مجلة حكمة

التبريرات: استخدامات اللغة في إعادة بناء التفاعلات الاجتماعية – خالد كاظم أبو دوح


مقدمة :

تعد اللغة بالدرجة الأساسية، ظاهرة اجتماعية عامة ومتأصلة في أشكال الحياة الاجتماعية، ومجمل ما يحدث فيها من تفاعلات وممارسات، وتعمل اللغة داخل أشكال الحياة المحددة، وتستخدم بشكل روتيني بواسطة الأفراد، في سياق تفاعلاتهم وممارساتهم عبر فضاءات الحياة المختلفة، واللغة هي وسيلة لتنظيم السلوك الاجتماعي، كما أن معاني ومضامين الكلمات والتفوهات يجب فهمها بالنسبة إلي مجموعة الاستخدامات المتنوعة، والتي توضع فيها اللغة من قبل الأفراد، وكذلك استخدامات اللغة في المناقشات والمحادثات والإقناع والمزاح والتقويم … إلخ.

واللغة عبر ممارسات الحياة اليومية هي الوسيلة التي يتم بواسطتها تنظيم الحياة الاجتماعية برمتها، تنظيماً هادفاً ومفيداً بواسطة الفاعلين الاجتماعيين، ولهذا تعامل عدد من علماء الاجتماع مع اللغة ليس باعتبارها مجرد موضوع للتحليل بقدر ما هي مورد يجب علي كل باحث اجتماعي وأنثروبولوجي، استخدامه لإدراك الموضوع الذي يقوم ببحثه وفهمه.

ويعد مفهوم “التبريرات” Accounts، من المفاهيم الهامة التي أشار إليها بعض علماء الاجتماع الأوائل، في سياق اهتمامهم باللغة، إلا أنه منذ وقت طويل، تم إهمال هذا المفهوم، ولم يتم العمل عليه في سياق علم الاجتماع علي النحو المرجو، وعلي هذا فإن هذه المحاولة تهدف إلي الكشف عن ماهية مفهوم “التبريرات” في علم الاجتماع، وكيف أن الأفراد يعتمدون علي عديد من التبريرات عبر المواقف الحياتية، من أجل إعادة بناء تفاعلاتهم الاجتماعية، خاصة عندما يأتون بسلوك يضع الآخرون عليه علامات استفهام، أو يطلبون منهم تفسير دوافعهم التي تقف وراء هذا السلوك، وأهم العلماء الذين قدموا مقاربات سوسيولوجية له، إضافة إلي أشكال التبريرات في حياتنا اليومية، ومحددات قبولها أو رفضها.

أولاً : مفهوم التبريرات : مقاربة سوسيولوجية

يبحث البشر دوما عن المعنى والنظام في حيوات الآخرين، وتعتبر التبريرات من الأساليب الرئيسة التي يمكن الاعتماد عليها في وصف وفهم الطرق التي يواجه بها الأفراد عالمهم الاجتماعي، والمعاني التي يتضمنها، أو يتوحدوا ويندمجوا من خلالها مع هذا العالم. ولمفهوم التبريرات أساس وتاريخ صلب في البحث والتحليل الاجتماعي المبكر، وحديثا تشجع العلماء في العلوم الاجتماعية لجمع وتفسير قصص التبريرات التي يرويها الأفراد.

  • تعريف التبريرات:

ظهر مفهوم “التبريرات” لأول مرة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وطبقا لكلا من “سكوت” Scott، و”ليمان”Lyman، التبريرات هي “عبارات لفظية تصدر عن فاعل اجتماعي إلي فاعل اجتماعي آخر لتفسير السلوكيات غير المتوقعة أو المرفوضة”(1).

ويشير أحد الباحثين إلي أن التبريرات هي عبارة عن المبررات والأعذار التي يقدمها الأفراد، عندما يحدث تشويش علي مسار تفاعلهم مع الآخرين، بواسطة تصرف أو كلمة، والهدف من التبريرات يكون بالأساس هو إصلاح المعنى لدي الآخر(2).

فالتبريرات وفق هذه المحاولات التعريفية هي بمثابة العبارات اللفظية أو المكتوبة، والتي تقدم تفسير اجتماعي لبعض الأحداث التي تسبب اضطراب بين المتفاعلين، وهنا يلجأ أحد أطراف التفاعل، وغالبا هو الشخص الذي ارتكب، أو تسبب في هذا الاضطراب نتيجة سلوك معين قام به، لتغيير المعني الذي ترسخ لدي الطرف الثاني.

وعلي الرغم من أن التحليل والبحث السوسيولوجي المبكر، كانا هامين في تعريف مفهوم “التبرير”، إلا أن هذه الظاهرة لم تستحوذ علي الاهتمام المناسب في علم الاجتماع منذ السبعينيات، وسواء كان تحت عنوان “صياغة التبريرات” أو عنوان “رواية القصص” فإن البحث والتنظير في هذا المجال ازدهر في فروع أخرى (مثال علم النفس، والأدب، ودراسات التحليل اللغوي)، وزاد بسرعة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات(3).

  • ظهور مفهوم التبريرات في علم الاجتماع:

اللغة تفعل، ويُفعل بها ومن خلالها، وفيها، تتكلمنا كما نتكلمها، وتشكلنا كما نشكلها، وتؤثر فينا كما نؤثر فيها وبها ومن خلالها. ولهذا تعامل علم الاجتماع بشكل عام مع اللغة باعتبارها جزء من الحياة الاجتماعية لا يمكن اختزاله، وبينه وبين عناصر الحياة الأخرى علاقة منطقية جدلية، تجعل من الضروري أن يأخذ الباحث الاجتماعي اللغة دوما بعين الاعتبار. ويعني ذلك أن التركيز علي اللغة باستخدام شكل من أشكال تحليل الخطاب، هو أحد الطرق المنُتجة في البحث الاجتماعي، ليس ذلك اختزال الحياة الاجتماعية باللغة، ولا اعتبار كل شئ خطابا، ليس الأمر كذلك، فما تحليل الخطاب سوي إحدى الاستراتيجيات التي يمكن الاعتماد عليها في التحليل والبحث الاجتماعي(4).

كما أن كل نص أو خطاب، يتضمن بشكل مباشر أو غير مباشر تفاعل وعلاقات بين البشر، أو بين البشر والكائنات والموجودات، وعلاقات بين أفكار ما، إلا أن العلاقات بين البشر هي التي تترك أثارها علي اللغة والحوار، كما أن معاني النصوص والحوارات تترك أثارها علي العلاقات والتفاعلات الإنسانية.

ويستطيع الفاعل الاجتماعي من خلال أي حوار أو محادثة، أن يؤسس لتفاعلات اجتماعية جيدة وقوية، أو أن يؤسس لتفاعلات اجتماعية متوترة، كما أنه يستطيع من خلالهما أن يعيد إنتاج العلاقات والتفاعلات المتوترة، حتى تصبح تفاعلات جيدة، وأهم آلية لإعادة إنتاج التفاعلات لدي الفرد هي التبريرات، التي يقدمها من أجل إزالة سوء الفهم، الذي وصل للطرف الآخر من خلال سلوك أو تصرف غير مقبول أو عليه تحفظات ما، وعلي هذا الأساس ظهر اهتمام عدد من علماء الاجتماع بمفهوم التبريرات.

ولقد أدت مؤلفات عدد من علماء الاجتماع من أمثال؛ “رايت ميللز”، “مارفين سكوت”، “ستانفورد ليمان”،”جارفينكل”، “جوفمان”، إلي تطوير التراث النظري لمفهوم التبريرات، ولقد أهتم هؤلاء العلماء بثلاثة تساؤلات أساسية هي: ما محتوى التبريرات؟، ما الظروف التي يقدم في ظلها الأفراد تبريراتهم؟، ما ظروف قبول أو رفض الأفراد للتبريرات التي يقدمها الآخرون؟.

  • رايت ميللز : مفهوم معجم الدوافع

قدم “رايت ميللز” تصوره حول مفهوم “معجم الدوافع”، في مقال هام له بعنوان “الأفعال الموقفية ومعجم الدوافع” Situated Actions and Vocabularies of Motive”، ونشرها في الأربعينيات من القرن الماضي(5). وطرح “ميللز” خلال هذا المقال رؤية سوسيولوجية كاملة لطبيعة الدوافع وعملها، وذهب إلي أن الدوافع تؤسس اجتماعيا – من خلال سياقات الفرد الاجتماعية – وليست مجرد قوى أو رغبات فطرية متأصلة في الطبيعة البشرية.

ومفهوم “معجم الدوافع” Vocabularies of Motive، هو بالأساس جزء من مشروع أكبر أهتم به “رايت ميللز”، ويدور هذا المشروع حول فكرة أنه لم يعد من المناسب التعامل مع اللغة باعتبارها ظاهرة نفسية عند المتكلم والمستمع علي السواء، وأنه يجب التعامل مع السلوك اللغوي من خلال ملاحظة وظيفته الاجتماعية، المرتبطة بتنسيق وتنظيم الأفعال المختلفة، التي يقوم بها الفاعل الاجتماعي، ودفع هذا الرأي “ميللز” إلي شرح النموذج التحليلي الخاص بتفسير الدوافع، ويعتمد هذا النموذج علي النظرية الاجتماعية وتصورها للغة، وكذلك علي أفكار علم النفس الاجتماعي، واعتبار الدوافع الينابيع الذاتية للأفعال، كما أنه يمكن النظر إلي الدوافع باعتبارها “مفردات أو كلمات” لغوية نمطية، تمتلك وظائف مؤكدة في المواقف الاجتماعية، كما أن الفاعلون الاجتماعيون ينطقون الدافع وينسبونه إلي أنفسهم وإلي الآخرين(6).

وعرف “ميللز” الدوافع بأنها المصطلحات أو المفردات التي من خلالها يقدم الأفراد تفسير أو تبرير لأفعالهم. ولا شك في أن اعتراف الأفراد وإقرارهم بدوافع أفعالهم، يمثل ظاهرة اجتماعية، تحتاج إلي التفسير، علي أساس أن الأسباب المختلفة التي يذكرها الفاعلون كتبريرات لأفعالهم، لا تكون هي ذاتها بدون أسباب(7).

يحاول “ميللز” هنا التأكيد علي أن التصور السوسيولوجي حول الدوافع مؤداه، أنها تنشأ في الغالب – ليس من داخل الفرد – من الموقف الذي يجد فيه الأفراد أنفسهم، هنا يحول الفرد سؤال “لماذا؟” إلي “كيف؟”.

وأشار “ميللز” إلي ما أطلق عليه “الدافع المقنع”، وهو ذلك الدافع أو التبرير الذي يقنع السائلين عن الفعل، سواء كان هذا الفعل منسوب للفاعل ذاته، أو لأي فاعل أخر، ويصبح هذا الدافع هنا بالنسبة للفاعل أو للآخرين المشاركين في الموقف، بمثابة إجابة غير مشكوك فيها، علي التساؤلات المثارة حول السلوك الاجتماعي. وعلي هذا الأساس فإن الدوافع هي تبريرات مقبولة للتصرفات والممارسات الحالية أو المستقبلية أو الماضية، وفي الغالب توقعات التبريرات المقبولة سوف تتحكم في السلوك. (إذا فعلت ذلك، ماذا سوف أقول؟). (ما الذي سوف أقوله؟). والقرارات – ربما كلها أو جزء منها – سوف تتحدد حسب الإجابات علي هذه الأسئلة(8).

بناء علي ما سبق، فإن رؤية “ميللز” تؤكد علي أن الفاعل عندما يقوم بالإقرار بدوافع فعله وتبريرها، هو لا يحاول وصف فعله الاجتماعي، وهو لا يذكر الأسباب فحسب، بل أيضا يؤثر في الآخرين وفي نفسه، وفي الغالب هو يجد أسباب جديدة سوف تكون بمثابة تبرير للقيام بالفعل، ولذلك لا يجب أن يعالج الفعل بشكل منفصل عن لفظيته، حيث أن هذه اللفظية أو هذه الصياغة اللغوية، هي بمثابة فعل جديد.

ولقد علق “جورج ريتزر” علي رؤية “ميللز” حول معجم الدوافع، وأشار إلي أن هذا المفهوم مؤثر جدا وبشكل واضح، لأنه يربط الدوافع بالحياة الاجتماعية، وليس بالقوى الغامضة وغير المعروفة داخل الأفراد، إلا أن معالجة “ميللز” تترك الأسئلة عن دوافع الفرد الحقيقية بدون إجابات، لكنه مع ذلك يبدو واضحا أن أي رأي عن الدوافع يقلل من أهمية التوقعات الاجتماعية، يكون غير كامل وغير كاف، ومن هذه الناحية كان تفكير “ميللز” مؤثراً بشكل كبير في صياغة رؤية العلم الاجتماعي حول دوافع السلوك. كما أن مفهوم معجم الدوافع، لا يتطلب أن نقبل ونصفق ونوافق علي تفسيرات الآخرين لسلوكياتهم، كما يتطلب هذا المفهوم أن تتحرك نظريات علم الاجتماع حول السلوك، إلي ما وراء التفسيرات البيولوجية أو السيكولوجية، حتى نفهم كيف أن المفردات الاجتماعية المتوفرة، تولد وتدعم وتبرر ما يفكر فيه البشر ويشعرون به ويفعلونه(9).

  • ليمان وسكوت : تعريف التبريرات وأشكالها :

لقد استفاد كلا من “ستانفورد ليمان” و”مارفين سكوت”، من مفهوم معجم الدوافع لدي “ميللز”، وأشارا إلي أن الأحاديث هي بمثابة المادة الأساسية في العلاقات الإنسانية، ونادراً ما أهتم علم الاجتماع بالتركيز علي المحادثات والحوارات بين الأفراد من هذا المنطلق، ولقد كانا هما الأبرز والأكثر وضوحا في شرح وتفسير استراتيجيات التبرير لمختلف المواقف الاجتماعية.

وعلي هذا الأساس ركزا علي طرح مفهوم التبريرات، وأشارا إلي أن التبرير هو : “عبارة لفظية تصاغ من أجل تفسير السلوك غير المتوقع أو غير الموجه”. كما أنه يعتبر أداة لغوية يتم الاعتماد عليها عندما يخضع الفعل الاجتماعي للاستقصاء التقييمي، وتعد مثل هذه الأدوات عنصر هام من عناصر تكوين النظام الاجتماعي(10).

ويوضح كلا من “ليمان” و”سكوت” أن هذه التبريرات يمكن أن تتخذ شكل “الاعتذارات”، التي تقدم عن السلوكيات التي تكون محل تساؤل في موقف معين. فالاعتذارات (علي سبيل المثال : حدث عطل في إطار السيارة، ولم نستطع الوصول إلي المنزل في الميعاد المحدد) تستدعي اتهامات متوقعة بالانحراف، وهنا يتم استخدام التبريرات لإبطال التعريفات السلبية المتوقعة للأفعال. ويمكن أن يأتي التبرير في شكل “إنكارات” Disclaimers، والتي هي عبارة عن استراتيجيات لفظية يتم استخدامها مسبقا، لصد ومواجهة التقويمات السلبية، التي يمكن أن تنتج من السلوك المقصود (علي سبيل المثال: يبدو ذلك بالنسبة لك غريبا .. ولكن لا تسئ الظن بي ..) (11).

وكلا النوعين من التبريرات يتم تقديمهما للآخرين من أجل حماية احترام الذات والمكانة الاجتماعية لدي الآخرين، ولذلك فإنها تعمل طوال الوقت علي إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية علي النحو المطلوب أو المرجو من الفاعل الاجتماعي.

(ج) جوفمان وجارفينكل :

لقد تناول “جوفمان” Gofman في عمله المعنون “تقديم الذات في الحياة اليومية”، الأساس المفاهيمي والبحث المعاصر لكيف يقدم الأفراد أنفسهم، وذواتهم علي نحو فيه “تكتيك” أو “حيل” أمام الآخرين، وذلك عندما يكون للأفعال الاجتماعية آثار ونتائج سلبية، فعندما يرتكب الفرد “اعتداء” فهناك “نص” قوي خاص بصياغة التبرير يكون موجود، بحيث يتحرك إلي الواجهة ويتصدر المشهد. بغض النظر عن الهدف المحدد الذي يكون في عقل الفرد، أو دافعية الفرد فامتلاكه هذا الهدف، سوف يكون من مصلحته السيطرة علي سلوك الآخرين، خاصة معالجتهم أو استجاباتهم نحو سلوكه، وهذه السيطرة (أو التحكم في استجابة الآخرين نحوه) تتحقق بتوفير التبريرات، وذلك بهدف إلغاء النتائج السلبية الناتجة عن الشكل أو السلوك. ولقد وضح “جوفمان” أن عروض الذات أو الأداءات هي تركيبات اجتماعية، يتم تأسيسها اجتماعيا من أجل الجمهور أو الحضور، وذلك بهدف الحفاظ علي الهويات الاجتماعية(12).

وبينما أهتم “جوفمان” باستخدام التبريرات لمواجهة الخبرات الاجتماعية غير المرغوب فيها أو التي تمثل إشكالية في سياق التفاعل الاجتماعي، وضح “جارفينكل” Garfinkel، أن التبريرات بمثابة شكلاً أعم من أشكال الحياة الاجتماعية، وأكد علي أن مثل هذه التفسيرات والشروح تكون أكثر بروزا وظهورا للآخرين، عندما تصبح الظروف معقدة، وأكد أيضا علي أن الأفراد ينظمون ويديرون شئونهم اليومية بحيث تكون مبررة للآخرين، وذلك ينطبق علي كل الأفعال والسلوكيات(13).

ثانياً : أشكال التبريرات :

بوجه عام، يميز التراث بين شكلين أساسين من التبريرات هما؛ الذرائع أو الحجج، والأعذار، ويلجأ الفرد إلي أحدهما أو كليهما عندما يتهم بأنه قام بفعل شئ ما خطأ، أو غير مرغوب فيه، أو بطريقة غير مناسبة. وتعد الذرائع نوعا من التبريرات، والتي من خلالها يقبل الفرد تحمل مسئولية فعله أو تصرفه، الذي قام به، إلا أنه ينكر الصفة الإزدرائية المرتبطة بهذا الفعل. علي سبيل المثال : قد يعترف الجندي بأنه قتل عديد من الأشخاص، لكنه ينكر أن ذلك فعل غير أخلاقي، لأن هؤلاء من الأعداء ويستحقون مصيرهم. أما الأعذار فهي مفردات وكلمات مقبولة اجتماعيا من أجل التخفيف من المسئولية، عندما يسأل الشخص عن قيامه بمثل هذا السلوك، ويمكن هنا التمييز بين أربعة صياغات لغوية لمثل هذه الأعذار(14):

  • اللجوء إلي الحوادث واستدعائها.

  • اللجوء إلي الدوافع والرغبات البيولوجية.

  • اللجوء إلي الرفض والتنصل من الفعل.

  • اللجوء إلي “كبش الفداء”.

وتخفف الأعذار التي تستخدم الحوادث من حجم المسئولية عن التصرف وعواقبه، بالإشارة إلي المخاطر المدركة في البيئة. ومثال ذلك : (عندما يسأل الأستاذ الطالب : لماذا لم تحضر الامتحان الأسبوع الماضي؟ يجيب الطالب قائلا: لقد عملت حادثة وكنت مصاباً في المستشفي). والأعذار التي تقوم علي الحوادث تكون مقبولة، بسبب عدم انتظام هذه الحوادث أو تكرارها، بمعنى أنه علي الرغم من أن الخطأ موجود، إلا أنه ليس من المتوقع أن يحدث لهذا الشخص نفس الحادث بشكل منتظم.

وعندما يكون العذر متأصل في الحادث وغير قابل للملاحظة – مثال لوم الشخص لأنه تأخر عن العمل، وإلقاء اللوم علي الزحام المروري – فإنه يمكن تجاهل هذه الالتماسات المتكررة وفقدانها المصداقية، وعلي هذا فإن الأعذار القائمة علي الحوادث قد تقبل، وتوضع في الاعتبار لأنها لا تحدث طول الوقت بالنسبة للفعل محل التساؤل.

ويرتبط النوع الثاني من الأعذار باستدعاء الدوافع البيولوجية، وهذا الاستدعاء يكون جزء من فئة أكبر وهي فئة “القوى الجبرية”، والتي تتحكم في بعض الأحداث لدي عدد من الثقافات بدرجة أو بأخرى، هنا يكون استدعاء الجسد واحتياجاته وعملياته المختلفة كعذر عن سلوك معين قام به شخص ما، هنا يمكن للغرائز والرغبات البيولوجية أن تؤدي علي الأقل إل بعض من السلوك الذي يكون بهدف التخلص من المسئولية الكاملة. مثال ذلك، عندما يخطأ المحاسب ويرجع ذلك إلي أنه لم ينم منذ الأمس، أو أن يبرر الطالب عدم وقوفه جيدا بطابور الصباح، لأنه يعاني من ألم بمعدته.

أما الشكل الثالث للأعذار، هو الميل إلي رفض الفعل أو إنكاره، أو التنصل منه، فهو موجود بسبب الاتفاق الشائع علي أن كل الأفعال تتضمن “عنصر عقلي”، ومكونات العنصر العقلي تكون المعرفة والإرادة، وهناك دفاع ضد الاتهام وهو أن الشخص الذي لم يتم إعلامه تماماً، أو أن إرادته لم تكن حرة بشكل مطلق(15). وبناء علي ذلك، يتنصل الفرد من المسئولية عن فعله، بادعائه أنه لم تتوفر لدية المعلومات المطلوبة، والتي إذا كانت قد توفرت له، كان سوف يغير من سلوكه. مثال ذلك : يسأل الأستاذ الجامعي طالبه الذي جاء متأخرا للمحاضرة، فيرد الطالب، بأنه لم يعلم بأن ميعاد المحاضرة قد تم تقديمه، أو أنه لم يعلم بتغيير مكان المحاضرة.

ويأتي “كبش الفداء”، وهو النمط الرابع من الأعذار، ومن خلاله يدعي الشخص أن سلوكه الذي يحتاج إلي تفسير، يكون بمثابة استجابة لسلوك واتجاهات شخص أخر، قد يمتلك عليه سلطة ما، مثال الأخ الأكبر الذي قد يجبر أخاه الصغير علي الإتيان بسلوك معين، يعرضه للعقاب أو المساءلة من قبل الوالدين، فما من الأخر الأصغر إلا أن يبرر هذا السلوك، بأن أخاه هو الذي أملي عليه ذلك، أو دفعه للقيام بهذا السلوك(16).

ثالثاً : المحددات الاجتماعية لقبول التبريرات أو رفضها:

تكشف مواقف الحياة اليومية عن إمكانية قبول التبريرات التي يدفعها الفاعل الاجتماعي أو رفضها، وفي حالة قبولها فإن ذلك يعد عمل صحي ومفيد بالنسبة للتفاعل الاجتماعي، كما أنه يؤشر علي علاقة اجتماعية متوازنة، وهناك عديد من المواقف اليومية التي يحث فيها أخطاء يتضرر منها الآخرين؛ مثال الصدامات الخفيفة أثناء السير في الشارع، وما إلي ذلك من مواقف تحدث فيبادر الفاعل الاجتماعي بتقديم الاعتذار (أنا أسف، لم أكن أقصد)، وفي هذه المواقف يبدو الاعتذار كافي، من أجل التغطية علي الفعل الخطأ.

في مثل هذه المواقف، يشعر الفرد بأن هناك شك بدأ يحيط بصورته، التي يهدف أن يقدمها للآخرين، ولذلك يبادر بالتبرير حتى يحفظ ماء وجهه، ويعيد التوازن لصورته الذاتية لدي الفاعلين الآخرين.

وهناك عدد من المحددات لمسألة قبول التبرير؛ منها خصائص السياق الاجتماعي، أو الفضاء الذي يقدم فيه التبرير، ومن المؤكد أن كل ثقافة وثقافة فرعية تتضمن مفردات روتينية للتبرير، ومن الممكن أن تكون هذه المفردات اللغوية قاصرة علي الدائرة أو الفضاء الذي تستخدم فيه، فمثلا مدمني المخدرات يمكن أن يبرروا سلوكياتهم أما بعض أقرانهم من المنحرفين، ولا يفعلوا ذلك أمام المحكمة، ومثال آخر، يمكن للأقارب والأصدقاء أن يقبلوا الأعذار، في المواقف التي يمكن أن يرفض فيها الغرباء هذه الأعذار(17).

كما أن التبرير المقدم بواسطة الأنا، وقبوله أو عدم قبوله من جانب الآخر، سوف يرتبط أيضا بتوقعات خلفية الأشخاص المتفاعلين، ومن خلال توقعات خلفية الآخرين المعرفية، يمكن الإشارة إلي مجموعة الأفكار والمعارف المسلم بها جدلا، والتي تسمح للأفراد المتفاعلين بتفسير التعليقات كتبريرات في المقام الأول. فعندما تسأل صديق ما :” لماذا أنت مكتئب؟”، فيمكن أن يرد قائلاً : “أن ذلك بسبب المشكلات الأسرية التي لديه”، وهذا التعليق يمكن استخدامه كتبرير، وبالفعل تبرير سوف يتم قبوله، فمن المفترض أن معظم الأفراد يعرفون أن المشكلات الأسرية يمكن أن تسبب الاكتئاب. وهذا التوضيح الأخير، يشير إلي أن تبريرات معينة قد تلائم مجموعة متنوعة من المواقف. (لماذا لم تتزوج؟، لماذا أنت تدخن بشراهة علي غير عادتك؟ لماذا لا تبدو علي طبيعتك؟)، هنا يمكن للفرد أن يرد : “أنا لدي مشكلات أسرية”، مع الوضع في الاعتبار أن الشخص الذي يقدم مثل هذا التبرير هو نفسه، قد لا يعتبر هذا التبرير صحيحاً أو واقعياً، ولكن استدعاء مثل هذا التبرير به ميزة أن الناس لا يستطيعون قول أنهم لا يفهمون مثل هذا التبرير، لأن مثل هذه التبريرات هي بمثابة جزء من معرفتنا المؤسسة اجتماعيا، والتي يعرفها كل شخص(18).

وقد يختلف تبرير الشخص في الموقف الواحد، باختلاف الدور الاجتماعي الذي يلعبه في الحياة الاجتماعية، أو باختلاف السياق، فالزوجة تستجيب بشكل عاطفي لاكتئاب زوجها، الناتج عن خسارة فريقه المفضل في كرة القدم، ولكن مثل هذا التبرير لا يكون مطروحا أو مقبولا عند رئيسه في العمل، الذي يسأله عن سبب اكتئابه.

ويرتبط قبول التبرير أو رفضه أيضا بالمظهر الخارجي للشخص الذي يقدمه. فعندما يبرر الشاب عودته متأخرا، بأنه تأخر في المذاكرة مع زميله، فإن الأب سوف يرفض هذا التبرير ويهزأ به، من خلال ملاحظته لأثار شجار علي هيئة الابن، فالمظهر الخارجي للشخص يمكن أن يعطي مصداقية للتبرير، أو يضع حول التبرير مزيد من الشكوك.

وعندما يتم عدم قبول التبرير، فإنه سوف يعتبر غير شرعي، أو غير معقول، أو غير صادق، ويؤشر ذلك علي أن خطورة الفعل أكبر من التبرير المقدم، أو عندما يقدم التبرير في سياق ما، حيث مفردات التبرير أو الدافع تكون غير مقبولة.

خاتمة :

حاول الباحث من خلال هذه الدراسة، إلقاء الضوء علي مفهوم التبريرات، من خلال الرؤية السوسيولوجية، خاصة وأن هذا المفهوم له أساس ثابت وصلب في علم الاجتماع المبكر، كما أنه يتناسب مع موضوع علم الاجتماع وأهدافه، وعلي الرغم من إهمال هذا المفهوم خلال الفترات السابقة، إلا أنه من المهم إعادة إنتاجه مرة ثانية، لأنه يمكن أن يقدم استبصارات مفيدة لفهم الخبرة البشرية، ولإلقاء الضوء علي جوانب عديدة من جوانب الفعل البشري، وممارسات الحياة اليومية.

هنا لابد علي علماء الاجتماع، تجاوز مرحلة الإهمال الواضح لموضوع “الكلام”، والتبريرات ما هي إلا نوع معين من الكلام والتفوهات، التي ينطق بها الفاعل الاجتماعي، في حال تعرض فعله للاستقصاء أو التقويم من قبل الآخرين، أو عندما لا يقبل الآخر هذا الفعل علي النحو الذي وقع به، مما يستوجب تقديم الدوافع التي أدت به للتصرف علي هذا النحو. ويجب علي التصور الحديث لدراسة مثل هذه الموضوعات أن يضع في الحسبان أن تكون وحدة التحليل هي “مجتمع الكلام”.

ويتشكل مجتمع الكلام من خلال التجمعات البشرية التي تدخل في صور التفاعل المتكرر المنتظم، ولا يقصد بمجتمع الكلام، المجتمعات اللغوية المتميزة باستخدام لغات مختلفة، كذلك لا يشير المفهوم إلي الجماعات التي تعتمد لهجة معينة. مجتمع الكلام هنا يرتبط بفكرة أنه يحدد للأعضاء الأشكال اللغوية الملائمة، بحيث يمكن استخدامها بين هؤلاء الأعضاء، ومثل هذه المجتمعات تكون موجودة، ومتضمنة في البنية الاجتماعية لأي مجتمع، ويمكن من خلالها التمييز بين قطاعات المجتمع، وأنماط مختلفة للأنشطة والممارسات الاجتماعية. فعلي سبيل المثال اللغة اليومية لمجموعة الأطفال الأحداث أو أطفال الشوارع، تختلف عن لغة الأخصائيين الاجتماعيين الذين يتقابلون معهم، وتختلف لغة مدرس مادة العلوم، الذي يشرح للطلاب كيف يتكون الماء، عن لغة مدرس الدراسات الاجتماعية، الذي يشرح خريطة العالم والموقع الجغرافي لقاراته.

 

 

 

 


المراجع :

  • Orbuch, People’s Accounts Count: The Sociology of Accounts, Vol. 23, 1997, P. 456.
  • John P. Hewitt and Randall Stokes, Disclaimers, American Sociological Review, Vol. 40, No. 1, 1975, P.2.
  • Orbuch, People’s Accounts Count: The Sociology of Accounts, Op. Cit, P. 456.
  • انظر في ذلك :
  • بهاء مزيد، من أفعال اللغة إلي بلاغة الخطاب السياسي : تبسيط التداولية، شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010م، ص 54.
  • نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009م، ص ص 19-20.
  • Wright Mills, Situated Actions and Vocabularies of Motive, American Sociological Review, Vol. 5, No. 6, 1940, pp. 904- 913.
  • Ibid, p. 904.
  • Ibid, p. 904.
  • Ibid, p. 907.
  • George Ritzer, ” Edited”, Encyclopedia of Social Theory, Sage Publications, California, 2005, Vol. 2, p. 872.
  • Marvin B. Scott; Stanford M. Lyman, Accounts, American Sociological Review, Vol. 33, No. 1, 1968, P. 46.
  • George Ritzer, ” Edited”, Encyclopedia of Social Theory, Op. Cit, P. 873.
  • انظر في ذلك :
  • Orbuch, People’s Accounts Count: The Sociology of Accounts, Op. Cit, P 457.
  • خالد كاظم أبو دوح، نظريات الشخصية وأنماط تحليلها : رؤية اجتماعية، مجلة أحوال مصرية، العدد (51)، القاهرة، يناير 2014م، ص ص 15- 26.
  • Orbuch, People’s Accounts Count: The Sociology of Accounts, Op. Cit, P. 458.
  • Marvin B. Scott; Stanford M. Lyman, Accounts, Op, Cit, P. 47.
  • Ibid, P. 48.
  • Ibid, P. 50.
  • Philip W. Blumstein, and others, The Honoring of Accounts, American Sociological Review, Vol. 39, No.4, 1974, pp. 551-552.
  • Marvin B. Scott; Stanford M. Lyman, Accounts, Op, Cit, PP. 52-53.