مجلة حكمة

التفكير والشعور: مراجعة كتاب “الدماغ الانفعالي” – جوزيف ليدوكس / مراجعة: داماسيو

كتاب (الدماغ الانفعالي: المرتكزات الغامضة للحياة الانفعالية) The Emotional Brain: The Mysterious  Underpinnings of Emotional Life   BY JOSEPH LEDOUX Simon & Schuster, New York, 1996
كتاب (الدماغ الانفعالي: المرتكزات الغامضة للحياة الانفعالية)
The Emotional Brain: The Mysterious
 Underpinnings of Emotional Life
  BY JOSEPH LEDOUX
Simon & Schuster, New York, 1996

قد لا نفهم بالدقّة أبدًا سبب فتور العلم في دراسة الانفعال لما يقرب من مئة عام. ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر فكّر وكَتَبَ كل من <Ch. داروين> و <W. جيمس> و<S. فرُويْد> بشكلٍ باهرٍ في موضوع طبيعة الانفعال، وفي الآليات البيولوجية الممكنة المؤدية للانفعال، وفي الطُّرُق التي يتم بوساطتها الإخلالُ بالانفعال. أما طبيب الأعصاب البريطاني <H .J. جاكسون>، فكان أول من حدّد تشريحيا الانفعال البشري بنصف الكرة المخية الأيمن، وتوافرت يومها جميع الأسباب لِتَوقُّع اهتمامِ علومِ الدماغِ البازِغَةِ بموضوع الانفعال مثلما كانت تُولِيهِ لموضوع اللغة والإدراك الإبصاري.

ومن المستغرب أن ذلك لم يحدث على الإطلاق، فلطالما تُرِكَ موضوعُ الانفعال خارج الاتجاه السائد لما أصبح علومًا عصبيةً neuroscience وعلوما استعرافية cognitive science. ومع ذلك، هناك قلة من علماء النفس من أمثال <S. شاختر> (من جامعة كولومبيا) أجروا دراسات على الانفعال، كما أوجد الأطباء النفسيون والفارماكولوجيون المهتمون بالحالة النفسية، أو المزاج mood، عقاقير وفرت معلومات غير مباشرة حول آليات الانفعال. وعلى العموم، فإن العلوم العصبية والعلوم الاستعرافية فيما بعد، أهملت موضوعَ الانفعال حتى عهد قريب جدا. ففيما يمكن اعتباره الشَّهْقة الأخيرة للجفاف الفكري ما بعد ديكارت وما بعد كانت post-kantian، ما كان الانفعالُ يُعتمد في الحياة الحقيقية ولا في المختبرات. وكان يقال: إنه ذاتيٌّ غير موضوعيٌّ، وإنه مخادع وينبغي التصدّي له، كما أنه يُجافي ما تتوق إليه العلوم المعاصرة.

لقد فكّر بعضُنا زمنًا طويلا أنّ هذا الموقف كان مُسرفا، إن لم يكن غبيا، وأنه استمر وكأن حقلاً يسمى «البيولوجيا العصبية للانفعال» كان موجودا من قبل. في هذه السيرورة، وجد ذلك الحقل المفقود، وَبَزَغَ مؤلفُ كِتاب «الدماغ الانفعالي» في عِدَادِ من أوجدوه. ونذكر لهذا الأخير أنه قدَّم إسهامًا غنيا في فَهْمِ واحدٍ من الانفعالات البارزة وهو الخوف fear، وذلك من خلال أعماله في مختبره بجامعة نيويورك. ففي بحثه على الحيوانات وتركيزه على منطقة دماغية مهمة تُعْرَفُ باسم النواة اللوْزِيَّة أجرى لودُو عددًا من التجارب البارعة التي ألقت ضوءًا على بعض الآليات العصبية لاستجابة الخوف. ويصح الكثير مما اكتشفه على انفعالات أخرى غير الخوف، ويصح كذلك على البشر. وتوفر مكتشفاتُه هذه برنامجَ عملٍ قيّمٍ للمزيد من الدراسات على الحيوانات.

تعتبر اللوزية البشرية human amygdala (المنطقة الحمراء
فوق جذع الدماغ) المركز الدماغي المسؤول عن تَعَرُّف الخوف والتعبير عنه والشُّعورِ به.

يَسْتَجِرُّ كتاب الدماغ الانفعالي obliqe Not bold مصادر قوَّته من بحوث المؤلف ذاته. فلا يوجد بديلٌ لهذا الكتاب حول معرفتنا المباشرة للكيفية التي تتكشف بها سيرورة الاكتشاف بما فيها من الإثارة أحيانا والألم أحيانا أخرى. ويُورِد لودُو تجربتَه هذه ليقدِّم بيانًا تثقيفيّا (لأولئك الذين قد يرغبون في الاطلاع على أحد المداخل إلى منظومات العلوم العصبية) ومفيدًا (للمختصين) ومُمْتِعا (لجميع القراء). والكتابة في هذا المؤلَّف مباشِرةٌ وخاليةٌ من الذرائع والادعاءات، كما أن المؤلِّف يعترف بفضل زملائه في إنجاز كتابه، وهذا واجب قلَّما نلحظه في تجارة كتب العلوم، الأمر الذي ينبغي اعتباره فضيلة بكل تأكيد.

هذا ويؤطر لودُو بيانه بانعِكاسَةٍ واضحةٍ على ماضي أبحاث الانفعال ومستقبلها، كما يَنْبَري للخلاف الطويل الأمد حول دور الجسم في معالجة processing الانفعالات. وربما يكون هذا الخلاف قضية مركزية في البيولوجيا العصبية للانفعال؛ فقد اقترح <W. جيمس> أنه حينما بدأ الدماغ ببعث الانفعالات، تمثلت تعليماته في الجسم، وأخذت التبدلات الناجمة عن ذلك تتمثل لاحقا في الدماغ بحيث يستوعبها بشكل واع. ولكن عددًا من النُقّاد لا يرى أن المُكَوِّنات الأساسية لآلية الانفعالات تحدث داخل الدماغ وأن استجابات الجسم غير أساسية للشعور بانفعالٍ ما. وعلى الرغم من ارتباكِ وتَشَاكُل حُجَج المعسكر المضادّ لـ «جيمس»، فقد فاز هذا المعسكر؛ ربما بِسَبِبِ عدم اكتمال الإطار الذي حدده جيمس والذي جَعَلَتْهُ المعرفةُ المحدودةُ حينذاك عرضة للطعن.

لا يمكن تفسير استمرار هذه الحال على ما هي عليه حتى عهد قريب إلاّ بامتناع الباحثين اللاحقين عن تَفَحُّص المشكلة بأيّ عمقٍ . ولا يُبدي لودُو أي تردد في تقييمه التالي: «يَصْعُب الاعتقاد بأننا بعد كل هذه السنين مازلنا فعليّا لا نمتلك فَهْمًا واضحا ومحدَّدا لدور حالات الجسم في الانفعالات. ومع ذلك فإنني أَضَعُ رهاني في صالح قيام التغذية الراجعة (التلقيم المرتد) feedback بدورٍ في هذا الصدد. فالأجهزة الانفعالية نشأَتْ كَسُبُل تُضارِعُ بها الاستجاباتُ الجسميةُ المتطلباتِ التي يفرضها الوسط المحيط. ولا أستطيع أن أتصوّر طرقًا عديدة لإمكانية نشوء شعور انفعالي جيّاش من دون جسمٍ يرتبط بالدماغِ الذي يحاول تملُّك الشعور.

وكذلك يُجيبُ لودُو ببلاغة عن السؤال المتكرر عن الوضع الانفعالي للمصابين بالشلل الرباعي tetrapelagics وبآفات في النخاع الشوكي الرقبي (والذين بالتالي يقل لديهم التحكُّم الحركي واللمسي تحت مستوى الرقبة). فاستمرار مقدرة المصابين بالشلل الرباعي على الشعور ببعض الانفعالات يبدو منافيا لدور التغذية الراجعة الجسمية في الانفعال. ولكن قليلا من الأذيّات، لو وجدت، يؤدي إلى التلف الكامل للنخاع الشوكي؛ وهكذا سيبقى بعض المدخول الحسي حاصلا. وفضلا عن ذلك، فإن مقدارا مهما من المدخول الحشوي visceral input يتجاوز النخاع الشوكي بِرُمَّتِهِ ويدخل الجهاز العصبي المركزي في مستوى جذع الدماغ عن طريق الأعصاب القحفية cranial nerves. وبالفعل، فإنَّ مرضى آفات النخاع الشوكي يُبْدون بعض تبدلات المعالجة الانفعالية، مما يشكل شاهدا واضحا على أهمية التأشير signalling الجسمي الحادث، مادام يمكن أن يكون ثمة تأثير حتى للتلف الجزئي.

هذا ويتمّم حُجَجَ لودُو اقتراحي الخاص بإمكانية وجود عروة جسمية تقديرية as-if-body loop كتلك التي عَرَضْتُها في كتابي خطأ ديكارت، حيث اقترحت من جانبي (ووافق لودُو على ذلك) أن بعض الاستجابات الانفعالية يمكن أن تغيّر التمثيلات الحسية الجسمية somatosensory representations في الدماغ مباشرة، و«كأن» الدماغ يتلقى إشارات من الجسم، مع أنه تمّ فعليًا تجاوز الجسم. وربما يمتلك الناس آلية العُرْوةِ الجسمية وآلية العُرْوةِ الجسمية التقديرية كلتيهما لملاءمة الشروط المختلفة للمعالجة. ولكن النقطة الحدِّية في الموضوع تتمثل في أن كلتا الآليَّتين تتعلقان بالجسم ذاته.

ولقد أمْتَعَني منظورُ لودُو في جَدَلِهِ الوثيق بالموضوع بأنّ الجسمِ لا يُقَدِّم تشكيلةً متنوعةً من الإشارات تكفي للدلالة على الانفعالات المختلفة التي نحسّها، فأَشَرْتُ من جانبي إلى ضَعْفِ هذا الجدل، ويسرُّني كون لودُو يجيز فكرة أنّ الإشارات الجسمية تستطيع بسهولة أن تؤمن التنوع في النماذج الانفعالية. فهو يكتب قائلاً: «إذا ما أخذنا جميع التآثُرات بين الأجهزة المختلفة بعين الاعتبار ككلّ، فإننا نجد إمكانات تشكيل نماذج انفعالية نوعية من التغذية الراجعة أمرًا مذهلاً. ويصدق ذلك بوجه خاص إذا ما دُرِسَت من وجهة نظر ما سيكون ضروريا من أجل توثيق علمي لوجود هذه النماذج من جهة وللبرهان (وهو الأصعب) من جهة أخرى على أن التغذية الراجعة ليست مهمة».

لا أرغب في أن أُخيِّب آمال القراء الذين سئموا هذا الحد من الاتفاق بين المؤلِّف والمُراجِع، ولذا أقول بأنني لن أصادق على موقف لودُو العام تجاه الشعور (وإن كنت أدرك جيدا لماذا يتمسك به). فمن ناحية الجوهر، يعتقد لودُو أن الجهود الاستقصائية في مجالنا لابد أن تركِّز على الاستجابات البيولوجية التي تشكل انفعالاً، لأن هذه الاستجابات يمكن تحديدها ومُنابَلَتها (معالجتها) في التجارب الحيوانية، في حين لا يمكن دراسة المشاعر (التي هي إدراك الاستجابات الانفعالية) إلاّ بالتعاون مع الذات التي تتأثر بهذه المشاعر. فخوفه من المشاعر هو حقيقة ثنائي الجانب. فمن جهة، قد تكون للحيوانات مشاعر لا نستطيع دراستها بشكل ناجع، ومن جهة أخرى، فإن الدراسة «المتساهلة» للمشاعر كان يصحبها في الماضي شيء من الارتباك ناشئ عن دراسات تفتقد عمق التصور لموضوع الانفعال.

أقول: إنني غير موافق لأن الزمن والتقانات قد تَغَيَّرا. فالتقانات الحديثة للعلوم العصبية الاستعرافية تسمح لنا بدراسة الانفعال لدى الحيوانات، وكذلك الانفعال والمشاعر كليهما لدى البشر. وستكْشِفُ التركيبةُ المشتركة للدراسات على الحيوانات والبشر في نهاية المطاف وبأسلوب مُتْقَن استمرارية السيرورات التي تبدأ بمنبِّهٍ عقليٍّ قادحٍ، وتواصل إلى الاستجابات الانفعالية وإلى تمثيلاتها الحسية، وتنتهي بظهورٍ واعٍ لما يعرف بالمشاعر.

وفي غضون ذلك، يُعَدُّ كتاب الدماغ الانفعالي مقدِّمةً ممتازة لقصة البيولوجيا العصبية للانفعال على ما فيها من غرابة، كما يُعَد استِشْرافًا لما سيحدثُ مستقبلا.

مجلة العلوم (مايو 1998)


كتب هذه المراجعة: أنطونيو داماسيو (Antonio R.Damasio)، وهو مؤلف كتاب خطأ ديكارت: الانفعال والعقل والدماغ البشري (للناشر:G. P. Putnam, Sono)، وهو يشغل منصب «أستاذ ڤان ألين» ويرأس قسم علم الأعصاب في كلية طب جامعة أيوا.