مجلة حكمة
الصفات الواردة عن طريق الوحي - دانييل جيمريه / ترجمة: محمد بوهلال

الصفات الواردة عن طريق الوحي – دانييل جيمريه / ترجمة: محمد بوهلال


إن الصفات الأزليّة/القديمة لا تقف،حسب الأشعري،عند الصفات الثمان التي رأيناها.فهو يعتقد أنه من الضروري أن تنضاف إليها  الصفات الإلهيّة الأخرى ذات الطبيعة الإحيائيّة وهذا الموقف يعكس وفاءه لمقالات أصحاب الحديث. هذه الصفات يشهد لها القرآن ولها أسماء من قبيل “الوجه” و” العينين”و” اليدين” و” الجنب”.هذه العبارات يجب أن تأخذ في معناها المجازي عند عدد غير قليل من المتكلّمين:المعتزلة كلّهم وأغلب الأشاعرة بداية من فترة معيّنة.وهي عبارة عن طريقة استعاريّة في التعبير عن الله ذاته (وخاصة منها عبارة وجه) أو في التعبير عن هذه أو تلك من صفاته الحقيقيّة (على سبيل المثال بصره وعلمه في ما يتصل “بالعينين”و قدرته في ما يتعلّق”باليدين”).أمّا الأشعري فيعتبر، شأن ابن كلاّب من قبله،(حسب عقيدته الأكثر ذيوعا و يقال أنه قد حدث له أن قال بالتأويل،انظر هذا العمل لاحقا)أنّ الصفات الإحيائيّة القرآنيّة، بالقياس إلى ما سلف تقريره بطريق عقليّ في ما يتعلّق بالله وصفاته، ليست بدائل استعاريّة و إنما هي صفات أخرى ثابتة لذات الله زائدة على الصفات السابقة ( أنظر،شرح الإرشاد،141ب أسطر،5-6 ،و142أ سطر20و142 ب سطر، 6)و لهذه الصفات خاصية تتمثّل في كونها ليست معلومة لنا عن طريق العقل و لكن بطريق الوحي. أنها ” الصفات التي طريقها السّمع (مجرّد،ص22 سطر19) وما يثبت من طريق الخبر( ص41 سطر3)وما يوصف به من طريق السمع(ص 329 ، سطر22 وانظر أيضا ص 325، أسطر 3-4) و سيتم الحديث لاحقا ،في هذا السياق، عن صفات خبريّة ( انظر، فصول، فقرة 51 ؛الملل والنحل،ص145الأسطر،8-10وص165سطر7)أو سمعيّة( انظر،الإرشاد،ص 88،سطر19 وشرح ..؟ ص332 سطر9)

وإنّها لمعروفة تلك لآيات القرآنية المقصودة ولكنّ الأشعري لم يفوت فرصة التذكير بها في مفتتح الفصل الوارد في الإبانة والمخصّص لتناول هذه القضيّة (انظر أيضا الفقرتين 56-57 من الإبانة).والآيات ،التي غالبا ما يقع الاستشهاد بها،هي بالنسبة إلى “الوجه” الآية،55،27(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ) و”الآية،54،14يالنسبة إلى العينين(تَجْرِي بِأعْيُنِنَا) والآية38،75(مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لَمَا خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ) والآية5،64(بَلْ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ) بالنسبة إلى”اليد”.

وعلى خطى أصحاب الحديث الذين يعملون،في هذا الباب،على دعم القرآن بالسنّة دعما مكثّفا(راجع خاصة ابن خزيمة،التوحيد،53-76) يستشهد الأشعري بحديثَيْن للرسول متصلين بمسألة اليد(الإبانة،فقرة57) يقول الأوّل منهما”إنّ الله مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بِيَدِهِ فَاسْتَخِرَجَ مِنْهُ ذِرّيَتَهُ (انظر،أبو داود، سنّة،16 والآجري،كتاب الشريعة،ص322،الأسطر،13-14) ويقول الحديث الثاني” إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدِنٍ بِيَدْهِ وكَتَبَ التَوْرَاةَ بِيَدِه”ِ انظر،الدارمي،العقائد،ص393سطر19وما يليه والملل و النحل ص 178،الأسطر،6-8)

وقد تعرّض الأشعري في مقالات الإسلاميين بطريقة موجزة لكيفيّة تفرّق المسلمين في تعاملهم مع هذه الإحيائيات. هناك، من ناحية أولى، موقفان متطرفان : موقف”المجسّمة”الذين يرون أن لله يديْن وعينين … مثلنا، نحن البشر، أي أنهم يفهمون من ذلك أن لله جوارح وأعضاءً.ومن ناحية ثانية، موقف المعتزلة الذين، على خلاف المجسّمة، يستبعدون كلّ تأويل حرفيّ ويرون في هذه العبارات مجرّد استعارات.”يد” الله تدلّ على فضله و”عيناه” تدلان على علمه و”جنبه”(راجع، القرآن،39،56)يدل على أمره إلخ.( انظر أيضا، مقالات الإسلاميين،ص 195،الأسطر،10-15وص521،السطر16 وما يليه). بين هذين الموقفين المتطرفين يقع موقف أصحاب الحديث الذين، وهم يستبعدون كل تمثّل تجسيمي تشبيهي لله،يرفضون كذلك التأويل الإستعاري. والقاعدة الصحيحة،عندهم ،تتمثل في التمسّك، في هذه المسألة،بما قاله الله أو بما قاله النبيّ دون البحث عن تفسير هذه الأقوال أو تمثلها حسيّا:” نقول إنّ له وجها ويدين وعينين بلا كيف “(انظر أيضا،مقالات،ص 290،الأسطر9-12). أمّا ابن كلاّب فيمثل الصياغة الكلاميّة الخاصة لأطروحة أصحاب الحديث :”أقول إنّ لله يدا وعينا ووجها لأنّ الله قال ذلك ولا أزيد على ذلك شيئا و أقول إنّها صفات الله مثلما أقول عن العلم والقدرة والحياة إنها صفاته” وهذه الصفات ،عند ابن كلاّب،يحكمها مبدأ عام شأنها شأن بقيّة الصفات فهي أيضا ” ليست الله و ليست غيره”(انظر،مقالات،ص169الأسطر،14-15و ص 522 الأسطر6-7)

إن موقف الأشعري (على الأقّلّ الموقف الأكثر شيوعا)لا يبدو مغايرا لموقف ابن كلاّب. فهو يعتقد أيضا أنه توجد صفات إلهيّة لا نعلم وجودها إلا بطريق الوحي ويجب قبولها كما جاءت في الوحي دون المجازفة بتأويلها.(انظر،الملل و النحل ص 165،الأسطر،7-9) و من المؤكّد حسب ابن فورك أن الأشعري كان يذهب إلى أنّ هذه الصفات الإحيائيّة يجب أن تفهم ” على حسب ما يليق بالموصوف بها “و لكنه كان يريد بهذا القول أنه عندما يتعلّق الأمر بالله فإن اليدين و العينين… إلخ يجب ألاّ تفهم على أنّها جوارح وأدوات كما هوالحال بالنسبة إلينا نحن ولكن على أنّها نعوت وصفات فالله ليس كائنا جسما(مجرّد،ص41 الأسطر،3-7) وهذا هو، تحديدا، الموقف الذي دافع عنه الأشعري في الإبانة.ولقد كان تعليقه على الصيغة القرآنية “بيديّ” (القرآن 38،75)التي توقّف عندها مطوّلا (انظر لاحقا) نفيا للتأويل التجسيمي( بيديّ= بجارحتين) والتأويل الاستعاري(بيديّ= بنعمتين أو بقدرتين) على حدّ سواء.ليحتفظ بالفرضيّة الأخيرة الممكنة و مفادها أنّ لله يدين فعلا غير أنهما تختلفان عن أيدينا فهما ” يدان ليستا كالأيدي” (الإبانة،ص101 سطر 10 وما يليه).

 يقال إن القلانيسي ،وليس الأمر بغريب، كان يدافع عن ذات الأطروحة مع فرق واحد وهو أنه يجعل من يديْ الله صفة وحيدة وليست التثنية سوى صيغة لغوية خالصة،في حين يذهب الأشعري إلى أنّ الأمر متعلّق بصفتين(انظر،مجرّد،ص 326،الأسطر2-6 وأصول الدين،ص111الأسطر9-10 و18 وما يليه،وتبصرة الأدلّة،ص131سطر2 و شرح الإرشاد،ص141ب الأسطر7-8 و 142أ الأسطر،13-14)والصفتان ليستا غَْيَريْن لسبب هو أنّ الواحدة منهما لا يمكن أن توجد دون وجود الأخرى( انظر ص  279 من هذا الكتاب).ولا يجوز،تبعا لذلك، نعتهما بأنّهما متماثلتان رغم أنه يمكن لكلّ واحدة منهما أن توصف بنفس الطريقة التي تنعت بها الأخرى[1] لأنّه لا يمكن أن يوجد تماثل إلا إذا وجد تغاير (مجرّد،ص214،الأسطر11-14)

سلف لنا أن أشرنا إلى أنّ الأشعري نظر طويلا (الفقرات 57-64) في تفسير الآية (38،75)من القرآن ” لْمَا خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ” و يتمثل هذا النظر في نقض التأويل الاستعاري المعتزلي نقضا ممنهجا.أن كلمة “يد” ،عند المعتزلة،[2] عندما تطلق على الله يجب أن تفهم بأحد المعنيين التاليين:(وهما معنيان مجازيان مقبولان عادة) إمّا أن تكون اليد مجازا على النعمة أو أن تكون معادلا للقدرة أو القوّة . و يبدو أن التفسير القائل بالنعمة كان التأويل الذي ظلّ لمدّة طويلة مقبولا تلقائيا. ففي المقالات لا يذكر الأشعري غيره(انظر،ص195الأسطر،13-14وص218،سطر3و ص 522 الأسطر1-2) وكذلك فعل ابن خزيمة في التوحيد(راجع صً63السطر14 وص67،سطر2 وص 85 سطر14)ويقدّم البغدادي هذا المعنى باعتباره قولا تفرّد به الجبّائي(أصول الدين،ص111سطر3وص112سطر1)

وقد لاحظ الأشعري،معارضا تفسيراليد بمعنى النعمة في الآية 38،75 من القرآن، (الإبانة الفقرات 57-58) أن لا أحد من العرب يمكن أن يقول،قاصدا معنى النعمة، فَعَلْتُ كذا بيديّ أو فعلت بيديّ.وفي مثل هذا السياق(سياق الآية المعنيّة والفعل فيها خَلَقْتُ)لا يمكن لعبارة اليد أن تعني سوى اليد . ويقول الأشعري أنّه لا يمكن أن يكون هناك فرق بين لغة القرآن العربيّة والعربيّة التي كان العرب يتكلّمون بها لأنّ الله قال”وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ(14،4) وقال عن القرآن”وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينَ”(16،103) ولدى الأشعري مبدأ ثابت قارّ هو أن الله  قد خاطب العرب،في القرآن، بلغتهم وأنّ الوحي لم يدخل على هذه اللغة أيّ تغيير. إنّ معاني الكلمات في الوحي لها نفس المعاني وتخضع لنفس القواعد التي تحكم اللغة المستعملة (انظر، ص 149 الأسطر، 13-18).

يذكر الأشعري ،من ناحية أخرى، سياق الآية ( الإبانة، فقرة 60 و انظر كذلك، الثغر،ص 73،1-4) إذ يتعلّق الأمر بمقطع من هذه المقاطع التي يحكي فيها الله كيف رفض إبليس أن يسجد لآدم تكبّرا منه و يرى الأشعري أن غاية ما يقوله الله في هذا الخصوص تبريرهذا السجود بردّه إلى فضل آدم على إبليس ومزيته عليه :”مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِيَّ” فإذا كان علينا أن نفهم ،هنا، كلمة “يد” بمعنى “النّعمة” فإنّ فضل آدم على إبليس يزول.والنعمتان، محل الحديث، إمّا أن تكونا عبارة عن بَدَنِ آدم و لإبليس هو كذلك بدن مثل آدم كما يقول الأشعري( والأبدان عند المعتزلة جنس واحد) ” وإذا كانت الأبدان ،عندهم، جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في جسد آدم” وإمّا أن تكونا -النعمتان- عرضين خلقهما الله في جسد آدم(مثل الألوان والحياة والقدرة) وفي هذه الحالة تكون كلّ الحوادث المخلوقة في آدم مخلوقة كذلك في إبليس.

وقد لجأ الأشعري إلى نفس الحجّة ليدحض ،هذه المرّة، حمل اليد على معنى القدرة (الإبانة،الفقرة59). في هذه الحالة كذلك لا يمكن لآدم أن يَفْضُلَ إبليس. لقد خلق الله كلّ الكائنات بقدرته والذي أراد الله قوله في هذا السياق أن سرَّ تفوّق آدم كامن في أنّه خلقه بيديه( راجع أيضا، تمهيد الأوائل،ص 258 الأسطر13- 17وفصول الفقرة52 حيث يحتاج النص في هذا الموضع إلى إصلاح)

و يطعن الأشعري خصومه المعتزلة بحجتهم فيردّها عليهم .لأنه إذا كان يجب أن نفهم من “بيدين” معنى “بقدرتين” فهذا يعني أن المعتزلة يناقضون أنفسهم تناقضا مزدوجا لأنهم ينكرون أن تكون لله قدرة فكيف يمكن أن تكون له حينئذ قدرتان ؟ ( انظر،تمهيد الأوائل،ص 259الأسطر،6-4)

يقوّل الأشعري خصومه (الإبانة،الفقرة61) :”أنه في هذه الحالة إذا لم يجز أخذ عبارة يد بمعناها المجازي فيجب أخذها بمعناها الحقيقي أي بمعنى الجارحة لأن” اليد إن لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة” في الشاهد .وقد ردّ الأشعري على هذا القول بجواب معهود عنده(انظر،ص 187)  مفاده أن مبدأ الاستشهاد بالشاهد على الغائب لا يصلح في كلّ الأحوال. لأنّه إذا  كان علينا أن نفكّر على هذا النحو فيجب أن نصير إلى القول بأنّ الله جسم لأنّنا قي الشاهد لا تجد حيّا إلا وهو جسم.ويخاطب الأشعري المعتزلة قائلا “وانتم تقبلون القول بأن الله “حيّ لا كالأحياء “فلم لا تقبلون،إذن،أن تكون له كذلك ” يدان لا كالأيدي” ( انظر،تمهيد الأوائل، الفقرة439)

لا شكّ في أنّ مثل هذه الحجج لا قدرة لها على إقناع أحد من المعتزلة بتاتا.لكن موقف الأشعري هذا قلّما  تمّ اتّباعه حتى داخل المدرسة الأشعريّة نفسها ، في حدود ما نعلم.فلقد اتبع هذا الموقف الباقلاني(انظر خاصة، شرح الإرشاد،ص 141ب،الأسطر6-7[3]و من المرجح أيضا أن يكون ابن فورك قد اتبع نفس المذهب و القشيري أيضا.(انظر، فصول، الفقرتان،51-52).غير أنّه يبدو أنّ أبا إسحاق الإسفراييني قد مال عموما للتأويل الاستعاري (انظر،شرح الإرشاد،ص141بالأسطر8-9 و142أ سطر15) واتبعه الفوركي أيضا(انظر،النظاميّة،ص47 سطر8وما يليه)وهذا هو أيضا موقف البغدادي لكنه جاء بطريقة ضمنية(انظر، أصول الدين،ص 110الأسطر،3-5و ص 111 الأسطر،10-13) و كذلك الجويني الذي دحض ،مطوّلا،الحجة القائلة بتفوّق آدم على إبليس(الإرشاد،ص88سطر19 وما يليه وانظر كذلك النظاميّة، السطر47 ب وما يليه وأصول الدين، ص111 الأسطر 13-15)

غير أن الأشعري نفسه ،والعهدة على أبي إسحاق الأنصاري، قد قبل أحيانا التأويل الاستعاري و فهم اليد بمعنى القدرة والوجه بمعنى الوجود والعينين باعتبارهما تدلان على معنى النظر(انظر، شرح الإرشاد،ص142أ،سطر17 و 143أ،الأسطر،18-13 و انظر كذلك أبكارالأفكارج1 ص 115أ الأسطر7-8) و قد قال الشهرستاني( تلميذ الأنصاري)عن الأشعري:”وله قول أيضا في جواز التأويل(الملل والنحل،165 سطر10)

توجد أيضا صفة إحيائيّة أخرى لافتة هي صفة الاستواء على العرش وقد ورد ذكرها عديد المرات في القرآن(7،54؛10،3؛13،2 إلخ)وقد رفض الأشعري،هنا أيضا،التأويل الاستعاريّ الذي قالت  به المعتزلة خاصة الذين يزعمون أنّ الاستواء هو المعادل لمعنى الاستيلاء ورأوا في ذلك طريقة ،من بين طرق أخرى، في الدلالة على معنى عظمة الله و استيلائه و غلبته (انظر، مقالات،ص211سطر 14؛ مجرد،ص325الأسطر20-21؛ شرح الأصول الخمسة،ص 226 سطر 14 وما يليه؛أصول الدين،ص112الأسطر7-9) وقد لاحظ في الإبانة(الفقرة 47)،دون تحفّظ،أنّه، إذا فهم الفعل “استوى” بهذا المعنى باعتبار أنّه لا حدود لقدرة الله وباعتبار أن”هيمنته” تقع على كلّ شيء فإنه لا داعي، حينئذ، لتحديد الاستواء بأنّه على العرش وقصره عليه كما يرد ذلك في القرآن فالقدرة تمتدّ لتشمل الأرض فالله قادر”على الأرض وعلى الحشوش والأخلية والأقذار” و لكن الاستواء ،كما يقول الأشعري، مقصور على العرش والله ” مستو على عرشه دون الأشياء كلّها”( الإبانة الفقرة 49)[4]

كيف يجب إذن أن نفهم هذا الاستواء؟  دافع الأشعري في الإبانة ( الفقرات 46و49-55) ، هذه المرّة،عن موقف يمكن أن ننعته بكونه موقفا “حنبليّا متشدّدا”[5] ملحّا على الفكرة التي تذهب إلى أنّ” الله في السّماء” و ليس “في كلّ مكان”،مثلما يزعم المعتزلة،وأنّ عرشه “فوق السماوات” وهو”أعلاها” ولكنّه لا يكشف تحديدا عن المعنى الذي يجب أن نفهمه من الاستواء بل اكتفى بترديد أنّ الله مستو على عرشه دونما تدقيق.

لكننا إذا ما عدنا إلى ما تنقله كتب العقائد المتأخرة أمكننا أن نستخلص منها موقفا آخر للأشعري،في خصوص هذه المسألة و في سياق كلامي خالص قد يكون هو التالي:إن الاستواء الذي يسنده القرآن لله ليس صفة للذات كما يقول أبو الحسن فالقرآن يقول تدقيقا : ثمّ استوى على العرش و”ثمّ” تفيد معنى التراخي و لا يمكن أن يوجد تراخ إلا في حالة وجود أفعال ولذلك وجب ردّ الاستواء إلى” صفات الأفعال” لأنّ ما ليس من “صفات الذات” هو بالضرورة من” صفات الأفعال”(انظر،البيهقي،الأسماء والصفات  ،طبعة.الكوثري،ص410الأسطر،1-3 ؛شرح…؟ ص555 سطر14 وما بعده).يواصل الأشعري قوله إذ يجب أن نفهم أن الله “فعل في العرش فعلا سمّاه استواءً”(انظر، أصول الدين،ص113سطر3 ؛الأسماء والصفات،ص410 الأسطر1-3؛ الغنية ص34أ الأسطر 5-6) مثلما فعل في أشياء أخرى غيره أفعالا أعطاها أسماء من قبيل الرزق والنعمة إلخ ( الأسماء و الصفات ص 410 سطر3).لكن لا يمكننا أن نبيّن ما هو هذا الاستواء(نفسه،ص 410سطر4).ولا نستطيع،على كلّ حال، أن نفهمه بالمعنى الحرفيّ والأمر، كما يقول الأشعري،شبيه بهذا الفعل الآخر الذي قال الله أنّه قد أحدثه في بُنْيَانٍ وسمّاه “إتيانا”(انظر القرآن.16،26:فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ) ولكن لا يجب أن نفهم ذلك بمعنى” النزول” أو”الحركة” (أصول الدين،ص113،الأسطر3-5 وراجع،الأسماء،ص 448،سطر6 وما بعده)[6].و مثلما يظلّ كلّ تأويل استعاري مرفوضا على ما يبدو فإن الحلّ الذي رأيناه سابقا يبقى هو كذلك المعمول به في فهم هذا الفعل الإلهي مثلما هو الحال بالنسبة إلى الصفات من قبيل اليدين والعينين والوجه دون المجازفة بتأويلها على أيّ نحو من الأنحاء.

الفصل التاسع من كتاب (مذهب الأشعري) لدانييل جيمريه


[1] – جسب ” شرح ؟”ص332 الأسطر 5-11 كان الأشعري يذكر سببا آخر هو أنّ الوحي لا يقول لنا ما إذا كانت لليديْن نفس الخواص وهو ما يقتضي تماثلهما

[2] – و كذلك عند بشر المريسي حسب الدارمي ، انظر ، العقائد، ص 397الطر، 12-13 و ص 398 الأسطر2-3

[3] – حيث نقرأ: ومال القاضي أبي بكر في الهداية إلى هذا المذهب ،انظر….98بالأسطر،9-10

[4] – انظر أيضا ، … ص 75الأسطر910

[5] – انظر ، المعتمد، الفقرة93 و لكن  هذا الموقف كان أيضا موقف ابن كلاّب مثلما يدلّ على ذلك المقطع المنقول عن ابن فورك من قبل ابن قيّم الجوزيّة  في ” اجتماع الجيوش الإسلاميّة” (وهو الذي استشهد به جوزيف فان آس في ” ابن كلاّب و المحنة” …مجلة      oriens18-19/1967 ،ص 138-139

[6] – يقول أبو إسحاق الشيرازي في ” عقيدته” متحدثا عن معنى الاستواء:” فعل سبحانه في العرش فعلا سمّى به نفسه مستويا كما فعل في في البنيان فعلا  و كان به بانيا “(72،سطر 17-18)و بالمقارنة مع نصّ البغدادي الموثوق تبدو الكلمات الأخيرة من جملة الشيرازي خاطئة المعنى