مجلة حكمة

العلمانية والاختلاف الجنسي والحرية الدينية – صبا محمود / ترجمة: نورة آل طالب


 مع اتساع الجدل الدائر حول العلمانية خلال العقدين الماضيين، نجد أنه توحّد حول مجموعة من الرؤى والافتراضات العملية التي سيكون من المفيد ذكرها في بداية محاضرتي لسببين اثنين.

بالنظر للجِدة النسبية لمجال الدراسات العلمانية، لا يمكن لأحد افتراض أن تلك الرؤى يعرفها أو يشاركها غير العارفين بهذا الجدل الدائر. ثانيًا، هذا يتيح لي إيضاح الإطار الذي أعمل من خلاله بحيث يمكنني التقصي عن أسئلة أكثر دقة حول العلاقة بين العلمانية والاختلاف الجنسي والدور الذي تؤديه هذه الرابطة بين الجنسانية والعلمانية في تنظيم الاختلاف الديني في الدول الإسلامية  الشرق أوسطية ما بعد الكولونيالية.

تُفهم العلمانية عادةً بأنها مبدأ تأسيسي للحكم الديمقراطي الليبرالي الذي يحقق الفصل بين الدين والسياسة، ما يتيح للفرد ممارسة معتقداته الدينية بحرية دون إكراه وتدخل من الحكومة وذلك تحت مظلة الحق في الحرية الدينية. غير أنه في السنوات الأخيرة، وُوجه هذا الفهم للعلمانية بوصفها فصلاً قانونيًّا بين الدين والسياسة بشكلين اثنين. أولاً، يُظهر رصيد متنامِ من المعرفة أن علمنة المجتمع الحديث لم تؤدِّ على مر التاريخ إلى انسحاب الدولة من النطاق الديني، بل فرضت على الدولة إعادة تشكيل الملامح الجوهرية للحياة الدينية. وأحد المقومات الأساسية لعملية إعادة التشكيل هذه تتضمن توسع نفوذ الدولة في تنظيم القوانين الاجتماعية والتشريعية المستنبطة من الشريعة الدينية. نجد في أمثلة عديدة كيف أن دولاً قومية معاصرة اضطرت لتبني دورًا لاهوتيًّا حقيقيًّا للتمييز بين ما هو لائق دينيًّا مما هو غير ذلك لاعتماد بعض الممارسات المحايدة ومن ثم ضمها بشكل شرعي تحت مظلة القانون المدني. إن تداخل الدين مع الحكم المعاصر لا يطغى فقط على المجتمعات غير الغربية، إنما أيضًا على تلك الدول التي تُعد نماذج مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العلمانية، وهذا يتضح في التنظيم القضائي والتشريعي القائم لبعض جوانب الحياة الدينية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

التدخل الهام الآخر الذي يجعل زعم العلمانية إظهارَ الحياد تجاه الدين ملبسًا يصدر من الأنثروبولوجيين والمؤرخين الذين يجادلون بقولهم إن عملية العلمنة في المجتمعات الأكثر ديمقراطية وليبرالية لم تؤد كثيرًا إلى إبعاد الدين عن السياسة أو الحياة العامة، إنما قادت إلى إعادة تشكيله وفقًا لنموذج تدين معياري يسهل قولبته مع ممارسات الحكم السياسي الليبرالي. وينظر هذا النموذج المعياري للدين باعتباره مسألة إيمان مخصخص بمجموعة من الافتراضات العقائدية التي يرتضيها الفرد المستقل بذاته. يلفت الباحثون الانتباه إلى الممارسات الضبطية التي ينتج منها مثل هذا المفهوم المعلمن للتدين وللمؤمِن المصاحب. هذا النتاج كما يشيرون، لم تنجزه الدولة وحدها، بل ساهمت فيه مجموعة واسعة من التنظيمات الاجتماعية والثقافية والمدنية التي تروج أنشطتُها للاتجاهات العلمانية وتُوجدها مع التأكيد على تبني موقف هيرمونطيقي ما بعد بروتستانتي تجاه الكتاب المقدس والطقوس الدينية، والإبقاء على الحس الأخلاقي والمناقبي بالإضافة إلى تبني مفهوم خطي للزمان والتاريخ.

هذان الإلتباسان المرتبطان والمتمايزان في الرواية العلمانية التقليدية فتحا مجالاً جديدًا للبحث في (أ) نماذج مختلفة من تنظيم الدولة للحياة الدينية و (ب) في الآثار غير المتوقعة التي ترتبت على هذا التنظيم في الميادين السياسية والأخلاقية والاجتماعية. ورغم تزايد المشاريع والكتابات حول العلمانية خلال العقد الأخير، كما أشار إلى ذلك مؤخرًا مايكل وارنر وجون سكوت، إلا أنه توجد ثغرة هائلة في المعرفة المتعلقة بالدور الرئيس الذي تؤديه الجنسانية في السجالات حول العلماني. وتبرز هذة الثغرة أكثر من ذي قبل بالنظر إلى أن غالب التأزمات حول العلماني في العالم المعاصر تتعلق، على سبيل المثال لا الحصر، بالجنس والعلمانية، والنزاعات حول الإجهاض، وزواج المثليين، وقوانين الحجاب، وترسيم القساوسة الشواذ، وإدارة برامج علاج مرض نقص المناعة المكتسب وبرامج التخطيط الأسري الدولية.

تقترح سكوت وورانر مقاربتين مختلفتين لتشخيص هذا الفشل التحليلي ولفحص الرابطة بين الجنس والعلمانية. بالنسبة لوارنر، العلاقة اللازمة بين الجنس والعلمانية لا تتعلق كثيرًا بعداء الدين-ولأكون أكثر تحديدًا المسيحية- للجنس إنما تتعلق كثيرًا بالتشكل المشترك بين الجنسانية والعلمانية في العصر الحديث. ويتضح هذا التشكل المشترك بجلاء في الممارسات السياسية الحيوية للدولة التي تعيد إدارتها للسكان معايرة الجنسانية باسم الصحة العامة والعلاج والتناسل، بوصفها أحد المحاور الرئيسة لنظام الحكم المعاصر.

يُجادل وارنر بصورة مقنعة بأن هذه المعايرة للجنسانية لم تظهر في الممارسات الحاكمية فحسب، إنما أيضًا في عدد من الحركات الدينية المعاصرة، والتي يُفترض مناهضتها للعلماني، التي طرحت مسألة التدين بوصفه مرتبطًا ارتباطًا لازمًا وجوهريًّا بالتعاطي الملائم مع الجنس. وما هو جديد كليةً بشأن محاججة وارنر أنه قلَب الطاولة على ما يظهر أنه تفسير فوكويّ ليلمح إلى أن الجنسانية العلمانية، بالرغم من ضبطها الساحق، ليست محصورة بمشاريع المعايرة تلك لكنها أيضًا تتخطاها. أود أن أنبه إلى الفرق الذي يقدمه مايكل بين الجنس المرتبط بالمخططات المعيارية والضبطية العلمانية والمناهضة للعلمانية وبين الجنس الذي يتملص من مثل هذه المطامح الأخلاقية والمناقبية.

دعوني أقارن حجة مايكل بحجة جون سكوت، مؤلفة كتاب Politics of the Veil الذي يقرأه عدد منكم في ندوتي وكذلك أجزاء منه في ندوة مايكل المصغرة. في هذا الكتاب وفي كتابها الأخير، تدافع جون سكوت عن مقاربة لدراسة الجنس والعلمانية تختلف نوعًا ما عن مقاربة وارنر على الرغم من أنها مكملة لها. تعارض سكوت السردية التقليدية التي تصور  انتشار العلمانية المعاصرة على أنه مسيرة تقدم ظافرة حررت الجنسانية من التابهوات والقيود الدينية فنتج عن ذلك تسوية الاختلافات الجنسية من خلال ضمان حقوق النساء المدنية والسياسية والاقتصادية.

تُعقِّد سكوت هاتين الحجتين بإظهار أن اللامساواة الجندرية لم تستمر في المجتمعات العلمانية في القسم الغربي وغير الغربي فحسب، إنما أيضًا يواصل الاختلاف الجنسي أداء دورٍ بنيوي، إن لم يكن الدور البنيوي، في تنظيم الفصل الملائم بين الديني والعلماني. وتقول على وجه التحديد إن الاختلاف الجنسي، في ظل العلمانية، يصبح هو الأساس لتمثيل البدائل  بين الماضي والمستقبل، الدين والعقلانية، الخاص والعام. وهي تقرأ تلك التمثيلات بنبرة تحليلية نفسية معللةً أنها تخفف المخاوف المتجذرة  اللاواعية حول الاختلاف الجنسي وتضمن استستاغة العلماني ومقبوليته. وتختم بأنه بقدر ما تشكل تلك التمثيلات معاني العلمانية، هي تغذي تطلعاتها المعيارية، وتسهم في إنتاج موضوعات جندرية علمانية.

وفيما يتبع، أود أن أناقش كيف أن إعادة تنظيم العلماني للحياة الدينية في المجتمعات الإسلامية ما بعد الكولونيالية ترغمنا على إعادة تصور العلاقة بين الاختلاف الجنسي  والجنسانية والعلمانية، كما فسر ذلك وارنر وسكوت. حيث أن إعادة التنظيم هذه تُظهر بجلاء أبعادًا مختلفة لنفوذ العلماني لا تُقرأ في قصة العلمانية في المجتمعات الغربية الليبرالية.  وهذا يتضمن نموذج مختلف تاريخيًّا لتنظيم الاختلافات الدينية يكيّف التنظيم العلماني للجنسانية والاختلاف الجنسي بطرق فريدة غير متوقعة. وقد أنتج هذا النموذج التاريخي بدوره تشكيلات فريدة للحرية الدينية والسياسة الجنسية، التي تؤدي فيها السلطة والسياسة الجغرافية الغربية دورًا بنيويًّا فيها.

في ملاحظاتي الختامية سأعرج على عمل وارنر وسكوت للنظر في أوجه الشبه والاختلاف بين التجارب العلمانية الغربية وغير الغربية ما بعد الكولونيالية. وهذه الورقة هي جزء من مشروع أكبر سأتحدث عنه أكثر عند تقديم ورقتي البحثية التي أطور فيها جينيالوجيا بديلة للكيفية التي من خلالها تداخلت مفاهيم العلمانية والاختلاف الجنسي والحرية الدينية في سياق الشرق الأوسط. وهذه جينالوجيا تعرض بعض التشابهات مع تفسير وارنر وسكوت، ولكنها كذلك تختلف عنه في أوجه مهمة. هذه التماثلات والاختلافات التي أود الإشارة إليها أساسية لإعادة تصور المشروع التحولي العارض تاريخيًّا للعلمانية السياسية.

من أكثر الأساليب شيوعًا التي تروى بها حكاية علمنة المجتمعات الإسلامية هي رواية قصة تحوّل الشريعة الدينية في العصر الحديث، حيث يُقال لنا عادةً أن الشريعة الإسلامية التي تكتنف كل مناحي الحياة في فترة ما قبل الحداثة أصبحت محصورة النطاق من خلال حصرها في مسائل متعلقة بقانون الأسرة الخاص بقضايا الزواج والإرث والطلاق وحضانة الأطفال، الذي يطلق عليه اليوم في المجتمعات الإسلامية قانون الأحوال الشخصية أو قانون الأسرة. يُفترض لتقييد الشريعة أن يحل محل التحجيم الشامل للسلطة الدينية في العصر الحديث حيث أن المجتمعات أصبحت تُنظَّم إلى مجالات متنوعة ومتمايزة تحكمها عقلانية القانون المدني العلمانية. كما يُقال أيضًا إن السلطات الاستعمارية امتنعت عن التدخل في الشؤون الدينية للشعوب المُستعمَرة عندما قدِمت للشرق الأوسط، ومن ثم فقد تركت قانون الأسرة مُصانًا باعتباره الفضاء الأمثل لحرية الثقافة المحلية واستقلاليتها. ونتيجة لهذا التناقض الاستعماري، تطبعت الشريعة بطابع رجعي غير تقدمي لم يتأثر بسلطة القانون المدني العلمانية والليبرالية. إن حفظ الشريعة الإسلامية في صيغة قانون الأسرة يُشخص في هذه الرواية على أنه عرَضًا لعلمانية منقوصة تسود المجتمعات الإسلامية.

هذه الرواية مضللة لعدد من الأسباب. بدايةً، تقييد الشريعة بقانون الأسرة لم يحد فقط من نطاق القانون الديني، إنما أيضًا حوَّله من نظام يضم مجموعة من الإجراءات والقوانين اللامركزية والموجهة محليًّا إلى نظام مقنن يضم قوانين وتنظيمات توجهها الدولة المركزية. فاستحال قانون الأسرة في كنف الدولة الحديثة إلى وسيلة من وسائل الحكم الحديث والضبط الجنسي وليس فقط أداةً لتنفيذ القانون السماوي.

كما نعلم، تصبح الأسرة مقومًا أساسيَّا ووسيلة مفضلة لتنظيم السكان في ظل الدولة القومية الحديثة. وتاريخيًّا، لم تبقَ ممارسة قانون الأحوال الشخصية ثابتة وكذلك الأسرة بوصفها موضوعًا يُطبق عليها القانون. وأحد آثار هذه العملية يتمثل في التحول التاريخي المُحدَث في مفهوم الأسرة من كونها شبكة ممتدة من العلاقات المترابطة إلى كونها أسرة نووية تقتصر على الزوجين وأبنائهما، مع ما صاحبه من مفاهيم خاصة بالرابطة الزوجية وزواج العشرة والحب البرجوازي الموجودة في المجتمعات الإسلامية.

ثانيًا، حصر الشريعة في قانون الأسرة لم يقوض نطاق السلطة الدينية فحسب، إنما ساهم بشكلٍ حاسم في إحداث تمييز تأسيسي داخل العلمانية السياسية، وأعني التمييز بين العام والخاص. وعليه فإن ما قامت به القوى الاستعمارية من اختزال الشريعة في قانون الأسرة لم يكن تعبيرًا عن سماحتهم الحميدة تجاه الثقافة المحلية، بل كان نتاج المنهج العلماني لخصخصة الدين. والأهم من ذلك، تمامًا مثلما جرت خصخصة الدين في المخيال العلماني المعاصر، جرت كذلك خصخصة المسائل المتعلقة بالأسرة والجنسانية والاختلاف الجنسي. وخصخصة نواحي الحياة الاجتماعية هذه لم تكن تعني طبعًا أنها تقع خارج نطاق الدولة، إنما جرى تنظيمها من جانب الدولة المركزية وعقلانياتها السياسية المتنوعة، ولم يعد يوجهها المُفتون المحليون والقضاة الشرعيون والأعراف المتبعة والمعارف الأخلاقية المحدودة.

من الآثار المترتبة المُتناقضة لعلمنة المجتمعات الإسلامية هو أنه مثلما أصبح للسلطة الدينية دورًا هامشيًّا في إدارة الشؤون المدنية والسياسية، هي في الوقت ذاته تكتسب مكانة مميزة في تنظيم العلاقات الأسرية والجنسية. بعبارة أخرى، نتج عن الخصخصة المتزامنة للدين والجنسانية في العالم الإسلامي اندماج الاثنين (الدين والجنسانية) اندماجًا حتميًّا، حيث أن مسائل الهوية الدينية للغالبية المسلمة والأقليات غير المسلمة على حدٍّ سواء غالبًا ما يستتبعها نزاعات حول الجندرية والزواج والأسرة. ورغم أن بعض جوانب القصة حول خصخصة الدين والأسرة يتشارك فيها الجزء الغربي وغير الغربي، إلا أن ما هو مميز بشأن المجتمعات ما بعد الكولونيالية أنه في أغلب الحالات لا يزال قانون الأسرة يُدار بما يتوافق مع الإرشادات الدينية فقط، دون الرجوع إلى القانون المدني.

بعبارة أخرى، حيثما يسود قانون الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية، يظل هو المصدر الوحيد للفصل في النزاعات المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث. وهذا يصح على قانون الأسرة الإسلامي مثلما يصح على قوانين الأسرة الهندوسية والمسيحية واليهودية في الدول المتنوعة كالهند ومصر وإندونيسيا وإيران وماليزيا والمغرب وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر. ففي لبنان وحدها، يوجد 15 نوع مختلف من قوانين الأحوال الشخصية المرتبطة بجماعات دينية مختلفة، كالكنيستين اليونانية والسيريانية الأرثوذكسية والكنيسة الأرمينية البابوية والكنيسة المسيحية المارونية والإسلام السني والإسلام الشيعي وغير ذلك.

من الآثار المدمرة لهذا الاندماج بين التنظيم الطائفي وتنظيم الأسرة هو أن الصراع السياسي حول الاختلاف الديني غالبًا ما ينحدر إلى ميدان الاختلاف الجنسي والجندري. فأي محاولة من  الدولة لإنشاء قانون مدني موحد للفصل في العلاقات الأسرية تواجه معارضة من الجماعات الدينية المتنوعة، وخاصة الأقليات الدينية على اعتبار أنها تشكل تدخلاً سافرًا في استقلالية تلك الجماعات الدينية. وقضية شاه بانو الشهيرة في الهند تعطي مثالاً على هذه التوترات. سأستعرض هذه القضية لأعطي لمحة عن الطبيعة المدمرة لمثل تلك الصراعات والافتراضات التي تدعمها.

في عام 1985، قضت المحكمة العليا الهندية باستحقاق شاه بانو، وهي امرأة هندية مطلقة تبلغ الثانية والستين من عمرها، لنفقة (دائمة) يدفعها طليقها، وهو حكم يخالف قانون الأسرة الإسلامي لكنه يتماشى مع قانون الإجراءات الجنائية في الهند. اعترضت الأقلية المسلمة في الهند على هذا الحكم معتبرة إياه تدخلاً غير منصف من الدولة في شؤون تقع ضمن حكمهم الذاتي القانوني. وفي استجابة لمظاهرات المسلمين عام 1986، نقضت الحكومة الهندية قرار المحكمة العليا ومررت مشروع قانون يقضي باستثناء النساء المسلمات من متطلبات قانون الإجراءات الجنائية. أثار هذا القانون بدوره رد فعل لاذع من اليساريين العلمانيين والجماعات المعنية بحقوق النساء، إلى جانب الأحزاب السياسية اليمينية الهندوسية، متذرعين جميعهم لأسباب مختلفة بحجة أن هذا القانون يُضعف من الأساس العلماني للمواطَنة الهندية وذلك بإخلاء السبيل للقوى المتشددة والذكورية/البطريركية التابعة لدين الأقلية. ومنذ ذلك الحين، أصبح النقاش حول تبني قانون أسرة موحّد في الهند يظهر كمساجلة بين أولئك الذين يدافعون عن الحقوق الفردية للنساء المسلمات اللاتي يُصوَّرن باعتبارهن ضحايا للممارسات الجندرية غير العادلة الصادرة من  المجتمع الإسلامي، وبين الذين يدافعون عن الحقوق الجماعية للأقلية المسلمة المصوَّرة بالرجعية والأبوية.

في هذا التأطير، تبرز العلمانية بوصفها ضمانًا للمساواة الجندرية والحقوق المدنية، في حين جُعل الدين رمزَا لللامساواة الجندرية والطائفية والظلامية.غني عن القول أن هذا الأسلوب في تأطير القضية لا يدع إمكانية للنظر في العلاقة التكافلية بين الديني والعلماني في خلق هذا الصراع. قضية شاه بانو هي واحدة من بين عديد من القضايا المماثلة التي تجسد الصراعات السياسية  حول الاختلاف الديني الجارية في المجتمعات ما بعد الكولونيالية.

من ناحية أخرى، انفتح سجالٌ مماثل على وسعه في انجلترا عندما قدَّم روان ويليامز، رئيس أساقفة كانتربري، مقترحًا يسمح بتطبيق قانون الأسرة الإسلامي لتسوية نزاعات الزواج والطلاق مثلما هو الحال مع القانون العرفي اليهودي المعمول به في المملكة المتحدة. حيث صدر رد فعل عنيف من الكثيرين في بريطانيا الذين عدّوا هذا الاقتراح تهديدًا للعلمانية البريطانية الذي من شأنه أن يفتح المجال لمأسسة القوانين الرجعية والأبوية لدين الأقليات. وقد نشبت مواجهة مماثلة بين الأقلية المسلمة والغالبية غير المسلمة في كندا عام 2005.

العامل المشترك بين كل تلك الخلافات هو أن المطالبة بقانون الأسرة والمعارضة المقامة ضده تُطرحان كصراع بين المبدأ الليبرالي العلماني الداعي للمساواة الفردية ومبدأ التعددية الدينية المتعددة ثقافيًّا. هذا الأسلوب في تأطير المسألة أساسي في السجال الكلاسيكي داخل النظرية السياسية الليبرالية المتعلقة بكيفية رسم الحدود المناسبة بين حقوق الجماعات الأقلية على المجتمع الأكبر وحقوق كل جماعة أقلية على أعضائها الأفراد. والجواب عن هذه المعضلة يشوبه الغموض وقد بُحث فيه بأساليب متنوعة. لكن ما يهم التنويه بشأنه هو أن مسألة المساواة الجندرية تقع في صميم هذا الصراع الطويل.

قد يكون من المفيد هنا استحضار السجالات حول التعددية الثقافية في ثمانينات القرن الحالي في أمريكا الشمالية. المشكلة التي عبرت عنها تلك النقاشات لم تكن قط حول كيفية السماح للثقافات المتعددة بالازدهار في النظام السياسي الليبرالي، بل كيف يمكن تأمين الظروف المؤسسية لاستبقاء واستعادة تقاليد الأقلية وأساليبها الحياتية. قد تُفهم أعمال مجموعة من المنظرين متعددي الثقافات أمثال ويل كيمليكا وآيرس يونغ وتشارلز تايلور وغيرهم على أنها توسع في المعضلة التي تعانيها النظرية الليبرالية السياسية. وجدير بالذكر أن قضية مساواة النساء باعتبارها حق فردي مكفول رغم مخالفته للتقليد الديني والعرف والثقافة تكون عادةً بمثابة اختبار حاسم لجهود أولئك المنظرين في تعيين حدود الاستقلالية في ممارسة الشعائر الممنوحة للأقليات.

ثمة أمر مماثل هو بلا شك مثار خلاف في النقاشات الدائرة حول قانون الأسرة التي استشهدت بها هنا، وهو أن مناهضة قانون الأسرة المبني على الشريعة الإسلامية عادةً ما تُصوَّر باعتبارها دعوى لإقامة حقوق النساء بصفتهن أفرادًا رغم تعسف الأعراف والتقاليد الدينية. لكن يوجد أمر آخر موضع خلاف وهو مرتبط بكيف أن التبرير القانوني لتأييد قانون الأسرة المبني على الدين أصبح يستند إلى الحق في الحرية الدينية، وهو ما يزيد من التوترات بين مفهوم الحقوق الفردانية ومفهوم الحقوق الجماعية.

هناك على سبيل المثال في القانون الدولي وعدد من الدساتير القومية مفهومان متغايران للحرية الدينية، أحدهما يصوِّر حق الحرية الدينية على أنه حق فردي كما ورد في المادة الثامنة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والآخر يصوِّره من ناحية جماعية على أنه حق الجماعة الأقلية في اعتناق وممارسة دينها وثقافتها دون تقييد غير سائغ من الدولة أو الثقافة الغالبة. ولأن الصراع بين هاذين الحقين في الحرية الدينية المتنافسين يُسوَّى من خلال الحق السيادي للدولة الحديثة، فإن الحق في الحرية الدينية يُعد من المواطن الرئيسة التي يجري فيها تنظيم وتعيين الحد الفاصل بين العلماني والديني.

عادةً ما يُسأل عن السبب الداعي إلى ربط مسائل التنظيم الجنسي بالهوية الدينية في المجتمعات ما بعد الكولونيالية بطريقة مغوية ومدمرة. الجواب السريع والسهل كان دائمًا يفيد بأن هذه العملية تشير إلى الطابع غير المكتمل للعلمانية غير الغربية التي حرّض عليه خوف القوى الاستعمارية من التدخل في الحياة الدينية للمحليين. وهذا يفترض أنه لو كانت تلك المجتمعات قد مرت بعملية علمنة مكتملة، ولو أن السلطات الاستعمارية قد أدت واجبها، لكان سيُلغى إذن الأساس الديني لقانون الأسرة، مع الإطاحة بالضوابط الذكورية/البطريركية للقرابة المرتكزة على العقيدة الدينية.

بعيدًا عن الحقيقة القائلة بأن مثل هذا الجواب يكرر الوصف المُستهلك للحداثة والعلمانية غير الغربية بالنقص والقصور، ما هو أكثر أهمية هو فشله في إدارك حقيقة أن ما ندعوه بقانون الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية اليوم هو جزء من نموذج تاريخي صوِّر فيه الاختلاف الديني ونُظِّم بشكل مختلف تمامًا عن نظام الدول القومية ما بعد الكولونيالية الذي أٌدرِج فيه الآن. اكتسب هذا الجزء التاريخي شكلا مدمرًا في ظل الفصل التأسيسي بين الخاص والعام الذي أنتجته العلمانية. وعليه، فهو ليس تعبيرًا عن التدين الجوهري لتلك المجتمعات وليس تشخيصًا لعلمانيتهم الناقصة. إنما هو تحوُّل آخر للسمة الثنائية للعلمانية الحديثة التي يرتبط فيها الدين ارتباطًا حتميًّا بتوأمه السيامي، العلماني، وهو ترابط ينكره الذين يتحدثون باسمها.

لننظر على سبيل المثال في الاستمراريات والانقطاعات التاريخية المتجلية في مأسسة قانون الأسرة في مصر الحديثة. قوانين الأسرة الحالية في مصر، الإسلامية والمسيحية، هي أحد موروثات العصر العثماني، حينما كان الاختلاف الديني هو المحور الأساس لتأسيس نظام سياسي اجتماعي فريد من نوعه. الإمبراطورية العثمانية كانت إمبراطورية إسلامية استمرت لأكثر من ستة قرون، من القرن الثالث عشر حتى القرن العشرين، وقد امتد نفوذها وهي في أوج قوتها لمساحات جغرافية شاسعة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا الغربية وآسيا الغربية، الأمر الذي جعلها تحكم تنوعًا هائلاً من المعتقدات الدينية.

ما كان لافتًا حول الإمبراطورية العثمانية هو أسلوبها في تنظيم الاختلاف الديني، حيث كانت كل جماعة تتمتع باستقلالية قضائية فيما يخص الشؤون الدينية والأسرية، إلى جانب مجموعة واسعة من المجالات الأخرى. هذا النموذج غير الليبرالي للتعددية كان مختلفًا جدًّا عن النموذج الليبرالي الذي يُقارن به على نحو غير ملائم، من حيث أن كل حكم ذاتي لجماعة دينية لم تسوِّغه حقوق الجماعة مقابل حقوق الفرد، إنما سوَّغه نظامٌ سياسي كان الاختلافُ فيه مهيمنًا. لم يكن العثمانيون يهدفون لتحويل الاختلافات إلى تماثلاث من ناحية سياسية. عوضًا ذلك، دُمجت عديد من الجماعات الدينية عبر نظام هرمي رأسي، احتل المسلمون فيه المكانة الأعلى.

جادل عدد من المؤرخين أنه وعلى عكس الإمبراطوريات المسيحية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي سعت لقمع الاختلاف الديني أو القضاء عليه، ما جعل أوروبا ترزح تحت وطأة الحروب الدينية لقرابة المئة عام، فإن استقرار الإمبراطورية العثمانية يعود في جزء منه إلى منهج عيّنَ للاختلاف الديني مكانًا معتبرًا في النظام السياسي الاجتماعي. ومع ذلك، فقد كان حتمًا نظامًا هرميًّا. لكن رغم أن جوانب عديدة من هذا النظام القديم قد غُيّرَت بروّية خلال القرن التاسع عشر، إلا أن الاستقلالية القضائية والتشريعية لمعظم الجماعات الدينية لم تُفقد. بيدَ أن هذه الوضع تبدل في الفترة الاستعمارية حينما بدأ الفصل بين العام والخاص، مع وضع الشؤون الدينية والأسرية في المقدمة. والجزء الذي استبقته الإمبراطورية البريطانية من النظام العثماني تحت منطق حكم علماني مختلف جذريًّا كان الأساس الديني لقانون الأسرة. ما زال هذا الأمر هو السائد في مصر خلال فترة ما بعد الاستعمار، في حين يهدف مبدأ المساواة المدنية والسياسية إلى تسوية الاختلاف الديني بين المواطنين القوميين.

دعوني أوضح هذا الطابع المعقد والمضطرب للنظام العلماني من خلال النظر في حالة المسيحيين الأقباط في مصر، وهم أكبر أقلية مسيحية في الشرق الأوسط. رغم منح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الحكم الذاتي للفصل في الشؤون الأسرية القبطية، إلا أن هذه الاستقلالية تتصادم مع حق الدولة السيادي في تنظيم الشؤون السياسية والمدنية والدينية من جانب، ومن الجانب الآخر مع التوجه الرامي إلى التماثل مع الثقافة القومية التي لا تزال إسلامية في روحها وجوهرها. تدرك الكنيسة الأرثوذكسية القبطية أن أعضاؤها يعانون دائمًا من ضغط اجتماعي خفي للدخول في الإسلام والتكيف مع أسلوب الحياة الإسلامي. وهذا ليس لأن الأقباط يُشكلون هدفًا للجهود الدعوية الإسلامية – فالقوانين الوطنية الصارمة تحظر هذه المساعي – ولكن بسبب اللوائح والأنظمة غير المنصفة التي تحبذ التحول الديني من المسيحية إلى الإسلام، بينما يصعب كثيرًا فعل العكس  إن لم يكن مستحيلاً. فبالرغم من عدم وجود قوانين واضحة تمنع تغيير الأديان من الناحية النظرية، إلى أنه من الناحية التطبيقية تُصعِّب الحكومة المصرية على المسلمين المتحولين عن دينهم نيل الاعتراف القانوني والحصول على الوثائق  اللازمة لتسيير الحياة المدنية والسياسية.

وبالنظر لهذه الأوضاع، ليس مستغربًا أن يزخر المجتمع القبطي بالشائعات والمخاوف بشأن سعي المسلمين الحثيث للإيقاع بالمسيحيين لاعتناق الإسلام. وتتجلى هذه المخاوف تحديدًا عندما تتزوج النساء القبطيات رجالاً مسلمين أو عندما يدخلن في علاقات عاطفية معهم. يؤمن الأقباط بشدة بوجود مؤامرة يُحيكها المسلمون لاختطاف الفتيات القبطيات وإكراههن على اعتناق الإسلام. ورغم الطابع الخلافي لهذا الزعم، إلا أن أخبار الفتيات القبطيات المجبرات على اعتناق الإسلام تنتشر على نحو واسع في الإعلام القبطي الوطني.

ومؤخرًا، أقحمت الحركة الإنجيلية الأمريكية (the American Evangelical movement) نفسها في الصراع بتوليها هذه القضية ومنحها شرعية تتجاوز كثيرًا تلك التي كانت تتلقاها مسبقًا. ففي العام الماضي[1]، أصدرت منظمة التضامن المسيحي الدولية (Christian Solidarity International) وهي منظمة إنجيلية تعمل بالنيابة عما يطلق عليه الآن الكنيسة المضطهدة العالمية (the global persecuted church)، تقريرًا يولي القضية أهمية غير مسبوقة في الساحة العالمية والدولية. هذا التقرير الذي أعدته تلك المنظمة لا يسعى فقط لتوثيق اختطاف الرجال المسلمين للفتيات القبطيات، إنما أيضًا يرفع التهمة إلى مستوى العبودية الجنسية التي هي الآن جزء من بروتوكولات الأمم المتحدة والقوانين الأمريكية الخاصة بالاتجار بالبشر.

أحد أكثر الوقائع المثيرة للفتنة التي استعر لظاها في المشهد المصري في السنوات الأخيرة والتي تعكس هذا الترابط المعقد وقعت في نوفمبر عام 2004 حينما اختفت زوجة كاهنٍ قبطي من قريتها الصغيرة، وهي امرأة مصرية تدعى وفاء قسطنطين وتبلغ  السابعة والأربعين من عمرها. وبناءً على التحقيقات، أفادت الشرطة الأمنية بأنها اعتنقت الإسلام وهي الآن تعيش مع عائلة مسلمة في القاهرة. ومباشرة بعد إعلان الخبر، اندلعت المظاهرات في قريتها واتهم المتظاهرون الأقباط الشرطة بعجزها عن استعادة وفاء لبيتها بعد أن اكتشفت مكان وجودها.

تقول الروايات أنها أُغرمت بزميل مسلم كان قد أقنعها بالتحول للإسلام. اعتصم آلاف الأقباط في البطريريكية القبطية في القاهرة مرددين هتافات مثل “لا يجوز الإكراه على تبديل الدين” و “أوقفوا عصابات خاطفي النساء”. وعندما أخفقت الشرطة في إعادتها، استغل البابا القبطي، شنودا الثالث، نفوذه الشخصي كأحد المقربين من الرئيس وطالب باستعادة وفاء. اشتدت التوترات أكثر، فلجأ البابا إلى الاعتكاف تعبيرًا عن احتجاجه بينما اندلعت أعمال شغب في البطريريكية وما حولها نتج عنها وقوع إصابات بين الأقباط وأفراد الشرطة على حدٍّ سواء.

وفي ليلة الثامن عشر من ديسمبر عام 2004، سلّمت الشرطة وفاء إلى الكنيسة. وعند هذه المرحلة، تحفّظ مسؤولو الكنيسة عليها وسط حراسة مشددة وعُزلت عن العامة. أنكرت الكنيسة إنكارًا قاطعًا تحوّل وفاء إلى الإسلام وقضت بأنها ارتدت لبعض الوقت تحت تأثير القوة والمخدرات لكنها كانت ثابتة على إيمانها بخلاف ذلك. لم تُرَ وفاء ولم يُسمع منها منذ تسليمها للكنيسة أواخر عام 2004. وعلى خلفية اتهام الكنيسة بقتل وفاء الموجه من عدد من رجال الدين المسلمين عام 2008 ، أعلن مسؤولو الكنيسة أنها على قيد الحياة وبحال جيدة وأنها تعيش حياة منعزلة في دير البابا في الصحراء وصرحوا بأنها ستظهر قريبًا في التلفزيون القبطي. وحتى هذا التاريخ، لم ترد مثل تلك المشاهد.

والجدير بالذكر، في النقاش العام الذي أعقب تحوّل وفاء المزعوم إلى الإسلام واختفاءها اللاحق، لم يُسلّط الضوء كثيرًا على دوافع وفاء. لا نزال نعرف القليل عنها وعن أسباب هجرها لمنزلها وما إن كانت بالفعل قد اعتنقت الإسلام أم لا، كما لا نعرف الظروف التي أسلمت في ظلها لو كانت قد أسلمت فعلاً. عوضًا عن ذلك، ركز النقاش العام على الصراع الكلاسيكي بين حقوقها الفردية في الحرية الدينية وحق المجتمع القبطي في مقاومة الاضطهاد الإسلامي، إضافة إلى حقه في الذود عن شرف الجماعة الذي تُعد نساؤها مستودعًا له.

عند قراءة تلك النقاشات، أدهشني عدم الاهتمام بوفاء نفسها. فرغم أنها برزت باعتبارها محل حماية الكنيسة والشرطة والمسلمين، إلا أنها لم تبرز على أنها موضوع الخلاف إلا نادرًا. ومن بين القلائل الذين عبروا عن اهتمامهم بدوافع وفاء وسلامتها كان طارق البشري، وهو مصلح إسلامي رائد وقاضٍ محترم وناقد للحكومة. عُرف طارق البشري بتأليفه أحد أوائل الكتب عن حقوق الأقليات الدينية في مصر ضمن إطار القانون الإسلامي. وفيما يتبع، أريد أن أركز على نقطتين حاسمتين أثارهما البشري وذلك من خلال النظر في مدى تداخل الاختلاف الجنسي وحق الحرية الدينية في الجدل الدائر حول ما يعنيه وجود أقلية دينية.

أولاً، أدان البشري الحكومة المصرية لانتهاكها قوانينها الخاصة حينما سلمت وفاء للكنيسة، التي لا تملك أية سلطة قانونية أو دستورية على أي مواطن مصري بصرف النظر عن دينه، كما يزعم. بالنسبة للبشري، فإن الكنيسة الخاضعة تحت إمرة البابا الحالي انتزعت سلطات غير شرعية بموافقة ضمنية من الدولة بحيث يمكنها المطالبة بالاستقلالية بصرف النظر عن حقيقة خضوعها للدولة القومية قبل كل شيء. ويجادل البشري بقوله إن استسلام الحكومة المصرية لضغوط الكنيسة قادها إلى انتهاك حقوق وفاء باعتبارها مواطنة مصرية، وهي بذلك تكون قد تركتها لمواجهة أهواء السلطات الكنسية.

لكن وعلى الرغم من صحة قول البشري، إلا أنه مع ذلك يظل بعيدًا عن التناقضات البنيوية اللصيقة بوضع الأقليات في السياسة القومية. إن مفهوم الأقلية القومية يقوم على أساسٍ من التوتر الجوهري. فمن ناحية، يؤكد المفهوم على عضوية الأقلية في الدولة القومية. ومن الناحية الأخرى، تُشكل الأقلية تهديدًا وشيكًا للوحدة الوطنية بفضل اختلافها العرقي أو الديني أو الإثني عن الثقافة الغالبة. هذا التهديد متغلغل في أيدلوجية الدولة القومية بقدر ما يرى المفهوم المعاصر للقومية السمةً اللغوية والإثنية والثقافية على أنها أساسًا شرعيَّا لحق الشعب في تقرير المصير القومي ودولة الاستقلال. دائمًا ما يكون لمطالبة الأقلية القومية بالحفاظ على فرادتها إمكانية تشتيت الوحدة الوطنية ومن ثم فهي عُرضة لتهمة خيانة الأمة.

الأمر الآخر الذي أثاره البشري وأود التركيز عليه هو نقده اللاذع للكنيسة القبطية لنفاقها في مطالبتها بالحق في الحرية الدينية للأقباط باعتبارهم أقلية دينية من جهة، ولانتهاك حق قسطنطين الفردي في اعتناق الإسلام من جهة أخرى، حيث يقول: “أخلّت إدارة الكنيسة بمطالبتها المتكررة بمنح حق حرية المعتقد وحق تبديل الدين بغض النظر عما إذا كان التبديل من الإسلام أو إليه.”

ورغم صوابية البشري في تبيان نفاق الكنيسة، إلا أنه أخفق في إدراك أن هذا التعارض بين حقوق الأقلية الجماعية والحقوق الفردية هو سمة بنيوية يتسم بها الخطاب الدائر حول الحرية الدينية، لا سيما حينما يتعلق الأمر بالأقليات الدينية. وبما أن هذا التوتر لا يزال عالقًا داخل البنية المفهومية للحرية الدينية، فإن حسمه يعود إلى الاتفاق المعين القائم بين الأقليات الدينية والدولة. وفي حالة مصر ما بعد الكولونيالية، أسفر هذا الاتفاق عن منح الكنيسة القبطية الحكم الذاتي على الشؤون الأسرية مع تقييد إمكانية الدخول في المسيحية. ورغم أن القوانين الأسرية القبطية لا تمنع اعتناق الإسلام أو أي دين آخر، إلا أن مثل هذا التشريع  يمس جوانب الضعف في حياة جماعة ترزح تحت تهديد الاستيعاب والفصل العنصري.

حقيقة أن هذا القلق ينشأ عند تحوّل النساء عن دينهن تُظهر إلى أي مدى تُعد النساء  أكثر عرضةً للإكراه من الرجال، على اعتبار أنهن أكثر انصياعًا للإغواء. وبالنتيجة، يُقاس حق الحرية الدينية للفرد على نحو مختلف حينما يتعلق الأمر بالنساء مقابل الرجال في نظر الكنيسة القبطية وأتباعها. يميل معظم المفكرين النسويين إلى تفسير هذا الوضع التفاضلي بين النساء والرجال بقولهم إنه نتاج التقدير المغالي للنساء باعتبارهن مستودع التقليد الديني وصانعاته الأساسيات.

إلا أن مثل هذه الحجة لا تضع في الاعتبار مدى أهمية الاختلاف الجندري والجنسي للنظام العلماني. فمثلما يشير كتاب جون سكوت حول النزعة الجمهورية الفرنسية واللائكية، يستمر الاختلاف الجنسي في تأسيس ثنائيات رئيسية ذات أهمية حيوية لتمييزات النظام السياسي الليبرالي العلماني، مثل الخاص والعام، العقل والعاطفة، الشمولية والخصوصية وما إلى ذلك. عديد من هذه التمييزات تنظم الجدل الدائر حول الحجاب في فرنسا  ومنعه اللاحق عام 2004، وهي متصلة كذلك بتسيير النظام السياسي الحديث في مصر. ما هو فريد بشأن النظام العلماني في المجتمعات الإسلامية أنه من خلال تقييد الشريعة بالقانون الأسري، فإن الأسرة، ولا سيما سلوكيات النساء والأبناء، تُمنح أهمية مختلفة في الصراعات القائمة على صعيد الهوية الدينية والاختلاف الديني. وبما أن الهوية الدينية القبطية تُستثمر في قانون الأسرة والأسرة هي الفضاء النموذجي المرتبط بالمرأة والإنجاب، فمن غير المدهش أن يثير اعتناق قسطنطين للإسلام  رد الفعل القوي هذا من جانب الأقباط المتدينين والعلمانيين على حدٍّ سواء.

السؤال الصعب والمثيرالذي يترتب على كتاب سكوت وعلى حجتي حتى الآن هو، كيف غيّر الاضطراب الجوهري المتأصل في العلمانية، بسعيها الحثيث في رسم حد فاصل بين الديني والعلماني من جديد، الطريقة التي من خلالها تُنظم الاختلافات الدينية والجنسية وتُلاحظ وتُدرك؟ لأنه عندما ينشأ الاختلاف الجنسي بشكل مختلف وعرَضي في صياغات مختلفة للديني والعلماني، فإننا نحتاج للتفكير مليًّا بشأن وحدته المتغيرة والصراعات التي يمكن أن تولدها.

وكوسيلة لتقديم بعض الوسائل للتفكير بهذا السؤال، سأعود إلى قضية سابقة أتيت على ذكرها مسبقًا في ورقتي، وهي دخول الحركة الإنجيلية الأمريكية المؤخر في المشهد القبطي. فالبرغم من الاختلافات المذهبية والثقافية طويلة المدى التي فصلت الكنيسة الأرثوذكسية القبطية عن العالم المسيحي الغربي عبر التاريخ، إلا أن “الحركة الإنجيلية الجديدة” المُؤسسة حديثًا أصبحت أكثر انتباهًا لواجبها العالمي في حماية المسيحيين المضطهدين في المجتمعات الإسلامية والدول الشيوعية والاشتراكية. أريد أن أركز هنا على اندماج مشروعين يتكفل بهما أولئك الإنجيليون الجدد في الشرق الأوسط. الأول هو مشروع يرمي إلى حماية حق الأقليات المسيحية المقيمة في دول إسلامية أو اشتراكية سابقة في الحرية الدينية. والثاني عبارة عن حملة تهدف لجعل ما يسمونه العبودية الجنسية جريمةً عالمية.

الجدير بالذكر أن الإنجيليون الجدد يختلفون عن نظرائهم السابقين من ناحية كونهم أكثر أممية وأكثر اهتمامًا في إقامة تحالف عالمي مع إخوانهم المسيحيين في الجنوب وأكثر إلمامًا بلغة حقوق الإنسان التي يستخدمونها الآن على نحو واسع في حملاتهم المتنوعة. إن هدفهم ليس هداية الوثنيين القاطنين في الجنوب العالمي بقدر ما هو حماية ما يسمونها الكنيسة المضطهدة الموجودة في أجزاء عديدة من العالم من الإضطهاد غير المسيحي، وخاصة الإسلامي. ومن الوسائل الرئيسة التي يسعون من خلالها لتحقيق هذا الهدف هي استغلال مصادر وزارة الخارجية الأمريكية لخدمة مصالح الكنيسة المسيحية العالمية وإعادة تهذيب السياسة الخارجية الأمريكية أخلاقيًّا.

هذا الاستنفار الإنجيلي كان له أثرٌ فاعل في السنوات الأخيرة حيث ساهم في تمرير تشريعين بارزين في الولايات المتحدة. التشريع الأول هو قانون الحريات الدينية الدولية المُصادق عليه في عهد الرئيس كلينتون عام 1988، ويقضي  بتفويض وزارة الخارجية الأمريكية ورئيس الولايات المتحدة بمعاقبة منتهكي الحرية الدينية حول العالم، مع تركيز خاص على معاملة الأقليات المسيحية المقيمة في الشرق الأوسط. والتشريع الثاني، المعروف بقانون حماية ضحايا الإتجار بالبشر المصادق عليه عام 2000، أسس مكتب وزارة الخارجية الأمريكية لمكافحة الاتجار بالبشر على نطاق عالمي. وكلا القانونين يفوضان الكونجرس الأمريكي والرئيس باتباع توجيهاتمها على الصعيد العالمي رغم كونهما قانونين أمريكيين.

لكن، وكما أظهرت أعمال اليزابيث بيرنستن، رغم أن الهدف الظاهري لهذا القانون الجديد هو تجريم الاتجار بالبشر الذي يدخل فيه العمل القسري والجنس القسري، ولا يوجد تفريق واضح بين هاتين المقولتين، فإن اشتغال النساء والفتيات في البغاء هو ما يشكل المثال النمطي لما يُفترض أن تكون عليه “العبودية الحديثة”. إن كثرة القوانين الأمريكية المناهضة للاتجار بالبشر التي ظهرت في أعقاب ذلك القانون تنشئ عقوبات جنائية صارمة على القوادين والوكلاء الجنسيين الذين يُصوَّرون على أنهم أصحاب رقيق، وتفرض عقوبات مالية على الدول التي يثبت أنها تتخذ خطوات غير كافية لمنع البغاء – يُسلَّم به على أنه مماثل للاتجار بالبشر والعبودية — وتشترط استبعاد المنظمات غير الحكومية الدولية التي لا تدين البغاء صراحةً باعتباره انتهاكًا لحقوق الإنسان الخاصة بالنساء من التمويل الفيدرالي. وقد حققت الحملة المقامة ضد العبودية الجنسية نصرًا آخر عام 2000 حينما مررت الولايات المتحدة بروتوكول جديد يحرِّم الاتجار بالبشر المُمارس على النساء والأطفال، وتحديدًا بموجب المادة الثالثة من هذا البروتوكول.

تحت مظلة هذين المشروعين المتعلقين بالحرية الدينية والعبودية الجنسية، أصدرت منظمة التضامن المسيحي الدولية، وهي منظمة إنجيلية رائدة، تقريرًا حقق انتشارًا واسعًا لما فيه من أدلة تدعم مصداقية دعوى تعرّض الفتيات والنساء القبطيات للاختطاف والاعتداء الجنسي والإكراه على اعتناق الإسلام والزواج من رجال مسلمين. ورغم أن الشواهد الواردة في هذا التقرير شاذة وأحيانًا مُلتبسة، إلا أن ما يثير الاهتمام بشأن هذا التقرير هو دمجه السياسة الجنسية مع سياسة الحرية الدينية. فمن ناحية، يصوِّر التقرير بوضوح إكراه النساء القبطيات على اعتناق الإسلام على أنه انتهاكًا للحرية الدينية الخاصة بمجتمع الأقلية القبطية، ولكن من الناحية الأخرى تبرز أمامنا مشكلة ترتبط بحقيقة أن عديد من النساء المعتنقات للإسلام يتجاوز سنهن الثامنة عشر، فأفعالهن إذن يحميها الحق الفردي في الحرية الدينية الذي يؤيده الإنجيليون كذلك.

عند هذه المرحلة تبرز خطورة تصوير اختطاف النساء القبطيات على أنه عبودية جنسية في ذلك التقرير. يزعم التقرير أن النساء غُرِّر بهن لممارسة علاقات جنسية مع الرجال المسلمين مدفوعاتٍ بأمل تكوين علاقات حقيقية معهم، في حين أنها كانت في الحقيقة علاقات احتيالية لأنها ترمي إلى تحويلهن إلى الإسلام. ويجادل التقرير بأن عملية استدراج النساء لإقامة علاقة بنيّة الزواج القسري تُشكل عملاً من أعمال الاتجار بالبشر عندما تكون مصحوبة بالقوة أو الاحتيال أو الإكراه. وعليه، فهو يدعو الحكومة الأمريكية للعمل بما يتوافق مع القانون الأمريكي الخاص بالاتجار بالبشر والضغط على الحكومة المصرية  لتغيير سياستها تجاه الأقباط. تتكرر هذه المطالبة الآن على نحو واسع في شبكات التلفزيون والإذاعة المسيحية وغيرها من وسائل الإعلام الإنجيلية في الولايات المتحدة وأوروبا.

إن تصوير النساء القبطيات المتحولات للإسلام بوصفهن الموضوع الرئيس لهذا التحول الديني أمرٌ حاسم في القصة. يرتكز هذا الزعم على سرعة تأثر النساء القبطيات بما توصف بأنها ممارسات شجعة تتجذر في التعاليم الإسلامية وتُشرعن العنف ضد النساء وغير المسلمين. يستغل التقرير مشاعر الجمهور الأمريكي المتولدة لديه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، معتمدًا على مجازات متوفرة على نطاق واسع تصور عنف الرجال المسلمين ومعاداة المرأة المتأصلة في الإسلام وافتقاره للسماحة. وحيث أن النساء القبطيات المتحولات للإسلام يُصورن على أنهن فاعلات غافلات يستغلهن الرجال المسلمين، ما يُمحى من هذه الصورة هو دور الكنيسة القبطية في مراقبة ردة أعضاءها عن دينهم ومعاقبتهم عليها، كما يتمثل ذلك في قضية السيدة قسطنطين. وبينما كانت تدور الشائعات في الماضي حول اختطاف النساء القبطيات، ما هو جديد الآن هو أن تبديل النساء لدينهن أصبح يُشكل بؤرة المناقشات المتعلقة بالحرية الدينية للمجتمع بحد ذاته.

ما هو صادم في هذا التصوير هو أن خضوع النساء القبطيات للمجتمع القبطي ومؤسساته يظهر باعتباره الفعل النموذجي الذي يُحقق ممارسة المجتمع الجماعية للحرية الدينية. أستذكر هنا احتجاز وفاء قسطنطين في دير البابا، التي لم تتمكن من الظهور منه قط. في سياقٍ كهذا، تحوُّل المرأة القبطية للإسلام لا يمكن جعله من ضمن حريتها الدينية لكونها أصبحت حاملة لحرية الجماعة الدينية. هذا الدمج المتناقض بين خضوعها وحرية الجماعة ليس تعبيرًا عن أبوية/ بطريركية دينية ثقافية جوهرية، إنما هو نتاج النظام العلماني الذي ترجع فيه هوية الأقلية إلى تنظيم الأسرة، حيث المرأة هي الحامل المثالي لها. تجدر الملاحظة إلى أن الأغلبية والأقلية لا تعملان هنا بوصفهما مقولتان قانونيتان فحسب ولكن أيضًا بوصفهما مقولتان جندريتان، بواقع أنهما تشكلان مرآة للعلاقة التراتبية بين الأنثى القبطية المقهورة والرجل المسلم المعتدي.

سيكون من السهل النظر في المسألة القبطية باعتبارها محصورة بالمجتمعات الإسلامية، وبطبيعة الحال هي كذلك بصورة ما. ولكن من المهم أيضًا أن ندرك أن كوكبةً من القوى العالمية أدت دورًا تأسيسيًّا في تغيير الحيّز الذي يمكن فيه تصوّر المسألة القبطية والخوض فيها ومناقشتها. ولعل من أهمها هي المنظمة المسيحية الإنجيلية الأمريكية المعاصرة مع ما تملكه من سلطة في تعيين مجموعة جديدة من الأجندة الجيوسياسية. سيكون من الصعب تصور هذه القوة العالمية على أنها دينية بأي معنى من المعاني، ومنفصلة عن عمل السلطة العلمانية، بالنظر إلى مدى انخراط وزارة الخارجية الأمريكية ومختلف وكالات الأمم المتحدة في الحملات التي ساهم الإنجيليون في استنهاضها، بما في ذلك الحملات الخاصة بالحرية الدينية والعبودية الجنسية. وعلى هذا النحو، لا يمكن فهم صراع المسلمين والأقباط  من ناحية ثقافوية، فهو بالأحرى يدفعنا إلى التبصر في الاتساقات والخواص التي يبرزها ماضي وحاضر المجتمعات ما بعد الكولونيالية في مكوَّن العلماني على نطاق عالمي وجيوسياسي.

سأختم بالعودة إلى الأسئلة والتأطيرات التي استفتحت بها محاضرتي، من أهمها الرؤى التي يوردها مايكل وارن وجون سكوت للنظر في  المنزلة المتميزة الممنوحة للجنس والاختلاف الجنسي في الصراعات المعاصرة حول الديني والعلماني. إني أشاطر وارنر التشديد على أن العلمانية لا تتخذ موقفًا محايدًا تجاه الجنس فحسب، باعتباره مساحة للحرية، بل إن العلمانية والجنسانية تشكلتا معًا في العصر الحديث.  ويجادل وارنر بقوله إن العلمانيون وما يسمون المناهضين للعلمانيين بموقفهم المناهض تجاه بعضهم البعض هم يخفقون في رؤية استثمارهم المتبادل في الجنسانية العلمانية. أعتقد أنه كان مصيبًا في إشارته إلى أن العلمانية تحديدًا لا تزال غافلة عن استثماراتها، كما لا تزال معيارية وأخلاقية ومتجسدة في علمانية الجنس.

وهنا كما أعتقد ينجح سكوت في محاولة استخلاص الأنواع المختلفة للاستثمارات في الجنس والعلمانية. بالنسبة لسكوت، فإن محور الاختلاف الجنسي هو ما يمنح العلماني استقرار وتماسك بنيويان، لا سيما النظام السياسي الليبرالي العلماني، ولكنه أيضًا يقوم بعمل تحريضي مستمر ويمثل نقطة اضطراب. فبما أن وحدة الاختلاف الجنسي ورمزيته قد تتغيران، فإن تفسيراتنا الثقافية المختلفة تتصادم مع بعضها محدثةً صراعًا توليديًّا.

ترتكز محاججتي على هذا الاضطراب الذي تسببت به صياغات الاختلاف الجنسي المتغيرة، وسأضيف اضطراب المشروع العلماني نفسه. وتعتمد محاضرتي هنا على جينيالوجيا مغايرة تقع في مجتمعات إسلامية ما بعد كولونيالية والتاريخ الخاص بالتنظيم العثماني للاختلاف الديني الذي توارثته تلك المجتمعات. جادلت بأنه مع علمنة المجتمعات الإسلامية، خُصخِص الدين والجنسانية واستُثمرا معًا في صون الأسرة. هذا التداخل وخيم لأن أية محاولة في تغيير معالم قانون الأسرة أو  إزاحته عن مكانته المميزة يقابلها مقاومة من الجماعات الدينية، خصوصا الجماعات الدينية الأقلية. وهذا لا يعني أن قانون الأسرة لا يمكن تغييره أو قولبته مع مفاهيم أكثر عدلاً للمساواة الجندرية، كما يبين ذلك التغيير الحالي في قانون الأسرة المغربي عام 2004، الذي أرى أنه أحد القوانين الأسرية الشخصية الإسلامية  الأكثر تكاملاً وإصلاحًا.

قد يتوقع أحدهم أن طرح الخطاب عن الحرية الدينية، خاصة في صيغتها الفردانية، سيؤدي إلى اختراق دائرة الدين والأسرة والاختلاف الجنسي، حيث أن القوة الحاسمة لذلك الخطاب من شأنها أن تخلخل الدعامة الصلبة لتلك الدائرة. ولكن وكما أظهر تحليلي، فإن الخطاب الدائر حول حق الحرية الدينية عمَّق من تلك الدائرة على عكس ما يُظَّن، مستثمرًا بصورة أكبر الهويات الأقلية والأغلبية في هذه المباحثة. وحقيقة أن هذا الطرح تحقق جزئيًّا عبر قوى عابرة للحدود القومية ممثلةً في السلطة والقانون تُذكرنا بأن مسائل كهذه لا تُحسم ثقافيًّا فقط بل جيوسياسيَّا.

 

 

مراجعة: فيصل الفرهود


 [1] ألقيت المحاضرة عام 2010