يعالج كريغ برايان الشخصيات العسكرية التي تعاني من فكرة انهاء حياتهم بأنفسهم، كما يعالج ايضا الناجين من محاولات الانتحار، وهي المشكلة التي تفاقمت فاصبحت معركة شاقة بالنسبة له.
وحيث ارتفعت معدلات الانتحار في الولايات المتحدة خصوصا بين المقاتلين القدامى واعضاء القوات المسلحة، ولم تساعد النظريات القديمة عن لم قد يقدم الانسان على الانتحار في الوصول الى وسائل وقاية ناجحة بحسب راي برايان. وقف مجموعة من الاطباء النفسيين على اعادة دراسة المفاهيم الاساسية عن ماهية الاسباب التي قد تقود شخص ما لارتكاب اقصى افعال تدمير النفس، الانتحار.
” في العقد الماضي، بزغ فجر توجه جديد في دراسة الانتحار” هذا ما صرح به برايان، الطبيب النفسي في جامعة يوتاه في مدينة سولت ليك. ويعد توماس جوينر -الطبيب النفسي في جامعة فلوريدا ستيت بمدينة تلاهاسي الامريكية- هو ملهم هذا التحول وذلك بسبب مقدمته التي نشرت في عام 2005 عن نظرية الصفات الشخصية والانتحار، حيث فصل في نظريته بين التفكير بالانتحار وبين الاقدام عليه فعليا من حيث تفسير كل منهما وعوامل الخطورة المسببة ايضا، وهو ما يخالف ما كان سائدا من قبل. وبذلك انطلقت العديد من الابحاث المبنية على تصور جوينر من قبل عدة باحثين من ضمنهم برايان.
وتطرح احد توجهات هذه الابحاث بأن هناك ثلاث عوامل مؤثرة قد تساهم في انتقال بعض الافراد من مجرد التفكير بالانتحار الى محاولة ارتكابه فعليا، العوامل الثلاثة المقصودة هي: عامل وراثي يجعل هؤلاء الافراد اكثر تحملا للالم الجسدي،والتعرض لتجارب شخصية سيئة سببت ازدراء للذات، والعامل الاخير هو سهولة الحصول على الاسلحة والادوات القاتلة.
ويبدو ان هذه العوامل الثلاث قد اثبتت صحتها حتى ضمن الشخصيات العسكرية، فقد اظهرت الدرسات الحديثة ان الجنود المقاتلين يمتازون بشجاعة مطلقة واحساس شبه معدوم بالالم الجسدي وهي خصال شخصية يمتلكونها حتى قبل انضمامهم للقتال. وهذة الخصال التي حثت حامليها على الانضمام الى القتال طواعية هي نفسها التي قد تزيد من نسبة محاولاتهم للانتحار اذا اثارت الحرب شعور عارما بالذنب والعار.
نظرة جديدة
انخفضت معدلات الانتحار في الولايات المتحدة بين العامين 1986 و 2000 الى 10.4 حالة وفاة لكل 100000 بعد ان كانت 12.5، ولكن عادت بعدها لترتفع بشكل متزايد وثابت حتى كسرت حاجز 12.6 حالة وفاة في العام 2013، وهو ماحث الباحثين – بالاضافة الى غياب الاجراءات المقابلة للارتفاع- الى اعادة دراسة نظريات الانتحار القديمة الموجودة في الكتب.
قبل قرن من الزمان، طرحت عالمة الاجتماع ايميلي دوركيم فكرة مفادها هو ان تلاشي العلاقات الشخصية وانقطاع الروابط بين الفرد ومجتمعه هو سبب حتمي للانتحار، فيما طرح اخرون أن من يقدم على قتل نفسه يعاني من ألم لا يطاق ، او احساس باليأس، بالاضافة الى الاكتئاب والامراض العقلية الاخرى، لكن الامر اعمق من ذلك بكثير، فقد ثبت بأن ليس كل من فكر بالانتحار سيقدم بالضرورة على ارتكابه، حيث قدّرت دراسة في عام 2008 بأن لكل ثلاثة اشخاص فكروا بالانتحار، يوجد شخص واحد فقط أقدم عليه.
وبحسب نظرية جوينر، من الممكن للمشاعر السلبية التي قد يحملها الفرد- كأن يعد نفسه عبء على الاخرين- ان تجلب افكارا انتحارية، ولكن قتل النفس امر قاسي ومخيف حتى بالنسبة لهؤلاء الذين يعتبرون انفسهم حملا زائدا على الاخرين، واضاف ان الاقدام على فعل مماثل يتطلب التغلب على غريزة البقاء، وقدرة كبيرة على تحمل الالم الجسدي، بالاضافة الى انعدام الخوف من الموت، وهو ما قد يتوفر في الانسان الذي يمر في تجارب حياتية قاسية.
لاقت افكار جوينر رواجا واسعا بالتزامن مع ربط مستويات معينة من الاكتئاب والامراض العقلية الاخرى كمؤشرات واضحة للاقدام على الانتحار.
وهذا الفصل بين الفكرة والفعل ظهر في دراسة تعود الى عام 1999 عندما عثر عالم الامراض النفسية رونالد كسلر في كلية الطب بجامعة هارفرد على تصريح بافكار انتحارية من المشاركين في الاستبيان الذي اجري على مستوى البلاد للامراض النفسية للمصابين بالاكتئاب وامراض نفسية اخرى، وهي معلومات لم تكن موثقة في سجلات محاولات الانتحار.
ومنذ ذلك الوقت اظهرت الدراسات ان الامراض العقلية بالاضافة الى عاملين اخرين يطلق عليها عوامل الخطورة- الشعور باليأس والتصرف بشكل غير متوقع ومفاجئ- تعد مؤشرات ضعيفة عن ما اذا كان الفرد قد حاول الانتحار او سيقدم عليه في الايام او حتى الاشهر القادمة كما صرح به ديفيد كلونسكي من جامعة بريتيش كولومبيا في فانكوفر بعد ان اشرف بنفسه على عدة دراسات في هذا المجال.
مستنيرا بنظرية جوينر، قدّم كلونسكي مع زميله الكسيز ماي نظرية الخطوات الثلاث نحو الانتحار في مجلة الانترناشونال العلمية للعلاج الادراكي.
في الخطوة الاولى، يتحد الشعور بالالم الجسدي والمعنوي مع الشعور باليأس لتحفز ظهور الافكار الانتحارية، وتظهر هنا اهمية الاكتئاب وعوامل الخطورة الاخرى كونها تزيد الشعور بالالم واليأس كما قال كلونسكي.
ثانيا، أشار كلونسكي وماي الى ان عدم وجود روابط اجتماعية او اهداف حقيقية في حياة الفرد تشعره بالاهمية قد يزيد من حدة الافكار الانتحارية.
اخيرا وبالاتفاق مع نظرية جوينر، ذهب الباحثون الى ان الانتحار يحدث فقط بين اولئك الذين لديهم القدرة على التغلب على الخوف من الموت بالاضافة الى انخفاض احساسهم بالالم – وهي تعد صفة جينية بحسب الدراسات التي اجريت على الحيوانات التي تشترك مع البشر في التركيب الجيني.
وقد اجرى كلونسكي وماي مسحا الكترونيا لدعم نظرية المراحل الثلاث على عينة تتكون من 910 مواطن امريكي تتراوح اعمارهم ما بين 18 وحتى 70. وبحسب الباحثين، كانت الشريحة البالغة 27% من المشاركين والذين صرحوا بانه سبق لهم التفكير بالانتحار اختبروا مستويات عالية من الشعور بالالم واليأس، أما الشريحة التي خرجت نتائجها بأنه لم يسبق لها التفكير مطلقا بالانتحار حتى لو مروا بظروف قاسية ولحظات يأس، اشاروا الى صداقات و علاقات اجتماعية جيدة في حياتهم بالاضافة الى المشاركة في أنشطة يعتبرونها ذات اهمية، اما الجزء الاخير والبالغ 14% من المشاركين فقد اعترفوا بمحاولتهم لانهاء حياتهم، كما رصدت الدراسة ايضا عدم خوفهم في المواقف الخطيرة بالاضافة الى قلة احساسهم بالالم، كما انه متاح لهم الحصول على الاسلحة وادوات قاتلة اخرى.
ناقوس الخطر
طرح جوينر في البداية رأيا مفاده أن تراكم التجارب المؤلمة والمستفزة تغذي قوة تحمل الالم وتقلص الشعور بالخوف بالشكل الذي يتطلبه الاقدام على الانتحار، وبناء على ذلك، رأى العديد من الباحثين ان سبب الاعداد المتزايدة للجنود الذي قتلوا انفسهم هو التدريب العسكري المتبوع بالقتال وهو الأمر الذي سبب تجريدهم من الخوف من الموت.
الا ان فريقا يرأسه برايان خرج بنتائج مخالفة لهذا السياق، حيث ان العديد ممن خاضوا الحروب بأهوالها اظهروا قوة تحمل للالم واقداما حثهم على الانضمام للقتال وتجارب مشابهة، وهو ما يجعل هؤلاء المقاتلين اكثر عرضة للانتحار بسبب ردة الفعل التي قد تثيرها أهوال الحرب من شعور بالذنب، العار، وكره النفس، وليس بسبب القتال نفسه.
في العام 2009، فاقت معدلات الانتحار في السلك العسكري نظيرتها بين عامة المواطنين وهو ما حدث للمرة الاولى منذ العام 1977، منذ العام 2009 وحتى 2012 زادت حالات الانتحار من 18.5 الى 22.7 لكل 100000 جندي مسجل في الخدمة، وبالرغم من انه من المبكر القول بان موجة انخفاض ستلحق، الا ان احصاءات العام الاخير 2013 الذي تم رصد عدد الحالات فيه قد اظهرت انخفاضا.
“ولنستطيع تقديم علاج افضل، يتوجب علينا معرفة كيف ينتقل الجنود من مجرد التفكير بالانتحار الى الاقدام عليه فعليا”.
أفاد برايان.