مجلة حكمة
الأثر الشاطبي في الفكر السلفي بالمغرب - عبدالجليل بادو

الأثر الشاطبي في الفكر السلفي بالمغرب – عبدالجليل بادو


يتناول موضوع هذا الكتاب الكشف عن صلة المغاربة بالإمام الشاطبي . إذ يساهم جهد الباحث في الجواب عن سؤال سبق أن طرحه الباحث المغربي سعيد بن سعيد العلوي، والذي يتصل بمدى امتلاك المدرسة الفقهية المغربية صور التمايز والاستقلال عن مثيلاتها في المشرق العربي.

ويبدو أن الدراسة التي بين أيدينا تعميق للسؤال نفسه ليظهر في صيغ تعبيرية نص عليها الباحث بقوله: “هل يمكن التحدث عن مدرسة سلفية مغربية متميزة؟ أليس الاتجاه السلفي واحدا ولا يمس الاختلاف فيه أسس التفكير ومنهجية المعرفة؟ كيف يمكن للسلفية أن تدعو لمبادئ وقيم المجتمع المدني؟ ما علاقة السلفية بالسلطة السياسة.

ولا شك أنها أسئلة يتطلب الجواب عنها خطة في المعالجة وأسلوبا في البحث. تترسم الخطة في تقسيم الكتاب من جهة، والتقديم له من جهة أخرى، وختمه من جهة ثالثة. فالكتاب ينقسم إلى قسمين: يتناول المؤلف في لأول منهما المنهجية الأصولية عند الإمام الشاطبي ، ويبين في الثاني منهما أثر تلك المنهجية في الدعوة السلفية بالمغرب.

ويتقدم القسمين مقدمة أشار فيها إلى مناسبة البحث في هذا الموضوع والتي تتجسد في فهم أسباب اتساع المسافة بين المجتمعات العربية الإسلامية وبين المجتمعات الغربية، فضلا عن استيعاب التغيرات الحاصلة في البنى الفكرية لمثقفي المجتمعات الأولى، كما أشار فيها إلى سبب اختياره للشاطبي والذي يرجع عنده إلى تميز سلفيته سواء في منظورها الديني الإسلامي أو في ممارستها الفكرية في الشريعة الإسلامية. ويختم القسمين بخاتمة عرض فيها المؤلف أهم خلاصات الكتاب وبفهرس لمراجعه وموضوعاته.

أما أسلوب البحث فقائم على تتبع كل من البناء الفكري الذي يميز سلفية الشاطبي والخطاب السلفي المغربي. وذلك بغرض فهم تطورات هذا الخطاب وفهم مطامحه بالإضافة إلى مراجعة بعض الأحكام والقناعات حول السلفية المغربية.

أولا: المنهجية الأصولية الشاطبية المقاصد، البدعة مفهومان أساسيان يحددان، كما يبدو بحسب الباحث، الإطار الفكري للمنهجية الأصولية عند الإمام الشاطبي .

1 ـ المقاصد:
كان مفهوم المقاصد موضوع الفصل الأول من القسم الأول للكتاب، والموسم بـ”المقاصد والمصالح”. انصب اهتمام المؤلف الأستاذ عبد الجليل بادو في هذا الفصل على أربعة مباحث:

1-1-مبحث التعليل بالمصالح:
يعرض فيه المؤلف لآرء الأصوليين في موضوع قبول أحكام الشريعة للتعليل أو عدم قبولها له. فالظاهرية تفوه، أما جمهور الأصوليين فعملوا به على اختلاف بينهم في مدلول المصلحة التي تعلل بها أحكام الشريعة.

تستحضر في إطار هذا الاختلاف أصول الفقه المالكي، لأن معنى التعليل المصلحي فيها “ليس مجرد الأخذ بالمصلحة المرسلة حيث لا ينص ولا قياس. بل هو استحضار المصلحة عند فهم النص وعند إجراء القياس فضلا عن حالات أعمال المصلحة المرسلة”.

والحق أن التعليل بالمصالح في فقه الشريعة لا يقتصر على فقهاء المذهب الملكي، لأنه عصب الممارسة الفقهية، إذا الفقيه الأصولي، مالكيا كان أو غير مالكي، عندما يدخل حقل الاستدلال، فإنه يدخله مسلحا بعدة من التعليلات ومتبصرا بأكثر ما يمكن من المآلات التي ينتهي إليها تنزيل الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال الناس المختلفة. ولا يسع القارئ هذا المبحث إلا أن تستوقفه الطبيعة معالجة المؤلف لثلاث مسائل:

المسألة الأولى وتتعلق بنسبة إنكار التعليل إلى الإمام الرازي. والباحث هنا تابع دون تحقيق ما ذكره الشاطبي في قوله:

“وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك”. وظاهر من كتابات الرازي الأصولية عدم إنكار للتعليل، والأولى هو نسبة الأفكار إلى ابن حزم.

المسألة الثانية وتتصل بتمييز المؤلف في أصول المالكية بين العقل والنقل. ويبدو أنه آن الأوان لنجعل مثل هذا التمييز في محل نظر لأن أصول الفقه، أيا كان انتماؤها المذهبي والعقائدي أصول إنشائية يبنيها الفقيه الأصولي في ممارسته تبعا لمنطلقات فلسفية محددة واعتمادا على طرائق استدلالية مخصوصة، يتضافر على تشكيلها معارف مختلفة مما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعقل من استدلال. قال الشاطبي:

“إن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل”.

المسألة الثالثة وترتبط بغياب تحليل معنى المصلحة، لأن التساؤل عن كيفية اعتبارها أصلا من أصول الأحكام يقتضي ضبط مفهومها وتحليل تعريفها عند الأصوليين.

إن من شأن ذلك إبراز مدى سلفية الشاطبي في المصلحة، “بيت القصيد في مقاصد الشريعة”.
ولعل هذا الغياب هو الذي أدى بالباحث إلى الحديث عن موقع المصلحة في أصول الفقه المالكي، ولا يلغي ذلك لأننا بصدد الكشف عن خصوصية الأثر الشاطبي في الفكر السلفي المغربي.

1-2-مبحث الاستصلاح بين العقل والنقل:
تتكون المادة العلمية لهذا المبحث من العدة الأصولية التي حررها الإمام الغزالي في موضوع “الاستصلاح” من خلال كتابه المستصفى من علم الأصول النقل، كما يتجسد في الكتاب والسنة بالإضافة إلى الإجماع، والعقل كما يتحرر في المنطق الأرسطي، كلاهما دليلان قطعيان لأنه يمكن تبين الخطأ الحاصل فيهما، إما عن طريق تصحيح ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما عن طريق تقويم ما عقل من استدلال لأن من لا يحيط بالمنطق الأرسطي “فلا ثقة بعلومه أصلا”. وعليه فكل استدلال مبني على هذين الدليلين فهو استدلال قطعي لا مجال للاختلاف فيه، لأنه يتعلق بالنوازل المنصوصة في النقل.

أما حين يتعلق الاستدلال الفقهي بالنوازل غير المنصوصة فهو استدلال ظني يختلف فيه المجتهدون تبعا لتنوع استصلاحاتهم، قال الإمام الغزالي: “المختار عندنا […] إن كل مجتهد مصيب، وإنما ليس فيها حكم معين لله تعالى”. يتبين من هذا الاختيار الأصولي الذي جنح إليه الغزالي ظنية الاستصلاح بسبب الاختلاف الحاصل في الفقهيات، لذا كان عنده مجرد حجة لا ترقى إلى درجة الدليل القطعي الذي يقطع دابر الاختلاف.

1-3-مبحث السلفية والاستصلاح:
يعرض المؤلف في هذا المبحث الموقف السلفي من الاستصلاح. ويعد انب تيمية في نظره الشاهد الأمثل في بيان ذلك. موقف لا ينفصل عن السياق العام للمذهب الحنبلي الذي يعتبر الدين كله لله، وأن الإنسان ما خلق إلا ليعبده، إذ هنا تكمن مصلحته، سواء استطاع أن يدركها أو لم يستطع ذلك، وعليه يفهم كلا استصلاح بحسب ما نبهت إليه النصوص الدينية الإسلامية.

1-4-مبحث تطور مفهوم الاستصلاح عند الشاطبي:
لا يريد الشاطبي أن يظل الاستصلاح حجة ظنية، بل يريد تطويره ليصبح دليلا مستندا إلى القطع، وطريق ذلك ربطه بكليات الشريعة وبمكملاتها الثابتة بالاستقراء. فدليل الاستصلاح القائم على كليات الشريعة. كمقدمات، يستحيل رفض نتائجه مع اعتبارها. ومن ثم فإن تطوير مفهوم الاستصلاح يقتضي بيان كيفية بناء الدليل الشرعي عند الشاطبي .

الدليل عند صاحب الموافقات إما إجمالي يقوم على كليات الشريعة، ومن ثم يشترط في كل استدلال “وضعه في سياق الشريعة ككل انطلاقا من مبادئها الكلية القطعية المعتمد عليها في استنتاج الأحكام”. وإما دليل تفصيلي يتجسد في منقولات الشريعة التي يشكل القرآن الكريم عمدتها.

إن مقصود الشارع من منقولاته لا يتحصل في تأويلها وتفسيرها في استقلال بعضها عن البعض الآخر، بل يتحصل التأويل والتفسير في ارتباطاتها البيانية، والقول في ذلك، كما بين الشاطبي: “والله المستعان إن المسافات تختلف باختلاف الأحوال والأوقاف والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان”.

حاصل القول أن منشأ تطور مفهوم الاستصلاح كنوع من أنواع الاستدلالات الشرعية قيامه على كليات الشريعة، التي تكيف الاجتهاد في كل دليل شرعي. هذا هو الاجتهاد عند الشاطبي ، لكن هل يعتبره حكما بالقطع، انطلاقا من مدلوله لأصول الفقه، كما ذهب إلى ذلك باحثا؟ وهل يمكن اعتبار الإمام محمد الطاهر بن عاشور استمرار لتفكير الشاطبي في الشريعة.

1-4-1-القطع في نتائج الاجتهاد عند الشاطبي:
الاجتهاد كتفكير علمي في الشريعة، لا تتصف نتائجه بوصف القطع، إذ المعتبر فيه دائما هو الظن الغالب أو الاعتقاد الراجع. فعلى التسليم بقطعية مقدماته، المتمثلة عند الشاطبي في كليات الشريعة المنصوصة أو الثابتة بالاستقرار، فإن الاجتهاد في تنزيلها على النوازل مما يختلف فيه المجتهدون. ومن ثم لأوجه لمماثلة الاستدلال الفقهي بالاستدلالات القائمة على بديهيات الهندسة.

يدعو هذا النظر إلى التبصر بحدود مدلول القطع عند الشاطبي ، وذلك من جهتين: جهة مقدمات الاستدلال، وجهة المستدل بها. يبين الشاطبي أن مقدمات الاستدلال ليست كلها قطيعة، لأن في كل دليل شرعي مقدمتان، إحداهما نقلية. وهي القطيعة لأنها مسلمة، والثانية نظرية، لما كانت راجعة إلى تحقيق مناط الأولى لا نظفر فيها إلا بالظن الراجح، فعلى سبيل المثال لئن تبين المجتهدون المعنى الشرعي للعدالة فإنهم يختلفون في “تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا”

أما مدلول القطع من جهة المستدل فلا يشمل كل المستدلين، بل ذلك مقتصر على المجتهد الواحد الذي لا يصح له التنازل عن النتائج اجتهاده إلا عند قيام الدليل، ولا يستغرب المرء ذلك قواعده من جهة وبقدراته العلمية من جهة ثانية وبطبيعة مجال الاجتهاد المعتبر عند الشاطبي من جهة ثالثة.

يكشف التبصر محدود مدلول القطع عند الشاطبي ، المغزى المنهجي لدلالته، لا القطع الوثوقي لنتائجه، إذ المقصود من تأصيل الاجتهاد على مقاصد الشريعة منحصر في اتخاذها قواعد للمراجعة المستمرة والنقد الدؤوب، وهنا تستحضر الأطروحة القائلة بـ”العلاقة الجدلية بين الوعي بالانحطاط وضرورة الانعتاق منه، وبين التفكير في المقاصد الشرعية […] في موقف الجويني و الشاطبي ولدى الحركة السلفية والإصلاحية العربية الحديثة أيضا”.

1-4-2-التفكير في الشريعة بين ابن عاشور و الشاطبي:
الإمام محمد الطاهر بن عاشور “سفير الدعوة الإصلاحية” بحسب تعبير الإمام محمد عبده، لا يمكن اعتباره في نظر باحثنا الكريم استمرار لتفكير الشاطبي “لأن القول بمقاصد الشريعة والبحث في مسالك الكشف عنها وتوظيفها في بعض الاجتهادات لا يعني بالضرورة أنهما يعتمدان على نفس البنية الفكرية، ذلك أن ابن عاشور رغم الجدة: “وقد حاولت أن أجد قاعدة فقهية لم ترد عليها استثناءات فما وجدت غير العكس بما في القواعد القطيعة”. أحمد الريسوني، نظرية التقريب والتغييب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية، ط1، 1993م مطبعة مصعب، ص112.

3 ـ تؤكد التجربة عند الشاطبي “أن الإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما، لا يأتي عليه زمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن يعقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك من قبل” الاعتصام، تحقيق محمد رشيد رضا، مكتبة الرياض، 2/322.

4 ـ قال الشاطبي: “مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضع في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر”، الموافقات 3/155.

5 ـ عبد لمجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام ط1، بيروت، لبنان 1994م، دار المنتخب المري، ص402. التي تميز بها تفكيره ظل حريصا على الالتزام بالمنهج الأصولي الذي يميز في استدلالاته بين النصوص القطعية والنصوص الظنية وهذا ما لا يعتمده الشاطبي في نظرته للدليل […] إذ لا يأخذ صبغة الدليل عنده إلا ما يقوم على القطع”.

ويبدو من تقويم كهذا، تضمنه قدرا من التسرع لأنه لم يقف طويلا، لا على يوحد الاهتمام النظري لكل من الشاطبي وابن عاشور، وعلى أرز مطلب علمي للإمام ابن عاشور في الشريعة وعلومها. معالجة ظاهرة الاختلاف في الفقه وأصوله هي ما يوحد تفكيرهما في الشريعة، كما يتبين من مقدمات الموافقات ومقاصد الشريعة الإسلامية. ففي مقدمة الموافقات ينبه الشاطبي القارئ إلى تمحور جهده العلمي حول محورين: أحدهما التمييز بين المشهور والشاذ في الشريعة والثاني بيان مراتب المكلفين بها، مجتهدين أو غير مجتهدين، لذا لا نستغرب تذكير الشاطبي في آخر كتابه إلى أن في أثناءه “علم يذهب به مذاهب السلف ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر في اختلف”.

أما ابن عاشور فإن معالجة هذه الظاهرة سبب جوهري في تأليف هذا الكتاب، يبدو ذلك في أول صفحة من صفحاته: “دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذا كانوا للاينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبه عليه”.

يأتي في هذا السياق النظري مطلب بناء علم مقاصد الشريعة، معيارا نقديا لمسائل الفقه وأصوله ومنجما طافحا بـ”أشرف معادن مدارك الفقد والنظر(4)، كما قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور، الذي أكثر خدمة لهذا المطلب العلمي، من انتقاد الشاطبي ، من ذلك اعتباره أدلة الشاطبي على منع الضرر” أدلة جزئية، والدليل العام منها، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” هو خير آحاد، وليس بقطعي النقل عن الشارع، لأن الستة غير المتواترة ليست قطعية”.

لا ينطلق ابن عاشور من مجرد قطيعة النص الشرعي، متنا وثوبتا، كما يستفاد من زاهر هذا النقد، بل ينطلق انتقاد ابن عاشور أيضا من القطع التي تدل عليه نصوص الشريعة في ارتباطاتها البيانية، لأن طرائق إثبات مقاصد الشريعة تنحصر في الاستقراء والنص بالمعنى الأصولي والتواثر معنويا كان أو عمليا.

والمستخلص من مباحث فصل المقاصد والمصالح انشغال الباحث فيها بضبط علاقة مفهوم المقاصد بكل التعليل والاستصلاح سواء من حيث مرتبته بين الاستدلالات الشرعية أو من حيث موقف السلفية منه. وقد غاب في هذا الانشغال ضبط مفهوم المقاصد الذي يشكل الأساس الموضوعي للتعليل والاستصلاح.

2 ـ البدعة:
البدعة، هي موضوع الفصل الثاني، تناولها الباحث في ارتباطها بالاجتهاد في الشريعة والتحديث في المجتمع.

2-1-البدعة والاجتهاد في الشريعة:
يتطلب الاجتهاد اتصاف المجتهد بوصفين: وصف “فهم مقاصد الشريعة على كمالها” الذي يستلزم الانطلاق من كليات الشريعة، ووصف التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها من جهة، وبناء على وعيه بخصوصية النازلة في عصر من الأعصار وفي مجتمع من المجتمع في تقاليد وأعرافها وعاداتها من جهة أخرى.

وعليه يعتبر بدعة كل اجتهاد ينتفي فيه أحد الوصفين أو هما معا، لذا يعرف الشاطبي البدعة بقوله: “طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية”. لكن امتناع الاختراع ليس مطلقا، لأن له حدود يوضحها تقسيم الشريعة إلى عبادات ومعاملات.

ففي قسم العبادات يمنع الاختراع مطلقا لأنها تعبدية، أما في قسم المعاملات فيمز الشاطبي بين مجالين: مجال الكليات الذي لا يقبل الابتداع، وهو الذي ينطبق عليه تعريف البدعة، ومجال تنزيل تلك الكليات، والذي يتجسد في شؤون الدنيا المستحدثة. لا ينطبق تعريف البدعة على هذا المجال بشرط المحافظة على الكليات منصوصة كانت أو مستقرأة.

ومن ثم فإن كل تفكير في الشريعة يناقض العبادات وكليات شريعة المعملات، منصوصة كانت أو مستقرأة، فهو بدعة حقيقية، أما البدعة الإضافية عند الشاطبي فلها “شائبتان إحداهما لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية”.

فعلى سبيل المثال لا يعد الاجتهاد في تعيين الفرقة الناجية، والذي اختلف فيه اختلافا كثيرا، بدعة حقيقة، لأن الفرق المختلفة، كما قال الشاطبي “إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات”. وقد أدرك الباحث في هذا السياق ما يكشف عنه الموقف الشاطبي من تسامح ما يكشف عنه الموقف الشاطبي من تسامح مبني على الوعي باختلاف مسلمات النظر والعمل عند الأصوليين.

2-2-البدعة والتحديث في المجتمع:
تتقيد مشروعية التحديث في المجتمع بعدم السقوط في مهاوي البدعة، كما تقرر معناها في مجال المعاملات. فالتحديث المجتمعي بقدر ما يرتبط ببنيات المجتمع ومؤسساته التي قد تتغير بحسب تطور أنماط وجوده ترتبط أيضا خلفياته الفكرية ولوازمه الأخلاقية بالقيم والمعتقدات. وفي هذا الارتباط يتأسس التحديث على اجتهاد في شريعة المعاملات ينطلق من كلياتها، أسس للاستنتاج.

والملاحظ من حديث الباحث عن البدعة في تفكير الشاطبي تغييبه للبعد القيمي في التحديث المجتمعي، والذي يشكل تناقضها مع كليات الشريعة منشأ مهما في البدعة المتعلقة بالمعاملات، المعاملات التي تختلف بحسب الأزمان، والتي في التزام شكل واحد فيها تعب ومشقة “لاختلاف الأخلاق والأزمنة والباقع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه”(5).

والحاصل من القسم الأول لهذا الكتاب انصراف اهتمام الباحث فيه إلى جانب من الجوانب الفلسفية للمهجية الأصولية عند الشاطبي ، كما يبرزها كل من مفهوم المقاصد ومفهوم البدعة، ولم يهتم كبير اهتمام بجوانبها الإجرائية. فالمنهجية الأصولية سواء عند الشاطبي أو عند غيره من الأصوليين بقدر ما هي فلسفة في المعرفة الفقهية هي أيضا طريقة في العمل الفقهي.

ثانيا: الدعوة السلفية في المغرب.
يتناول الباحث في هذا القسم الدعوة السلفية في المغرب من خلال الفصول الآتية:

1 ـ فصل مشروع الدولة السلفية في المغرب:
عرض المؤلف في هذا الفصل أوليات مشروع الدعوة السلفية وسياستها في الإصلاح. تتحدد الأوليات في كل من المواقف النقدية والانشغالات العملية للسلطان محمد بن عبد الله 1757م-1789م، مواقف وانشغالات تحرص على الوحدة.

أما السياسة فتتميز بطابع ديني في الإصلاح، وذلك في عهدين: عهد السلطان المولى سليمان الذي صرف مجهوده إلى حسم مسألة الحكم، فلم يقدر، بسبب الحروب والفتن التي أعقبت وفاة والده، على المتابعة العملية لأوليات المشروع السلفي. قامت السياسة الدينية في عهده على استغلال نفوذ الطرقيين تارة، وعلى توظيف الوهابية للحد من نفوذ الطرقيين تارة ثانية، وعلى حمل علماء المغرب على الرد على الوهابية تارة ثالثة.

أما في عهد السلطان عبد الرحمن بن هشام، 1828-1838م، فقد اتجهت السياسة إلى تحقيق الوحدة ومجابهة الأطماع الأجنبية، خاصة بعد السيطرة الفرنسية على الجزائر(1830م). والحاصل من المشروع السلفي أن تطبيقه الواقعي سبقه وقارنه ولحقه وضع مجتمعي مغربي ضعيف استلزم، كما يقول الباحث: “مراجعة الذات فاضطرت للإقرار بالضعف أمام الأجنبي “الكافر” عسكريا وسياسيا وعلميا، وهي مجالات لا تنفصل عن بعضها، حين أدركها العقل الفقهي أخذ يجتهد في شأنها فقامت الدعوة للإصلاح والتحديث”.

2 ـ فصل الإيديولوجية السلفية بين النصوص والأصول:
تنحصر المرجعية الأساسية لكل سلفية في محاربة البدع من أجل تنقية العقيدة الإسلامية، إلا أن أصحابها يختلفون في الجواب عن السؤال الآتي: “كيف يمكن الاحتفاظ بالمرجعية الأصلية مع قبول الإصلاح والتحديث”.

يميز الباحث في ذلك بين سلفيتين: يصطلح الباحث على تسمية الأولى بـ”سلفية النصوص”، ويصطلح على تسمية الثانية بـ”سلفية الأصول”. سلفيتان يبرز الاختلاف بينهما في المنطلقات النظرية وفي الأساليب الإجرائية.

فإذا تجسد المنطلق النظري لسلفية النصوص في الوقوف عند مدلول النص، فإنه بالنسبة لسلفية الأصول يتجسد في المزاوجة بين كليات الشريعة وبين التبصر با انتهى إليه الواقع المجتمعي عند الأجانب والمغاربة على حد سواء. وإذا كانت الأساليب الإجرائية لسلفية النصوص راجعة إلى “التفسير والتأويل والتعليل”. فإنها عند سلفية الأصول راجعة إلى “الاستقرار والاستدلال والاستنباط”.

وقد قدم الباحث في هذا الباب جملة من الأمثلة التطبيقية لهذه السلفية، وهي تفكر في قضايا المكس والوسق والجهاد والبدعة. فعلى سبيل المثال يعتبر أحمد بن خالد الناصري الدعوة إلى الجهد فتنة. اعتبار بقدر ما يلتزم بالمعنى الشرعي للجهاد يتبصر أيضا بواقع خال أهله، المطالبين بتنفيذه. فالجهاد في معناه الشرعي “قتال أهل الشرك والطغيان على إعلاء كلمة الرحمن لينساقوا بذلك إلى الدخول في دين الله طوعا أو كرها. ولتكون كلمة الله هي العليا ولكمة الشيطان هي السفلي مع نفاذ البصيرة وخلوص النية والغيرة على دين الله، وكل ذلك بشرط القوة المكافئة أو القريبة منها، ومهما اختل ركن أو شرط مما ذكرناه كان إلى الفتنة أقرب منه إلى الجهاد”.

أما واقع حال المسلمين، ومنهم المغاربة، فهو الضعف والعجز، لذا من مصلحتهم الجنوح إلى السلم مع العدو الكافر “لا الدخول معه في المقاتلة والمحاربة. طريقة الناصري في التفكير هنا، بقدر ما تنطلق من كليات الشريعة، المحافظة على المصلحة العامة،تنبصر أيضا بالمقتضيات الواقعية، وتلك صورة من صور حضور الشاطبي في مواقف وأفكار المغاربة، مثل الناصري الذي كان بحسب الباحث مدركا لـ”طبيعة النباء الفكري لأبي إسحاق الشاطبي ومنهجيته الأصولية المتميزة”.

والمستخلص من واقع الدعوة السلفية في المغرب هو التطور الذي يميز حركتيها، فمن الطموح إلى الوحدة العقائدية والسياسية إلى الدعوة إلى الحفاظ على السيادة “ثم الدعوة للتجديد في الدين والتحديث في الدنيا، ولو في ظل الاستعمار”، كما يتبين من الخطاب الفكري الذي حرره فريق من الفقهاء. كابن المواز والحجوي، وذلك هو موضوع الفصل الثالث من هذا القسم.

3 ـ فصل تطور الدعوة السلفية:
يبين الباحث في هذا الفصل جواب الفقيه الحجوي عن سؤال صاغه في قوله: “كيف السبيل لتطوير العقل الفقهي وتجديده من أجل قبول التحديث؟”

السبيل إلى ذلك عند الحجوي هو النهوض بمظاهر الحياة الدنيوية التي أجلها العلوم”، وفي ذلك يقول: “ويظهر لي أن نذرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة الإسلامية في العلوم وغيرها. فإذا استيقظت من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت مظاهر حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل العلماء الدنيا من طبيعات ورياضات وفلسفة وظهر المخترعون والمتكشفون والمبتكرون كالأمم الأوروبية والأمريكية الحية. عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون”.

يبدو من هذا السبيل ما يستلزمه من اجتهاد يقوم به علماء الشريعة في إصابة روحها حسب ما يوافق الأدلة ويناسب روح العصر والوقت والحال والمكان والضرورة. فالشريعة الإسلامية، شريعة مصالح وحقوق وحرية وعقل، وكلها أوصاف تحمل المجتهد على سبر أسرارها من أجل القياس عليها عند استنتاج الأحكام، خاصة في باب المعاملات المتغيرة.

ذلك هو المنطلق الذي تحكم في تفكير الحجوي في قضايا التعليم والسفور والتجارة منطلق يجعل الخطوة الأولية في تطوير الممارسة الفكرية عند الفقهاء النهوض بالدنيا وبعلومها، والذي سيحفز همم الفقهاء في المتابعة والمواكبة التي بقدر ما تلتزم بقطعيات الشريعة الثابتة تلتفت وباستمرار، إلى قيمها في اليسر ورفع الحرج عن الناس.

فعلى سبيل المثال يقتضي التعامل التجاري الحديث اعتماد التأمين، وهو “كالتبرع الاكتتابي يوضع في صندوق احتياط وتوفير”. يقيس الحجوي هنا التأمين على التبرع انطلاقا من كلية المحافظة على المال التي أجمعت عليها الملل والنحل.

اصطدم مثل هذا الطموح الفقهي المغربي بأهداف الاستعمار التي تبينها تبينا تاما أقطاب السلفية في عهد الحماية. كابي شعيب الدكالي ومحمد بلعربي العلوي والمختار السوسي وعلال الفاسي. يسعى خطاب هؤلاء، كما قال الباحث، إلى جعل “معطيات الذات لا تتعارض مع معطيات الواقع”، وذلك هو موضوع الفصل الأخير من هذا الكتاب.

4 ـ فصل الفكر المقاصدي الجديد:
يتناول هذا الفصل الممارسة الفكرية عند علال الفاسي من خلال المباحث الآتية:
مبحث الاجتهاد بالمقاصد الذي خرر عدته الفكرية علال الفاسي في مؤلفات متعددة. في طليعتها النقد الذاتي ومقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها.

ومبحث السلفية الجديدة التي تزاوج في تفكير علال الفاسي بين المجهود الفردي فإصلاح المجتمع وبين الاستعداد الذهني المواكب للتطور المجتمعي. وهذه المزاوجة هي منشأ ارتباط السلفية بالوطنية من جهة وبالفكر النقدي من جهة أخرى.

مباحث يستخلص أثناءها الباحث عناصر الجدة في سلفية علال الفاسي، مثل الدعوة إلى التفتح الذهني، واعتماد الفكر المقاصدي، والانطلاق من كليات الشريعة والربط بين الإصلاح الديني والإصلاح المجتمعي…

مجمل القول في شأن الدعوة السلفية بالمغرب تجسدها في مشروع مجتمعي يلح على فكرة الوحدة. السياسة فيه ذات لبوس ديني، والأوليات فيه الفكر النقدي، والإصلاح الديني والتعليمي هو محور اشتغالاته. مشروع فشل في تطبيقه بسبب واقع الضعف الذي ميز المجتمع المغربي الحديث في مقابل واقع “القوة” الذي انتهى إليها تطور المجتمع الأوروبي. وقد استلزم ذلك الدعوة إلى الإصلاح وتحديث بنيات المجتمع كالإدارة والجيش، وهي دعوة سلفية ميز الباحث فيها بين سلفيتين: أحدهما سلفية النصوص، والثانية سلفية الأصول التي حول الباحث أن يلتمس فيها أثار تفكير الشاطبي في الشريعة.

والحاصل من عرض هذه الدراسة انشغال صاحبها بعمليتين:
عملية تحديد الإطار الفكري الذي يكيف جانبا فلسفيا مهما في طريقة فقه الشاطبي للشريعة. وقد ركز الباحث في تجلية ذلك على مفهومين:

*مفهوم المقاصد في العلاقة بالتعليل وبالاستصلاح
*مفهوم البدعة في ارتباطه بالاجتهاد في الشريعة وبالتحديث في المجتمع.
وعملية البحث عن أثر ذلك الإطار في الفكر السلفي بالمغرب. وقد تجسد ذلك في المظاهر الآتية:
ـ إمكانية اعتبار السلطان محمد بن عبد الله استئنافا لسلفية الشاطبي .
ـ التمييز في السلفية المغربية بين سلفيتين: “سلفية النصوص” تلتقي مع السلفية المشرقية. و”سلفية الأصول” تعتمده العدة الأصولية التي حررها الإمام الشاطبي ، وبتلك الإمكانية وبهذا التمييز يمكن الجواب عن بعض أسئلة هذه الدراسة فليس الاتجاه السلفي المغربي واحدا بل هو متعدد لأن الاختلاف فيه يمس الفقيه وأسلوب تفكيره في القضايا والنوازل الطارئة، وبذلك يمكن البحث عن عناصر التميز في السلفية المغربية.

ـ ارتكاز سلفية الأصول على رؤية تزاوج بين الانطلاق من كليات الشريعة وبين التبصر بمآلات الواقع المجتمعي، وعلى أسلوب يعتمد الاستقراء والاستدلال والاستنباط، وفي هذا المظهر ما يمكن السلفية المغربية، بحسب الباحث، من الدعوة لمبادئ وقيم المجتمع المدني من جهة، وما يكشف عن علاقتها بالسلطة السياسية بالمغرب الأقصى من جهة أخرى.

مجلة الجابري – العدد الثالث / مراجعة: إسماعيل الحسني


مراجع القراءة:
أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، ط1954م البيضاء، دار الكتاب.
أحمد الخمليشي، وجهة نظر، ط1، 1988م البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة.
أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عقد الإمام الشاطبي ، ط1، 1991، الرباط، دار الأمان للنشر.
ـ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية، ط1، 1993م، مكناس، مطبعة مصعب.
سعيد بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث: دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، ط1، 1992م، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي.
الشاطبي ، أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، ط2، 1975م، بيروت دار المعرفة.
الاعتصام، تحقيق رشيد رضا، مكتبة الرياض، بدون تاريخ.
عبد المجيد الصغير: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، ط1، 1994م، بيروت، دار المنتخب العربي.