٌ روحي لعالمٍ آخر: “تدل كلّ هذه العلامات التي لا يفوّتها إلّا الجاهل على أنّها نصٌ للمُريدين”[13]، ويشترك في هذا مع فيثاغورس وإيمبيدوكليس اللذين كانت فلسفتهما موجّهةٌ حصرًا لمن حاز الاستعداد لتلقي رسالتها، فقد كان مدارها الجانب الباطني من الدين الإغريقي لا ظاهره، وكانت تتطلّب تلقينًا روحيًا لاستيعابها بشكلٍ كامل، ونلاحظ مرةً أخرى التشابه الكبير بين تصوّر الفلسفة في الفلسفة الإسلامية وتصوّرها عند هذه الشخصيات التي عاشت قبل سقراط، كفيثاغورس وبارمنيدس وإيمبيدوكليس، والذين ينظر إليهم الفلاسفة المسلمون بعين التبجيل لا سيّما أتباع مدرسة الإشراق.

     وفي الحديث عن شخص إمبيدوكليس الغامض، نرى من جديد فيلسوفًا قال الشعر وامتلك القدرة على الشفاء، وأنزله العديد منزلة الأنبياء، “فقد كان نبيًا شافيًا من الأنبياء الشفاة الذين ذكرتهم آنفًا، إلى جانب كونه ساحرًا وشاعرًا”[14]، كما كتب إمبيدوكليس في علم الكونيّات وفي العلوم الطبيعية كالفيزياء، وحتّى في مواضيع كهذه، لم تكن الأعمال تُكتَب لتقديم الحقائق فحسب، بل “لتخليص الأرواح” أيضًا[15]، وهذا يُماثل ما خطّه جمْعٌ من الفلاسفة المسلمين في علم الكونيّات كالسهروردي، وحتّى ابن سينا في رسائله[16]، وأهمّ ما علينا اعتباره هو أنّ إمبيدوكليس قد رأى نفسه نبيًا وعدّ قصيدتَه عملًا روحيًا.

     حريٌ بالإشارة أنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين برزوا في طليعة التقليد الفلسفي الإغريقي كان شاعرًا، وهذه سمةٌ اصطبغ بها شطرٌ واسعٌ من الفلسفة التي ازدهرت تحت شمس النبوّة على مرّ العصور، وبِحَسْب المرء أن يستحضر حكماء الهندوس الشعراء، وآباء الفكر الفلسفي الهندوسي التقليدي، وثلة من حكماء الصين الذين وجدوا في الشعر وسيلةً للتعبير، كما نلاحظ ذلك في الديانات الإبراهيمية التوحيدية بين عددٍ من الفلاسفة اليهود والمسيحيين، وبين الفلاسفة المسلمين على وجه الخصوص، مثل ابن سينا، وناصر خسرو، والخيّام، والسهروردي، وأفضل الدين كاشاني، وميرداماد، والمُلّا صدرا، والحاج المولى هادي السبزواري الذي عاش في القرن الثالث عشر هـ/ التاسع عشر م.

     وفي مثل العالمٍ الذي نعيش فيه اليوم، حيث تُختزل الفلسفة إلى العقلانية أو إلى اللاعقلانية أكثر فأكثر، وتُقصى فيه الروحانية بل الدين كذلك أو يُهمّشان، يُرفض التفسير السابق حول مؤسّسي الفلسفة الغربية في العديد من الدوائر، ويُضرب صفحًا عن العلاقة بين الفلسفة والنبوّة بشكل عامٍ، وعن الصلة بين الشعر والروحانية خاصّةً، أو يُستهان بأهميّتهما، لكنّ القارئ الغربي يجد، خلافًا لما يتوقعه، أنّ العلاقة بين الفلسفة والنبوّة والروحانية، التي أكّدها عددٌ من علماء الغرب المعاصرين، تحظى بمكانةٍ جوهريةٍ في الموروث الفلسفي الإسلامي، وهذا ما سيكون محطّ تركيزنا في معظم الكتاب، لقد أوردنا النقاش حول هذه الشخصيات الإغريقية لنبيّن أنّ الصلةَ بين الفلسفة والنبوّة ، برغم ما اعتراها من انقطاعٍ غير مسبوقٍ منذ نهاية العصور الوسطى وما تلاها، ذاتُ أهميّةٍ عظيمةٍ لا لفهم الفلسفة الإسلامية فحسب، بل لاستيعاب أصول الفلسفة الغربية ذاتها استيعابًا عميقًا، وهي أصول تشترك فيها الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية، بيد أنّ كلًا من الاتّجاهين الفكريين قد نحى في فهمها مناحٍ تختلف عن الآخر اختلافًا جذريًا، فقد نأت الفلسفة الغربية بنفسها بعيدًا عن الفلسفة الخالدة واللاهوت المسيحي.

˜™

     لا شكّ أنّ للنبوّة أنواعٌ ودرجاتٌ مختلفة، وهذا ما يلاحظه المرء إذا ما درس التقاليد الدينية المتنوعة، أو حتى لو اقتصر على تقليدٍ واحد، فنرى في اليهودية والإسلام مثلًا أنّ وظيفة يونس ودانييل النبويّة تختلف عن دور موسى ونبيّ الإسلام، لكن ثمّة عناصر مشتركة بين مفاهيم النبوّة المتعددة فيما يتعلق بالتحديات التي تعرض للفلسفة، تفترض النبوّة أولًا تعدد مستويات الحقيقة، سواء صوّرت هذه المستويات في تراتبيةٍ موضوعيةٍ أم ذاتية، إذ إن لم يكن للحقيقة إلّا مستوى واحدًا يرتبط موضوعيًا بالعالم الحسيّ، وذاتيًا بوعينا الطبيعي، والذي يعدّ الصورةَ الوحيدة المجازة والمقبولة من صور الوعي، تفقد النبوّة معناها باعتبارها مهمةً تتمثّل في إبلاغِ رسالةٍ من عالمٍ أو مستوى آخر من الحقيقة، إذ لم يعد لهذا العالم أو المستوى وجود، وسيعدّ أيّ زعمٍ بوجوده أمرًا منكرًا وهذيانًا شخصيًا، وهذا واقع الحال مع العلموية الحديثة والنظرة السائدة التي تنزع القداسة عن العالم، فكلا المنظورين يستبعد وجودَ حقيقةٍ متعالية، أو أبعادٍ من الوجود تتجاوز عالمنا، أو ذاتٍ محايثة، أو طبقاتٍ من الوعي أعمق من وعينا الطبيعي، أمّا العوالم التي تؤمن بحقيقة النبوّة في أي شكلٍ من أشكالها، فهي تسلّم جميعها بأنّ الإيمانَ بوجودِ مستوياتٍ أرفع من الحقيقةِ ودرجاتٍ أعمق من الوعي هو النهج السليم لفهم طبيعة الحقيقة التي يعيشها البشر بإجمالها[17]، ويشمل هذا التسليم، وفقًا للصياغة السابقة، الديانات التوحيدية الإبراهيمية، والديانات الهندية، والطاوية، والكونفوشيوسية، بالإضافة إلى الديانات القديمة في حوض البحر المتوسط، والديانات الإيرانية القديمة، والشامانية، والبوذية، التي تؤكّد على تعدد طبقات الوعي، لا على تعدد مستويات الوجود الموضوعي، يستوجب مفهوم النبوّة بحدّ ذاته الإيمان بهرميّة الحقيقة، سواء أكانت هرميةَ حقائق مستقلة عن حاسة المرء ‘موضوعية’، أو هرمية حقائق متصوّرة ذهنيًا ‘ذاتية’، ذلك لأنّنا إذا اخترنا الاكتفاء بالثقة بحسْبةِ أذهاننا، والاعتماد على ما تمليه علينا حواسّنا، بطلت فكرة النبوّة، وتساوت جميع الفلسفاتِ مع الفلسفة الغربية الحديثة.

     وتُثير النبوّة في جلّ هذه العوالم التي تعتبرها حقيقةً مركزيةً تبعاتٍ يتعيّن على الفلسفة معالجتها، فهي تمدّ المجتمعَ بقوانين وتعاليم أخلاقية تبحث فيها الفلسفة الأخلاقية والسياسية والقانونية، كما تدّعي تقديم معرفةٍ بطبيعة الحقيقة، كمعرفةِ أصل جميع الأشياء، وخلق الكون وهيكله، أي علوم نشأة الكون والكونيّات، وطبيعة الروح الإنسانية التي تضمّ ما يسمى “بعلم الكائنات الروحية” وعلم النفس التقليدي، إلى جانب المعرفة بنهايات الأمور أو ما يُعرف بعلم الأخرويات، وتكمن ثمرة النبوّة في التعرّف إلى جوانب الحقيقة الرئيسة التي يعيشها البشر، ويتساءلون عنها، مثل مسألة الزمن، والمكان، والجوهر، والعرض، والسببيّة، والقدر، وغيرها من المسائل الكثيرة الواقعة في دائرة اهتمام الفلسفة العام.

     كما تختصّ بعض أشكال النبوّة بالمعرفة الداخلية، والأمور الباطنية الروحية، وبالكشوف من مستويات الحقيقة الأخرى، والتي لا تلاؤم العامّة من الناس على وجه الإجمال، لقد سبق أن رأينا الارتباط بين منشأ الفلسفة الإغريقية والبعد الروحي للدين الإغريقي، ويمكننا أن نرى أمثلة وافرة في التقاليد الأخرى، بما فيها البوذية، والإسلام على وجه الخصوص، والذي اشتدّت فيه أصر العلاقة بين الفلسفة والجانب الباطني للوحي القرآني أكثر فأكثر في القرون المتأخرة، كما أنّ تاريخ الارتباط بين الفلسفة والروحانية، وهو أحد أبعاد النبوّة بدلالتها العامّة، طويلٌ في الغرب، إذ استمرّ قائمًا حتّى الحركة الرومنطيقيّة الألمانية.

     لقد ارتأت الفلسفة الغربية منذ القرن السابع عشر فصاعدًا بأنّ عليها الإدلاء بدلوها حول الصورة التي رسمتها العلوم الحديثة للعالم، فصارت سندًا يؤازر العلم الحديث لا سيّما مع كانط، بالغةً ذروتها في القرن العشرين في قسمٍ كبيرٍ من الفلسفة الأنجلوساكسونية، والتي تكاد لا تعدو أن تكون سوى منطقٍ جرى ربطه بنظرة علمية تجاه العالم، أمّا على صعيد العوالم التقليديّة، لم تجد الفلسفة بدًا من أخذ مركزية النبوّة والوحي فيها بعين الاعتبار، سواء تجسدت النبوّة في كتابٍ أو نمطٍ آخر من الرسائل السماوية، أو في النبيّ ذاته كما هي الحال مع الأفاتار في الهندوسية وبوذا والمسيح، تقدّم الفلسفة تفسيرًا فلسفيًا لموضوعٍ ما، ولطالما ضمّ هذا الموضوع في العوالم التقليدية التي نحن في صددها الحقائقَ التي تُكشف من خلال النبوّة، والتي تتباين في هيئاتها، من استناراتٍ تعرض للريشيين الهندوس وبوذا، وكلامِ الله مع موسى في طور سيناء، وتبليغِ جبريل رئيس الملائكة القرآنَ إلى نبيّ الإسلام.

     وليست الفلسفة في هذه العوالم التقليدية مجرد مرادفٍ لعلم اللّاهوت كما يدّعي البعض، إلّا إن قمنا بحدّ الفلسفة في تعريفها الوضعي الحديث، وحينها ستختفي كلّ الفلسفات غير الغربية، بل حتّى الفلسفة الغربية الوسيطة، ولن يبقى لنا ما نتحدّث عنه في هذا الصدد، لكنّنا إذا ما سلّمنا بالفلسفة كما يعرّفها فيثاغورس، الرجل الذي ابتكر مصطلحها، ونظرنا إليها باعتبارها حبًا للحكمة، أو قبلنا بها “تدربًا على الموت” كما عند أفلاطون، بحيث تشتمل الفلسفة على النشاط الفكري والممارسة الروحية معًا، نرى وقتئذٍ تعدّد المدارس الفلسفية في شتّى العوالم التقليدية، والتي ما يزال بعضها قائمًا في صورته الشفهية فقط كما عند سكّان أستراليا الأصليين والهنود الحمر[18]، فيما حفظت أممٌ أخرى فلسفاتها في مجلداتٍ خطّتها على مرّ القرون.

     وحتّى في حال أزمع المرء تناول الفلسفة في أرض النبوّة بالبحث مقتصرًا على الأعمال الفلسفية المدوَّنة، ففي وسعه تأليف المجلدات في هذا الموضوع إذا ما نظر في التقاليد الصينية الفلسفية الطاويّة والكونفوشيوسية والبوذية التبتيَّة وبوذية الماهايانا، بما فيها المدارس اليابانية، والتي تتميّز كل واحدةٍ منها بسماتها الخاصّة، بالإضافة إلى التراث الفلسفي الهندوسي الغنيّ في الهند، كما في وسع المرء التوجّه إلى الديانات الإبراهيمية، والكتابة عن المدارس الفلسفية اليهودية والمسيحية والإسلامية في ضوء ما كان من النشاط الفلسفي في الآفاق التي هيمنت عليها النبوّة، ولن تكون طرق البحث في هذه التقاليد المتقاربة متماثلةً تمامًا رغم التشابهات الكبيرة فيما بينها، إذ على الرغم من التقارب الشديد بين اليهودية والإسلام في مفاهيم النبوّة والكتاب المقدس، فإنّ المسيحية التي ترى مؤسِّسها تجسيدًا للإله تختلف عنهما في مناحٍ شتّى بخصوص هذه المسألة، وتشتد أهميّة هذا التباين من الجانب الفلسفي كما نرى في المعالجة الفلسفية للتجسّد في الفلسفة المسيحية و”الفلسفة النبويّة” في السياق الإسلامي[19].

     سنقصر نقاشنا في هذا الكتاب الذي يتناول الفلسفة في أرض النبوّة على الفلسفة الإسلامية، وذلك نظرًا لطبيعة دراساتنا في الفلسفة على مدار العقود الخمسة السالفة، والتي انصبّ جلّ اهتمامها على الفلسفة الإسلامية، غيرَ أنّنا درسنا أيضًا ما سواها من التقاليد ما يخوّلنا الجزمَ على إمكانيةِ تأليفِ عملٍ مماثلٍ في الفلسفة الإغريقية، واليهودية، والمسيحية، والكونفوشيوسية الجديدة، والهندوسية، بما بينها من شبهٍ واختلاف، وأوجه التشابه، من ناحيةٍ، أشدّ جوهرية من الاختلاف، إذ تتمثّل في الحقائق الميتافيزيقية الأساسية التي تشكّل قاعدةً مشتركة، وهي ما نطلق عليه مصطلح الفلسفة الخالدة philosophia perennis، فاختلاف تمظهرات هذه الفلسفة يعود إلى اختلاف المناخ الفكريّ الذي يحتضنها، مثلما تتفق الأديان في الوحدة الروحية وتتنوع في أشكالها[20].

     نستهدف بهذا المؤلّف تقديم الفلسفة الإسلامية بتعاليمها وتاريخها باعتبارها فلسفةً عمِلت في أفق الإسلام الذي هيمنت عليه النبوّة وساده كتابٌ مقدس، مركّزين على حقبها المتأخرة، بخاصةٍ في بلاد فارس التي أضحت بعد الغزو المغولي في القرن السابع هـ/ الثالث عشر م. ميدانًا رائدًا استدامت فيه الفلسفة الإسلامية، واقتربت أكثر من ذي قبلٍ من الحقائق الخفيّة المتحصّل عليها من خلال النبوّة، كما يوجد الباعث المهم في أنّ هذه الفترة ليست معروفة في الغرب جيدًا رغم الأبحاث التي قام بها عدد من علماء اللغات الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين، فيعرض الكتاب في قسمه الأخير، حقيقةً، العديد من الشخصيات والأفكار التي يجهلها الغرب تمامًا، ويهمّ تسليط الضوء على الفلسفة الإسلامية المتأخرة الدراسات المقارنة أيضًا، إذ يبيّن كيف افترق التقليدان الفلسفيان الإسلامي والمسيحي عن بعضهما سالكين مصائر مختلفة منذ القرن الثامن والتاسع هـ/ الرابع عشر والخامس عشر م. فصاعدًا، فقد نأت الفلسفة المسيحية أكثر فأكثر عن اللّاهوت من بعد القرن الثامن هـ/ الرابع عشر م.، ولم تعد المدارس الفلسفية الرئيسة في الغرب شيئًا فشيئًا فلسفة المسيحية، بل انقلب معظمها، في واقع الحال، على الدين إجمالًا، والمسيحيةِ على وجه الخصوص، جاعلةً من الفلسفة عدو الدين الأَّلد، أمّا في العالم الإسلامي، فقد ظلّت الفلسفة تعمل في نطاقٍ تحكمه النبوّة، ولم يزل هذا الوضع قائمًا على امتدادٍ واسع حتّى اليوم برغم ظهور الفلسفات العلمانية هنا وهناك في دول إسلامية مختلفة.

     إنّه لمن العجيب جنوح جمْعٍ من علماء الفلسفة الإسلامية من المسلمين العلمانيين ممّن يكتبون عنها ولا ينتمون إليها إلى انتقاد مفهوم “الفلسفة النبويّة” عينه، وسعيهم إلى فصل الفلسفة عن النبوّة سَيْرًا على مثال الغرب الحديث، في حين نجد عددًا معتبرًا من الفلاسفة الأمريكيين ينضمّون في الحاضر إلى جماعة الفلاسفة المسيحيين، ونرى تزايدًا في الاهتمام بالفلسفة اليهودية أيضًا باعتبارها فلسفةً للحياة، وفي معرض هذا الحديث، يمكن للفلاسفة الغربيين الساعين إلى إحياء الفلسفة اليهودية أو المسيحية أن يُفيدوا من حضور التقليد الفلسفي الإسلامي المتّصل بوصفه فلسفةً للحياة، والذي طَالَمَا عمل في محيطٍ تسيّدته النبوّة، كما قد تساعد هذه الدراسة بعض المسلمين المهتمّين بالفلسفة ممّن كانوا قد انقطعوا عن إرثهم الفلسفي دون أن يتخلّوا عن إيمانهم بالنبوّة.

 

 

 

 


الملاحظات

* هذا النص ترجمةٌ لمقدمة كتاب سيّد حسين نصر Islamic Philosophy from Its Origin to the Present.

[1]على المرء أن يتذكّر أنّ فيثاغورس أنشأ تنظيمًا دينًا يتمركز حول أبولو في كروتونه، سنّ فيه قانونًا للحياة مثلما يفعل الأنبياء في الأديان الأخرى، انظر:

Kenneth S. Guthrie, compiler and trans., The Pythagorean Sourcebook and Library (Grand Rapids, MI: Phanes, 1987).

وانظر على وجه الخصوص ما كتبه يامبليخوس عن “حياة فيثاغورس”، حيث نجد إشاراتٍ تدّعي ألوهية فيثاغورس، وتعرّفه كأبولو ذاته، بالإضافة إلى عمل بيتر كينغزلي الأصيل والذي يتقصّى فيه حياة فيثاغورس وإيمبيدوكليس:

Ancient Philosophy, Mystery and Magic (Oxford: Clarendon, 1995).

[2] Kingsley, Peter. In the Dark Places of Wisdom (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 1999); Reality (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 2004).

[3] لقد ارتكزت فيما يلي عن بارمنيدس على كتاب Reality لبيتر كنغزلي [pp.31ff].

[4] تقابل هذا المصطلح لفظة Incubation بالإنجليزية، يقول بيتر كنغزلي في كتابهDark Places of Wisdom and Reality: “إنّ الشكل الذي يتّخذه الاحتضان بالغ البساطة، حيث يستلقي المرء عادةً في مكانٍ خاصٍ بعيدٍ عن الإزعاج، والذي قد يكون -أحيانًا- غرفةً داخل المنزل أو المعبد، ويغلب أن يكون كهفًا أو مكانًا يعتبر محطّةً لدخول العالم السفلي، ولا يلجأ الناس إلى هذه الممارسة حال مرضهم فقط، فهناك خبراء في الاحتضان، يتقنون فنّ الانتقال إلى حالة وعيٍ مختلفة… وقد يقومون بذلك أحيانًا من أجل شفاء الآخرين، لكنّ مقصد الاحتضان الرئيس، في حقيقة الأمر، لم يكن الشفاء على الإطلاق، وإن بدا كذلك، فمربط الفرس يكمن في حقيقة أنّ الشفاء مجلوبٌ من مستوى آخر من الوجود، مكانٍ مختلف، فقد كان هؤلاء الخبراء أناسًا قادرين على الوصول إلى العالم الآخر، والتواصل مع المقدّس، وتلقّي المعرفة من الآلهة مباشرة.” – المترجمة.

[5] Nasr, S. H. “Spiritual Chivalry,” in ed. S. H. Nasr, Islamic Spirituality, vol. 2 (New York: Crossroad, 1991), pp. 304–15.

[6] Allamah Sayyid Muhammad Husayn Tabatabai, Ali wa’l-Hikmat Al-Ilahiyyah, Majmu’a-yi Rasa’il, Sayyid Hadi Khusrawahahi (ed.) (Tehran: Daftrar-i Nashr-i Farhang-i Islāmī, 1370 A. H. [solar]), pp. 191ff.

[7] Kingsley, op. cit., p. 33.

[8]  المصدر السابق [p.40].

[9] Martin Lings, The Secret of Shakespeare (New York: Inner Traditions International, 1984), p. 18.

[10]  يلقّب النبيّ إدريس ‘أخنوخ’، والمعرّف بهرمس Hermes، بأبي الحكماء في الموروث الإسلامية الكلاسيكي، انظر:

Nasr, S. H. “Hermes and Hermetic Writings in the Islamic World”, Islamic Life and Thought (Chicago: ABC International Group, 2001), pp. 102–19.

[11] Kingsley, op.cit., p. 46.

[12]  المصدر السابق [p.87].

[13]  المصدر السابق [p.62].

[14]  المصدر السابق [p.320]. انظر أيضًا كتاب بيتر كينغزلي Ancient Philosophy, Mysticism, and Magic.

[15] Kingsley, Reality, p. 323.

[16] Nasr, S. H. An Introduction to Islamic Cosmological Doctrines (Albany: State University of New York Press, 1993), chapter 15, “Nature and the Visionary Recitals,” pp. 263–74.

[17] Huston Smith, Forgotten Truth (San Francisco: Harper, 1992), esp. chapter 3, “Levels of Reality,” pp. 34–59; and chapter 4, “Levels of Selfhood,” pp. 60–95; René Guénon, The Multiple States of Being, trans. Joscelyn Godwin (Burdett, NY: Larson, 1984).

[18]ليس على المرء إلّا قراءة تعاليم بلاك إلك Black Ilk، حكيم قبيلة السيوكس العظيم، ليدرك مدى عمق الفلسفة التي كانت حاضرةً في صيغةٍ شفهيةٍ بين شعبٍ عدّ النبوّة حقيقةً مركزيةً في حياته الروحية:

Joseph E. Brown, The Sacred Pipe (New York: Penguin Metaphysical Library, 1986).

[19] لقد تطرّق هنري كوربين إلى هذه المسألة في العديد من أعماله، والتي سنعود إليها لاحقًا في هذا المؤلَّف.

[20] انظر أعمال فريجوف شوان الأصيلة حول هذا الموضوع، بالأخص:

Transcendental Unity of Religions (Wheaton, IL: Theosophical Publishing House, 1993); Form and Substance in the Religions (Bloomington: World Wisdom Books, 2002).