مجلة حكمة

إلغاء الخلافة: من المعتزلة حتّى عصر المماليك – أبو العباس ابرهام

أبو العباس ابرهام_7_2
أبو العباس ابرهام

بعكسِ ما توحي به التّقديمات الشعبية المعاصرة، شرقاً وغرباً، للفكر الإسلامي فإن فكرة السلطة الدِّينيّة، أو المطلوبة دينياً (الخلافة) لم تكن دوماً دائمة الحضوريّة والنفوذيّة أو الثبات بنفس المشروطية، في هذا الفكر. وقد قامَ الفكر الإسلامي، غيرَ ما مرّة، بإلغاء الخلافة أو تلطيفها لتتماشى مع المعطيات السياسية. ولم يكن أقلّ هذه المعطيات انتفاء عَمَلانية الخلافة ونقصان نفوذِها وانتفاء هيمنتِها واتضاح سقوط جوهرها الديني فيما بعد العصور الأولى، المتخيّلة غالباً طُهرياً. ورغم بداهة هذا الطّرح إلاّ أنّه طالما غُمِّض في ارتباطِ مصطلح “الخلافة” بمصطلح “الإمامة” في النظريات السياسيّة الإسلامية الأولى، بما يُصعِّبُ على القارئ العابر رؤية المفاوضات والتحولات التاريخيّة في مفهوم الخلافة. وما يبدو لنا هو أنّ الخلافة، بما هي غالباً، وليس حصراً، السلطة الدِّينية، كانت متقلقلة دائماً، إضافة إلى كونِها كانت، غالباً، ثانوية على الإمامة، بما هي السلطة السياسة عموماً. وما هو أدهى أن الإمامة لم تكن مقبولة دوماً.

 

-2-

 

لقد كرّرَ أبو الحسن الماوردي (تـ450 هـ/1058م)، الذي عُمِّد في الحداثة الإسلامية أنّه أبو النظرية السياسية الإسلامية، مقولة أنّه لم يشذ عن الإجماع على الإمامة إلاّ أبا بكر الأصم (تـ279هـ/892م) المعتزلي العتيد. ومن الواضِح أن الماوردي يجترُّ هنا، أو يؤسُّس، لحالة استثناء تقيم القاعدة. ولكي يفعل ذلك فسيعمد إلى نسيان شرعيّة اللاخلافة. فإضافةً إلى أن الأصّم لم يكن وحيداً في رفض الخلافة، فإنه لم يكن أيضاً معزولاً، بل كان جزءً وأثراً من تقاليد لا سلطوية ممتدة وله مدرسة مؤثِّرة حتّى خارج التيار الاعتزالي. وبطبيعة الحال فما كان للماوردي، قاضي الدّولة وديبلوماسيها، أن يعير هذا انتباهاً في كتابِه “الأحكام السلطانية“؛ وكان، طبعاً، أقلّ من ذلك في نصائحة السياسية “أدب الدنيا والدِّين“. والماوردي، ربّما كأي تأسيسي، لاتاريخي في كثيرٍ من أحكامه. وفيما تُظهِرُ مداولات سقيفة بني ساعدة أن مفهوم الخلافة بمعانيه اللاحقة كان لمّا يتبلور بعد في اللحظات اليونغية الأولى في تاريخ الإسلام، إلاّ أن الماوردي يعودُ ويكرِّرُ الترتيبات الأيديولوجية، وخصوصاً السنيّة، السائدة في عهده ليس فقط عن عن وجوب الإمامة والخلافة بل واكتمال تصورهما في العهد الأول، معتبراً أن المفاهيم اللاحقة للخلافة كانت جاهزة وقت هذا النقاش، ولم تتبلور وتتطوّر لاحقاً. باختصار خلص الماوردي إلى أن الخلافة كانت وما زالت تعني حكماً لاهوتياً إدارياً مهيمناً له شخصية واضحة وقديمة وتتبلورُ عنه سياسات جهادية توسعيّة وضريبية وقانونيّة ثابتة.

ولعلّ من نافل القول إن هذا التمثيل للخلافة وللإمامة بأنها محدّدة الشخصية ولا تاريخية وكونية وشمولية في الإسلام لم يكن دوماً فانتازيا محليّة. بل تجسّدت في وعي وممارسات كَوْننها نبلاء الإسلام، أي “أهل الحلّ والعقد”، ورجالات الدّين والإدارة (الكُتّاب)، وطبعاً الشعراء والمؤرخين من بين آخرين. وكانت إطاراً تنظيمياً للفاتحين وللثائرين وللجُباة وللعيون (الجواسيس) وللعسس، وللأتقياء وإطاراً عقلياً ودينياً للاحتكام ومسايقات الاختصامات والعدل. باختصار لم تكن مقولة الخلافة مقولة مجرّد تجريدية حول وجوبها على المؤمنين؛ بل كانت مقولة حول ممارساتِها الحكامية والجهادية. وكانت، هكذا، تبريراً للممارسات السلطوية والمغامرات العسكرية والتنظيمات الإدارية. وقد نقلَ الفاتحون، الذين كانت هذه الأيديولوجيا تشريعياً لغزواتِهم، هذه الفكرة التبريرية إلى الخارج.

ولعلّ خصوم الفتوحات الإسلامية، من المجموعات الذميّة أو السلطات المُحاذية، لم يروا في الخلافة غير آمرية من إله المسلمين بإخضاع الكون لـ”خليفة الله” (مع أن ابن جماعة ينبِّهُنا إلى أن هذا المصطلح منبوذ منذ أبو بكر الصديق لصالح مصطلح “خليفة رسول الله”). وكما هو معروفٌ فإن البابا بنديكت السادس عشر قد أعاد إدراكاً قروسطياً للنظام الإسلامي أنّه مهمينٌ وحاجرٌ على الاعتقاد عندما كرّر محاججة مانويل الثاني بالايلوج (1350-1425م)، أن الخلافة الإسلامية تحكم حتّى على القلب. وكانت هذه الفكرة عن شرطية الخلافة وهيمنتِها على الممارسة الإسلامية قد أصبحت تنظيمية في الفكر الإسلامي والعلماني المعاصر. ففيما ذهب جمهور الإسلامويين إلى نبذ مقترح العلمانيّة، الإجرائي في علاقة الدّين والدولة، بالقول إن طبيعة الإسلام، التي هي جوهراً سياسيّة بحكم هذا التصور، تتعارضُ مع المسيحية، التي، بهذا الاختزال، تفصل الدين عن السياسة؛ فإن العلمانيوية قد اعتمدت مفهوم الحركات الإسلامويّة الحديثة القائم على مزج الدِّيني بالسياسي والمدني بالحكامي لتُشرِّعَ مقولة الفصل الإجرائي وحياد الدّولة تجاه لاهوتاتٍ متعدِّدة، مختصِمة فيما بينَها وسياسيّةٌ وكونيّة بطبيعتِها.

 

-3-

 

على أنّ “مقالات الإسلاميين” الكلاسيكيين في صدر الإسلام لم تتفِق على ما وصفه سيد والي نصر بـاللفاياثان الإسلامي، ومركزية الدّولة بالنسبة للمؤمن. ومن منظور تاريخ الأفكار في الإسلام فإن اشتراطيّة الدّولة في الممارسة الإسلاميّة قد بدأت مطلباً لفرقتَيْن ليس من الصُّدفة أنّهما كانتا دولتَيْن أو مشروعَيْن ارتبطَ تفكيرُهما لوقتٍ بالسلطة، تخيُّلاً أو ممارسةً: الأولى شيعة علي بن أبي طالب، الذين ناصروا حقّه الدولتي وعضّدوه بتميُّزِه النسبي ورأوا أن إحقاقه، ووضع آل البيت على هرم السلطة، هو جزءٌ من التصور الإسلامي للمجتمع السّليم. ولا نعرِفُ ظهوراً حركياً، وحتّى خطابياً، لهؤلاء قبل تمكُّن علي، فهل ظهروا في إطار تقاليد سلطوية؟ أما الآخرون فكانوا، وإن اختلفوا جذرياً، الأمويين الذي دعموا تغلُّبَهم بنظرية القضاء والقدر، زاعمين أن رغبة الله هي فيما هو كائن، أي في حكم الأمويين. وفيما عدا هؤلاء فإن الفرق الإسلاميّة الأولى، وهي غالباً فرقٌ ما قبل سُنيّة وأحياناً ما قبل شيعية، لم تُعرِّف المجتمع الإسلامي بالدّولة أو بالإمامة، بل عرّفته بالإيمان (تجسيداً أو إرجاءً) وبالمسؤولية الفردية والمجتمعية.

وفيما طوّر المتشيِّعة، عدا الزّيدية ومن نحا نحوهم، نظريتَهم إلى نظرية “الإمامة” وعقلنوها في إمامة الأفضل (وهي أيضاً مقولة سنيّة يؤكدُها بشدّة ابن أبي يعلى الفرّاء) فإن اللاهوت الأموي المتمثِّل في منح صفة الإرادة، بل والاشتهاء، الإلهي للأمر الواقع لم يكن بمثلِ حسن الحظ هذا؛ ذلك أن الحركات الكلامية، من تلك المتشعبة من صالون الحسن البصري إلى القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وحتّى المُحدِّثين، الأقلّ سياسية وثورية من بين كلِّ هؤلاء (والذين سيُصبِحون لاحقاً مؤّسِّسي السنة)، قد اتحدّت ضدّ هذه النظرية، لأن هذه النظرية أسقطت، عرضاً، مسؤولية الفرد عن أعماله وجعلت الكون حواراً بين الإله وإرادته، بمعزلٍ عن الإرادة والخيار البشري. ومع الإصلاحات الخطابية التي قامَ بها الوليد بن يزيد بدأت نظرية الإرادة الإلهية تسقط من مركزِها فيما كانت الثورات والممارسات الكلامية تنقصُها من أطرافها. وفي العقود والقرون اللاحقة لم تعد استخدامات لاهوتية الواقع تصلُح عند المتأخِّرين إلاّ في رفضِ مقولة المعتزلة، وخصوصاً معتزلة البصرة وبالأخص جناح النظّام (ت221هـ/836م)) أن الله لا يقدِّمُ دُنيا أفضل (وإنما يُقدِّمُ ديناً أفضل). فردّ اللاحقون كـالغزالي بمقولة أن “ليس في الإمكان أبدعَ مما كان”.

 

-4-

 

وما كان لبعضِ، وليس كلّ، من رفض نظرية الأمويين في الحكم إلاّ أن يُسقِطَ فكرة أن الدّين، وبالتالي الله، يبغي أو يطلب دولةً، بالأصل. وللمفارقة فإن الخوارج، الذين يُنظَرُ إليهم عادةً أنّهم عمود “الأصوليّة الإسلامية“، المُسيِّسة للدولة، كانوا من أوائل من قال بمبدأ اجتماعية، لا دولتيّة الدّين. وقد جاء هذا أساساً وخصوصاً من الإباضية والصفرية، الذين رفضوا مبدأ الهجرة عن المجتمع “الكافر”، فلزم عليهم إسقاط وجوب الإمامة والاكتفاء بتوقّي المجتمع، الذي لم يعد كافراً أو مشركاً، كما ذهب أصحاب النهروان ثم الأزارقة، بل أصبحَ “جاحداً بالنعم” فقط. ولبقيّة المجتمعات الخارجية المقاتلة آليات فكرية نحت هذا المنحى. فمبدأ التحكيم كما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الجميع ينزع الدِّين من القانون السلطاني ويضعه في المجتمع. والمجتمع الخارجي (أي المسلم، بهذا التّصور) هو المجتمع الذي يتحارَصُ على جعل الدِّين ينبثِقُ منه، وليس بالضرورة أن يُسْبغ عليه من الإمام. ولذا فهو يُكفِّرُ وينفي من الأرض، إن لم يقتل، مرتكب الكبيرة، “المشرك”. وقد دخل الخوارج، وخصوصاً النجدات منهم، في أزمة، بفعل هذا المبدأ. فمبدأ المجتمع الذي يقوم الدِّين بذاته سرعان ما فقد قيمته في مجتمعٍ خارجي غير مُهاجِرٍ ويقطُن بين مجتمعات لا يُصنِّفُها مسلمة كليّةً ولا يُهاجِرُ عنها (كما فعل والأزارقة، وكما تشترِطُ بشدّة البيهسية). ومن هنا خرَجَ الخوارِج بمبدأ “التّقيّة” (الذي لعلّهم سبَقوا إليه الشيعة).

وقد خلص المرجئة إلى مبدإ شبيه عندما اضطرّوا، على الٌأقلِّ في النظرية، لتعليق الحكم على السياسة الأولى. فخلصوا إلى تعليق الأحكام الدنيوية على الخيارات السياسية، فأبعدوا بذلك إمكانيّة شرطِ السياسة دينياً أو حتّى حدّها بنموذج معياري في الإمامة، لأن كلّ نهجٍ مسكوت عنه. ولعلّ أهمّ من طبّق هذا المذهب البراغماتي كان المعتزلة. وقد طبّقوه على عدّة طرق. فمقالتُهم أن العقل أصلٌ في التّشريع جعل أكثرَهم يذهب إلى أن الخلافة عقلية في شرعيتِها، وليست دينيّة في مبدئها (وإن كان فيهم، كـالجاحظ، وخصوصاً في رسالته “في استحقاق الإمامة“، من أقامِها دينياً على أساس وجوبِها العقلي)، وبالتالي فقد يقتضي الأمر، كما أوحى بعض الدّارسين بشأن مسألة “خلق القرآن”، إمكانية التحوير. أما طريقتهم الثانيّة فكانت، كطريقة المرجئة (على معارضة بعضم كـالنظّام مثلاً للإرجاء)، تعليق الأحكام على التاريخ الإسلامي والهروب من فخ النموذج، الذي جوهر به الأمويون والشيعة، كما ثقل الممارسة التاريخيّة، نموذج الحكم في الإسلام. وتتقاطع التصورات الاعتزالية والإرجائية، كما السنيّة، في غير ما نقطة. ولعلّ هذا يظهر أيضاً في المبدإ الإرجائي الذي تبنّاه المعتزلة وهو “المنزلة بين المنزلتيّين“، الذي يُشرِّعُ التاريخ الإسلامي، ويرفضُ اشتراط التاريخ السياسي الإسلامي بالثنائيات التقليدية بين كافر ومسلم. وثالثاً مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان لدى تيارِهم المُعارِض للشيعة، وخصوصاً في مبدئها الإمامي، ذلك أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قُلنا، مبدأ لا سلطوي يكتفي بنفسه عن الإمامة.

وللمعتزلة إرثٌ غنيٌّ في اللاسلطوية، وإن تجاهله مفكِّرو السياسة، كـابن أبي يعلى الفرّاء، (تـ458هـ/1131م) الحنبلي، الذي يصرِفُ بسرعة مقولة عقلية الخلافة لصالِح نصيّتِها، أو كالماوردي الشافعي، منظِّر الخلافة المعيارية. وتعود تقاليد إلغاء الخلافة لدى المعتزلة إلى كثيرٍ من متكلمِّيهم، الذين أنكروا أن يكون في الدِّين ما يترتّبُ على الخلافة. ونعرِفُ الآن أن خصوم المعتزلة قد أحرقوا معظم كتُبهم فلم تصلنا، ولكنّنا نعرِفُ من متفرِقات أقوالِهم، التي نقلها باجتزاء مؤرِّخو الملل والنحل وجامعو مقولات الفرق، أنهم وزّعوا هذه التقاليد اللاسلطوية على عدّة محاججات وفِرق. فقد أنكر الأصّم والنظّام والجعفران: جعفر بن مبشِّر (تـ234هـ/848م) وجعفر بن حرب (تـ236هـ/850م) مقولة الحاجة إلى إمام من أصلِها، بدليل أنّه ليس في إسلام المرء ما يحتاج لسلطة سياسية. أما هشام الفوطي، الذي رومَنَسَ الإمامة، فقد خلَص إلى أن الخلافة كانت واجبة في وقت استقامة الأمة ووحدتِها؛ وأن هذا الشرط قد سقطَ في ظلِّ تشعُّب السياسة في الإسلام إلى طوائف مختلفة غير قابلة للتوحيد. ولعلّ هذا كان مُلهِماً لتلميذه، عباد بن سليمان، للقول إنه لم يعد بالإمكان أن يكون ثمّة إمام مرّة أخرى. وهكذا تغدو الخلافة فردوساً مفقوداً وسقطاً من متاع العصر النبوي، الجميل والحالم، ولكن المنتفي.

-5-

رغم أن الأمويين عبأوا التصوُّرات الدِّينية ومؤسّسات القضاء وإعدامات المهرطقين لتشريع رؤيتِهم للحكم إلاّ أن رجالات التفسير في عهدِهم لم يجدوا أي تبرير للخلافة في القرآن (هذا ما يبدو يبدو مثلاً للباحثة وِداد القاضي، بعد قراءة محترفة لتوظيفات مفهوم الخلافة في العهد الأموي). ورغم أن عمر بن عبد العزيز، وهو من سيُعمّدُ لاحقاً أنّه الخليفة النموذج قد كان من المؤمنين باللاهوت الأموي القائل بالحتمية والشرعية السياسية للقضاء والقدر، إلاّ أن ذلك اللاهوت لم يتبلور في علم مصاحب للأمويين، (وإن كان سيعودَ لاحقاً للفكر الإسلامي في تشريع التغلّب). وما يبدو هو أن الأمويين خاصموا منتجي الأيديولوجيا الخلافية من طبقة الفقهاء الناشئة من الموالي، والثائرة في ثورة القُرّاء، فعدِموا مساعدة إنتاجها المعرفي، وإن توفروا على دعم مئات الشعراء والمُغنين وفقهاء البلاط ومثقفي الأُعطِيات، الأقلّ تأثيراً، وخصوصاً لاحقاً، عندما أُعيد تخيّل أدوار الفقهاء الأوائل وضُخِّمت.

وإذا كان الفكر الخلافوي، كأي فكر، هو نمطٌ من المعرفة المُنتَجة في علاقات سلطوية، فإن العباسيين، لعدة عوامل ليس أقلّها ثورة الورق وجمع المصادر الإسلامية التي كانت غائبة في العصر الأموين وأولّها الحديث، والتأليف واستصحاب المعرفة لتشريع السياسة، قد وظّفوا وسنّنوا الخلافة أكثر من الأمويين. وهو ما يبدو من المحاولة المنسية، ولكن الجوهريّة، لـعبد الله بن المُقفّع (تـ142هـ/759م)، قتيل الخلافة، الذي ابتغى لجم الانتفاضة الدِّينية العباسيّة عن تجاوز الدّور التقريري للخليفة، وأراد جعل الخليفة هو من يتحدّثُ باسم الدّين بدل أن يجرفه حديث “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، الذي كان تشريعاً للثورة على الأمويين، والذي جسّد الحكم في الشعب، لا في الخليفة. وهي الصياغة الدستورية التي صاغها بعناية في رسالته العميقة، رسالة في الصّحابة.

ولربما لم يكن ابن المُقفّع إلاّ ترجمة للسياسات المنصورية التي أسّست نموذج الخليفة-الدّين، وتبلورت في السياسات التطبيعية للدين من خلال قتل الزنادقة أيام المهدي والحكم الأصولى المعادي للنساء أيام الهادي، ثمّ الحملة المُديّنة التي قام بها الرّشيد على البرامِكة. ولكن بعكسه فإن الماوردي، الذي عاشَ في فترة ضعف الخلافة سياسياً، قد تهيأ لقبول ضعفها نظرياً، وخصوصاً عندما اعتقد بإمكانيّة استقلال السلطان أو الوالي عن الخليفة. وقد أتاحَ الماوردي هذا عندما اعتقد بعدم أحقيّة الخليفة في عزل الوالي “مالم يتغيّر حاله”. وكان هذا سيبدو هرطقة لو قيل لـهارون الرّشيد مثلاً. ولكنّه صارَ نافِلاً في عهد الخليفة القاهر بالله الذي وصل إلى درجة من الهوان والضعف أن دُعيَ على منابر بغداد بالولاء للخليفة الفاطمي، المتوطِّد بمصر وإفريقيّة. وفي ظلِّ هذه الهزيمة العملية للخلافة المركزية كان الماوردي مستعداً لترجمة هذا إلى نظريته الدستورية، التي تنقُصً من الخلافة بتثبيت اللامركزية. وليس هذا التقزيم للخلافة غير تطبيعٍ لما كان قائماً في عهده من استقلال الممالك عن الخليفة.

لا يظهر الماوردي في الصياغات الحديثة مضعِّفاً للخلافة، بل تُشيرُ إليه “الدولة الإسلامية” (داعش)، بصفتِه مرجعاً لمشروعها العائد إلى الخلافة القويّة، ذلك أنّ إضعافَه الإداري للخلافة ظلّ يقوم في فكرٍ ما زال يرى إمكانيّة عودة الأيام الخوالي للخلافة. بيدَ أن فكرة تمايز السلطان ووزير التّفويض والوالي عن الخليفة، التي بدأت تتبلور، على مضض، عند الماوردي، السفير الذي جال بين البلاطات ورأى بأم عينيه ضعف بلاط الخليفة مقارنة بهيمنة بلاط السلطان، هي نظرية لم تأتِ دون إزاحة التفكير المعياري بخصوص الخلافة. فقد أتاح انفصال هذه السلطات عن الخليفة فصل عقليّة الخلافة عن دينيتِها. وفيما لا تتيح نظرية الإمامة التقليدية مساحة للسلطان فإن قوّة السلطان، وبل ومنازعته للخليفة، سيفرضُ نفسه على هذه النظرية فيما بعد الفرّاء والماوردي.

-6-

ولعلّ أهمّ تقزيمٍ للخلافة قبل العهد العثماني قد قام في العهد المملوكي، الذي، كما نعرف، رفع السلطان إلى مقام الخليفة وعزلَ وصغّرَ الخليفة، بعد أن ابتعثُه من رماده، وأسكَنَه في مقام المعاش والتّقاعد. وصاحبُ هذا التّقزيم في النظرية، بعد أن قامَ في الواقع، هو شيخٌ من شيوخ الأصولية السلطانيّة، بدر الدّين ابن جماعة (639هـ ـ733هـ) في كتابه تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام. مع هذ الفقيه يتحرّرُ السلطان من الخليفة كليّةً. بل ويكونُه. وبقدرُ ما يقوى السلطان في نظريتِه بقدر ما يضعفُ فيها الخليفة. ففيما كان الخليفة أفضل عند أبي يعلى الفرّاء، الحنبلي. ثمّ غدت إمامة المفضول قابلة للنقاش، وشرعية شيئاً ما، عند الماوردي. فإنّها تُصبِحُ طبيعيّة، بل ومعياراً، عند ابن جماعة. وفيما كانت الإمامة نقلية تعبديّة عند الفرّاء؛ وفتح فيها الماوردي النقاش المعهود بين العقلانيين والنصانيين، فإنّها دُيُّنَتْ أقلّ مع ابن جماعة. وفيما لم يكن الماوردي منفتِحاً كثيراً تجاه التغلّب في الإمامة، مركِزاً على شروطِها الطبيعيّة كاختيار جماعة الحلّ والعقد والتوريث، فإن ابن جماعة يرى التغلُّب من الشروط التي تقوم بها الإمامة، وإن كان ذلك تطبيعاً لا نصوحة. وبإتاحة ابن جماعة للتغلب فإنّه يُسقِطُ الشروط المتعلِّقة بالخلافة كعِلم الخليفة بالدِّين وتديُّنه. قد يكون الخليفة جاهلاً بالدِّين، وقد يكون فاسقاً، كما قد يُتوقّع، أحياناً، من ضابطٍ شركسي برجي أو بحري أو إنكشاري.

هنا يدخل ابن تيمية (تـ728هـ/1328م). وتكمن أهمية ابن تيمية في استشعارِه الحاذق، وإن لم يكن دوماً الناجِع، للتحوّلات التاريخية، وهو ما يلخِّصُ مواقفه ليس فقط في الجهاد والقانون والعرف وإنما تجاه العلوم الإغريقيّة، وبالأخص المنطق الأرسطي، والترتيبات الأشعرية، وبالتأكيد، مثله مثل ابن جماعة، في التقاطه إشارة ضعف وانتفاء بداهة الخلافة الكلاسيكية. بيْد أنّه يتجاوز ابن جماعة في هذه. فعلى خلافه الشّهير معه، الذي لعلّه ساهم في جعل ابن جماعة يشارِك في اضطهاده، إلاّ أنّه يكاد يتفِقُ معه في خصوصية اللحظة وعدم راهنيّة الخليفة للسياسة الإسلاميّة. غير أن خطوة ابن تيمية، المرتبط، ولكن المتخالف مع المماليك، تبدو أكثر تجريدية وأقلّ ارتهاناً بالحيثيّة المملوكية. فبدلَ أن يُخوِّلَ السلطانَ صلاحياتَ الخليفة، كما فعل ابن جماعة، فإنّه قام بفصل الخلافة عن الخليفة. ولم يعد المقصد عنده هو خليفة يترجِمُ النظام الإسلامي، بل أصبح الأمر عنده هو سياسة إسلامية. ومن هنا ابتكر ابن تيمية “السياسة الشرعية“. لقد دخل الدّارسون في جدال كبير حولَ معنى إلغاء ابن تيمية للخلافة، فبينما اعتبر هنري لاوست (1905-1983)، الدّارس الفرنسي الكبير، أن ابن تيميّة كانَ يُعيدُ الأفق الخارجي الإلغائي للخلافة فإن دارسين أكثر حداثة كـقمر الدّين خان قد أظهروا تغلغل نظريّة إلغاء الخلافة في التقاليد الأرثودوكسية، السنيّة، والسياقية التي انتمى لها ابن تيمية.

-7-

ولعلّ الفكر الإسلامي الحديث، وبرغم القطيعة التي أتاحتها الحداثة، المُقادة غربياً، بقيّ لفترة رهين الخيارات التي أتاحتها السياسات المملوكية، وخصوصاً كما تبلورت في أفكار ابن جماعة وابن تيمية. ففيما كان نموذج ابن جماعة تشريعاً للدولة الجمهورية، التي هي استقلال السلطان عن الخلافة (وقد انبثقت الوطنيات الحديثة من أزمة مقتل الأب في إلغاء الخلافة العثمانية)، والجاعلةِ السلطانَ (أو الرئيسَ) خليفةً، منزوع الخصائص الدِّينية، في دويلتِه السلطانية (الملكية أو الجمهورية)، فإن ابن تيمية كان أفق الحركات الإسلامية المدنيّة التي اعتقدت أن هنالك شيئاً جوهراً في الإسلام هو السياسة الشرعية، التي، وإن تحرّرت من القالب الخلافوي التّقليدي، إلاّ أنها تبقى ذات جوهر قروسطي ما. وسرعان ما أعادَ هذا الخيار الإسلاموي أصله الخلافوي العباسي، وخصوصاً عندما أعادت حركات الإخوان المسلمين، قبل أن تتراجع، وحزب التحرير، ومؤخراً “الدولة الإسلامية” (داعش) الصيغة المتجاوزة للخلافة إلى النقاش العربي الإسلامي المعاصر.