مجلة حكمة
كانط والثورة

إجابة عن سؤال: ما هو التنوير ؟ – إمانويل كانط / ترجمة: عبد الله المشوح


 

“فرسخ في الأذهان أن كل ما هو فلسفي – علمي ركيك وماهو أدبي – فقهي بليغ، بل اعتبر الكثيرون أن الركاكة دليل قاطع على أن المضمون دخيل مستورد وأن البيان دليل الأصالة.”

“كان أساتذتنا الفرنسيون الذين تدربوا هم على النقل من اليونانية واللاتينية إلى الفرنسية، يقولون لنا: في الترجمة لا بد من الاختيار، إما الوفاء للمعنى مع ركاكة الأسلوب، وإما البلاغة والبيان مع خيانة النص شيئاً ما.”

عبدالله العروي – الايديولوجيا العربية المعاصرة

التنوير هو إنعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لإستخدام عقلك بنفسك.

إن العجز والكسل، هما السبب، وراء إنقياد هذا الحجم الكبير من البشر، على الرغم من أن الطبيعة حررتهم دائماً من اي قيادة دخيلة، الا انهم يبقون، بسعادة، عاجزين طوال حياتهم. وللأسباب ذاتها، يكون من السهل جداً، للآخرين ان ينصّبوا انفسهم قادة ومرشدين. انه من المريح جداً، أن لا تكون ناضجاً! اذا كان لدي كتاب يفهم عني، مرشد روحي استبدل به ضميري، دكتور يضع لي خطة غذائية، وهكذا، لن اكون بحاجة لبذل اي مجهود. لست بحاجة إلى التفكير، ما دمت قادراً على الدفع؛ سيتكفل الاخرين، بالنهاية، بهذه المهمة المتعبة. الحرّاس الذين اخذوا، وبلطف، على عاتقهم مهمة التوجيه، سيحرصون على أن تكون النظرة، التي تنظر بها البشرية كلها، إلى خطوة التقدم نحو النضج، على انها ليست فقط صعبة، ولكن ايضاً، خطيرة. بعد أن سحروا حيواناتهم المدجنة، ومنعوا بحذر، الكائنات المنصاعة، من التجرؤ على اخذ خطوة واحدة، بعيداً عن حبال القيادة التي رُبطوا بها، عليهم الآن أن يظهروا لهم الأخطار التي تحدق بهم، إذا ما حاولوا المشي، بلا مساعدة. ليس هذا الخطر عظيماً بطبيعة الحال، إذ أنهم سيتعلمون المشي في النهاية، بعد بضع سقطات. لكنّ مثالاً من هذا القبيل يبدو مرهباً، وغالباً ما ينجح في اخافتهم، عن اخذ خطوات اخرى.

مع ذلك، انه من الصعب على الفرد ان يشقّ طريقهُ لوحده من حالة عدم النضج هذه، التي اصبحت طبيعة ثانية له. اصبح معجباً بها، ونراه بالفعل عاجز عن استخدام فهمه الخاص في الوقت الحالي، لأنه لم يُسمح له ان يقدم على هذه التجربة من قبل. ان العقائد والدوغمائيات، هذه الأدوات الميكانيكية للإستخدام العقلاني (او اللاعقلاني ربما) لهباته الطبيعية، هي الاغلال والسلاسل لقصوره الدائم. وإذا ما استطاع أحد ان يرمي عنه هذه الاثقال، فإنه سيظل متردداً حول القفز، ولو فوق اتفه الصعوبات، لأنه لن يكون معتاداً على هذا النوع من التحرك الحرّ. مع ذلك ثمة قلّة، من خلال صقل عقولهم بأنفسهم، نجحوا في تحرير أنفسهم من حالة القصور، والإستمرار بشجاعة في طريقهم.

إن الفرصة أكبر في أن ينور المجتمع نفسه، هذا الأمر حتمي، إذا ما ترك المجتمع المعني في حرية. سيكون هناك دائماً قلّة يفكرون بأنفسهم، حتى ضمن أولئك المعينين كأوصياء على عامة الناس. أمثال هؤلاء الأوصياء، ما ان يتخلصوا بأنفسهم من عبودية العجز، حتى يبدأو بنشر روح الاحترام العقلاني للقيمة الذاتية، وبواجب كل رجل على ان يفكر بنفسه. المدهش في هذا، هو انه اذا ما قُدّر للجمهور، الذي وضع تحت هذه العبودية من قبل الأوصياء، ان يتم تحريكه بالشكل المناسب من قبل الاوصياء العاجزين عن التنوّر، فإن هذا قد يؤدي بشكل عكسي الى اجبار الأوصياء أنفسهم، على البقاء تحت هذه العبودية. انه لمن المؤذي جداً خلق التعصبات، لأنها تنتقم لنفسها، في النهاية، من أولئك الذين شجعوها اولاً (او من ورثة من فعلوا ذلك).  لذلك، لا يحقق الجمهور التنوّر إلا ببطئ. قد تضع الثورة نهاية للحكم الأوتوقراطي المطلق، او للاستبداد الجشع الباحث عن السلطة، لكنها لن تنجح ابداً في خلق إصلاح حقيقي في طرق التفكير. بالأحرى، تعصبات جديدة، مثل تلك التي استبدلت، ستخدم كسوط للتحكم في الغالبية العظمى، اللامفكرة. 

لتنوير من هذا النوع، كل ما هو مطلوب هو الحرية. والحرية المرجوة هنا، هي احمد الحريات، الاستفادة العامة من عقل الفرد في كل الأمور. لكنني اسمع الصراخ في كل الاتجاهات: لا تجادل! يقول الشرطي: لا تجادل، وانتظم! مسؤول الضرائب: لا تجادل، ادفع! الواعظ: لا تجادل، آمن! (فقط حاكم واحد في هذا العالم يقول: جادل كما تستطيع وفيما تشاء، لكن اطع!) كل هذا يعني تقييد للحريات في كل مكان. ولكن اي نوع من التقييد يمنع التنوير، وايها، بدلاً من ان يعيقه،  يستطيع بالأحرى، ان يعززه؟ أنا أجيب: الإستخدام العام لعقل الإنسان يجب ان يكون متاح دائماً، وهو وحده القادر على تحقيق التنوير بين البشر؛ الإستخدام الخاص للعقل قد يكون، غالباً، مقيداً بشكل محدد، ولكن، بدون عائق لا مبرر له لتقدم التنوير. ولكن بالإستخدام العام لعقل الفرد، اقصد ذلك الاستخدام الذي قد يعتبره اي احد، ما يفعله المثقف عندما يخاطب كل الجماهير القارئة. ما أسميه الإستخدام الخاص للعقل، هو ما قد يستخدمة الفرد في المنصب المدني او المكتبي الذي اؤتمن عليه.

الآن في بعض الشؤون التي تؤثر على مصالح عامة الشعب، نحن بحاجة الى آلية محددة، يكون بموجبها، واجباً على بعض اعضاء المجتمع العام، التصرف بطريقة آلية صرفة، ليكونوا بذلك، ومن خلال اتفاقية عامة مصطنعة، موظفين من قبل الدولة لمصالح عامة ( او على الاقل ليمنعوا من تعطيلها). انه بالطبع، لمن غير المسموح الجدال في مثل هذه الحالة؛ الطاعة واجبة. ولكن اذا ما كان هذا الفرد الذي يتصرف كجزء في هذه الآلة يعتبر نفسه ايضاً جزءًا من مجتمع عام متكامل او حتى مجتمع كوني، وبالتالي، رجلاً متعلماً قد يخاطب، من خلال كتاباته، المجتمع العام بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فإنه قد يجادل من دون ان يعيق المصالح التي وظّف من اجلها، لبعض الوقت، بطريقة آلية. لذلك سيكون من المؤذي جداً لو أن ظابطاً، يتلقى أمراً من من هم أعلى منه رتبة، أن يجادل بشكل مفتوح، وهو في وقت خدمته، حول مناسبة او فائدة الأمر المطروح. يجب عليه ببساطة أن يطيع. ولكن لا يمكن أيضاً منعه من الملاحظة، كرجل متعلم، للأخطاء الموجودة في الخدمة العسكرية، ولا من إظهارها لمجتمعه ليحكم عليها. المواطن لا يستطيع ان يرفض دفع الضرائب المفروضة عليه؛ إن الانتقاد الوقح لمثل هذه الضرائب، عندما يستدعى أحد لدفعها، قد يعاقب على انه إنتهاك قد يؤدي الى عصيان عام. مع ذلك، لا يكون هذا المواطن منتهكاً لواجباته المدنية اذا ما، وكإنسان متعلم، جهر بأفكاره أمام الجمهور حول مناسبة أو حتى ظلم هذه المقاييس المالية. وبنفس الطريقة، ان الواعظ مجبر على توجيه مريديه وجماعته بما يتناسب مع مذهب الكنيسة التي يخدمها، لأنه وظف لديها بهذا الشرط. ولكن كدارس، لديه الحرية الكاملة، وكذلك الواجب بأن ينقل الى الجمهور كل ما يتم اعتباره بعناية، والافكار ذات النوايا الصادقة حول الجوانب الخاطئة لهذه المذاهب، وأن يقدم المقترحات لتدبير افضل لهذه الشؤون الدينية والكنسية. لا شيء من هذا يستدعي انزعاج الضمير. لأن ما يدرسّة في سعية لإكمال واجباته كخادم نشط للكنيسة يقدم من قبله كشيئ ليس بمقدوره ان يدرسّة باختياره، ولكن كشيئ تم توظيفه ليشرحه وفق طرق محددة وبإسم أحد آخر. سوف يقول: كنيستنا تخبر كذا وكذا، وهذه هي الحجج التي تستخدمها. ثم يقوم بعد ذلك بإستخراج أكبر قدر ممكن من القيم العملية، ووفق تعاليم هو نفسه لا يتخذها بإيمان وخضوع تام، ويمكنه على الرغم من ذلك ان يقوم بشرحها، بما انه ليس من المستحيل، انها قد تحمل، الحقيقة بين طياتها. في كل الحالات، لا شيئ يتعارض مع الأساس الحقيقي للدين حاضر في مثل هذه المعتقدات. لأنه اذا ما اعتقد الواعظ أن بإمكانه ان يجد اي شيئاً فيها من هذا القبيل، لما استطاع ان يكمل واجباته الرسمية بضمير مرتاح، ولأضطر للإستقالة. لذلك إن إستخدام العقل الذي يقوم به من وظف للوعظ في ظل حضور جماعته هو استخدام خاص، بما ان الجماعة، مهما يكن حجمها، لا تكون اكثر من تجمع محلي. لإستعراض هذا، انه لا يستطيع ان يكون حراً كقسيس، بما انه يتصرف وفق أوامر مفروضة عليه من الخارج. وعلى العكس، كدارس، عندما يخاطب الجمهور الحقيقي (والعالم اجمع) من خلال كتاباته، بالإستخدام العام لعقله، يتمتع الواعظ بحرية لا محدودة لإستخدام منطقه الخاص وليتحدث بشخصه. ان الابقاء على الأوصياء الروحيين للناس، في حالة عدم نضج، لهي حماقة تؤدي إلى أن تبقى السخافات دائمة. 

ولكن إذا ما كان لمجتمع من الوعاظ، في مجلس كنسي على سبيل المثال او مجلس مبجل (كما يقول الهولنديون)، الرغبة في أن يلزم نفسه بالقسَم لمجموعة غير قابلة للتغيير من المعتقدات، ليؤمّن بذلك الوصاية الأبدية على كل الأعضاء، ومن خلالهم على الناس جميعاً؟ انا اجيب بأن هذا شبه مستحيل. إن تعاقداً من هذا النوع، يحمل رؤية تمنع التقدم في التنوير على البشرية كلها للأبد، هو بلا شك فاسد وملغي، حتى ولو صودق من قبل السلطات العليا، والتشريعات الإمبراطورية وحتى اكثر معاهدات السلام جلالاً. لا يستطيع جيل، ان  يتخذ تحالفاً تحت القسَم، ليضع الجيل اللاحق في موقف يكون فيه من المستحيل عليه أن يمدد و يصحح معرفته، تحديداً في مثل هذه المسائل الهامة، او ان يحقق أيّة تقدم في سبيل التنوّر. هذه ستكون جريمة في حق الطبيعة الإنسانية، التي يرتبط مصيرها الأصلي تحديداً في هذا التقدم. لذلك من حق الأجيال القادمة ان تصرِف هذه الإتفاقيات وان تعتبرها غير مصرّحة ومجرّمة. لكي نختبر اذا ما كان اي مقياس قابل للإتفاق عليه كقانون للشعب، ما علينا الا ان نسأل اذا ما كان الشعب قادراً على فرض مثل هذا القانون على نفسه. هذا قد يكون ممكناً لفترة قصيرة كطريقة لتقديم قانون جديد، بإنتظار، اذا ما جاز التعبير، حلاً أفضل.  هذا ايضاً قد يعني ان كل مواطن، وتحديداً الواعظ، يملك حرية التصرف كدارس، للتعليق العام، في كتاباته، على عدم صلاحية المؤسسات الحالية. في هذه الأثناء، سيبقى القانون الجديد قائماً، حتى تكون النظرة العامة لطبيعة هذا القانون، قد تطورت وأثبتت نفسها لدرجة يكون فيها، بالموافقة العامة (ان لم تكن الكاملة)، القانون، قابلاً للرفع إلى العرش. هذا سيسعى الى حماية الجماعة، التي، على سبيل المثال، وافقت على تغيير نظامها الديني، بما يتوافق مع أفكارها الخاصة، حول طبيعة البصيرة العليا، لكنها لا تحاول ان تمنع اولئك الذين ارادوا ان تبقى الأمور كما هيّ. لكنه من الغير المسموح إطلاقاً، الموافقة، ولو لحياة واحدة فقط، على دستور ديني دائم لا يحق لأحد مسائلته بشكل علني. لأن هذا قد يقوّض عملياً مرحلة من مراحل التطور التصاعدي للإنسان، بالتالي لن يكون مثمراً، بل وحتى ضاراً بالأجيال اللاحقة. يحق للمرء ولنفسه فقط، وفوق ذلك لفترة محدودة، ان يؤجل تنوير نفسه في مسائل تجب عليه معرفتها. لكن إنكار هذا النوع من التنوير كلياً، سواء لنفسه، او حتى أكثر من ذلك، للأجيال اللاحقة، يعني الإنتهاك والدعس على الحقوق المقدسة للبشرية. ان امراً لن يقبل الشعب فرضه على نفسه، ليس من الممكن ايضاً، ان يفرض عليه من قبل السلطان؛ لأن سلطته التشريعية تعتمد تحديداً على توحيده للرغبة الجماعية للشعب في مملكته. طالما يحرص على أن تكون كل الإصلاحات الحقيقية والمتصوّرة في توافق مع النظام المدني، بإستطاعته أن يترك رعاياه، ليفعلوا كل ما يجدونه ضرورياً من اجل خلاصهم، وهو ما لا شأن له به. ولكن من شأنه، ان يوقف اي أحد، يمنع الآخرين بالقوة من أن يفعلوا افضل ما بوسعهم ليحددوا وليروجوا لخلاصهم. إنه بالفعل ينقص من جلالته إذا ما تدخل في هذه الشؤون من خلال اخضاع هذه الكتابات، التي يحاول رعاياه من خلالها، ايضاح أفكارهم الدينية، للمراقبة الحكومية. هذا ينطبق إذا ما تصرف وفق آرائه الشخصية الرفيعة–التي في هذه الحالة تعرضه لعتاب: ليس سيزر فوق النحاة، ولكن اكثر من ذلك، إذا حط من سلطته الرفيعة، بدعم الاستبداد الروحي الممارس من قبل بعض الطغاة في حكومته ضد بقية الرعية. 

الآن إذا ما كان يسئل هل نحن في الوقت الحالي نعيش في عصر متنوّر، الإجابة هي: لا، لكننا نعيش في عصر تنوير. كما هي الأمور في الحاضر، لا زال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الإنسان ككل في موقف (او أن يوضع ابداً في موقف) يستخدم فيه فهمه الخاص بثقة وبشكل جيد في المسائل الدينية، بدون وصاية خارجية. ولكن لدينا مؤشرات بارزة بأن الطريق الآن يتم اخلائه ليتم العمل بحرية في هذا الاتجاه، وان عوائق التنوير الكوني، لإنعتاق الإنسان من حالة القصور الذاتية، بدأت تقل تدريجياً. بهذه المناسبة إن عصرنا هو عصر التنوير، قرن فريدريك. 

ان أميراً لا يعتبره امراً دونه، أن يعترف، بأن من واجبه، في المسائل الدينية، عدم الزام شعبه بأي شيئ، ولكن أن يمنحهم الحرية الكاملة، ان اميراً كذلك،  يرفض ان يقبل لقباً وقحاً، مثل متسامح، هو نفسه متنوّر. انه يستحق الثناء من قبل الحاضر الممتن، والأجيال القادمة، على انه الرجل الذي حرر البشرية من قصورها (هذا فيما يخص الدولة)، والذي ترك الناس أحراراً لإستخدام فهمهم الخاص في كل مسائل الضمير. تحت حكمه، يكون للشخصيات الكنسية، على الرغم من واجباتهم الرسمية، ان يقوموا بأريحية، كدارسين، بطرح أحكامهم وآرائهم ليحكم عليها العالم، حتى وإن كانت هذه تشذ هنا وهناك عن المذهب الارذوكسي. هذا ينطبق بشكل اكبر، على كل اولئك الذين ليسوا مقيدين بواجبات رسمية. هذه الروح من الحرية تنتشر ايضاً خارج البلاد، حتى عندما يجب عليها ان تصارع العوائق الخارجية، المفروضة، من قبل الدول التي تسيئ فهم وظيفتها. مثل هذه الدول تشهد الآن مثالاً ساطعاً، كيف للحرية ان توجد، دون أدنى تعرض للوفاق العام ووحدة عامة الشعب. سيقوم الرجال بأنفسهم، بالتدريج وبدون إكراه، بشق طريقهم من البربرية، طالما لا يتم تبني المقاييس الاصطناعية عمداً لإبقائهم فيها. 

لقد صورت مسائل الدين على أنها النقطة الرئيسية في التنوير، في إنعتاق المرء من عجزه الذاتي. هذا اولاً لأن حكامنا ليس لديهم اي اهتمام في لعب دور الأوصياء على رعاياهم فيما يتعلق بالفن والعلوم، وثانياً، لأن عدم النضج الديني هو أضر هذه التشكيلة واكثرها خزياً. ولكن الطريقة التي يتصرف بها عقل رجل الدولة الذي يفضل الحرية في الفن والعلوم يمتد الى ابعد من ذلك، إنه يدرك انه ما من خطر حتى على شرعيته، إذا ما سمح لرعيته أن تتمتع بحرية الإستخدام العام لفهمها الخاص وأن تضع أمام الملأ افكارها حول طرق افضل لسن القوانين، حتى إذا كان هذا يستتبع نقد صريح للتشريعات القائمة. أمامنا مثال رائع لمثل هذا، لم يسبق لحاكم ان تجاوز هذا الذي ندفع له امتناننا. 

ولكن فقط الحاكم المتنوّر بدوره، الذي لا يخشى الأشباح، ومع ذلك ايضاً، لديه تحت سيطرته جيشاً عظيماً ومنظبطاً ليضمن الأمن العام، يستطيع ان يقول ما لا تتجرأ الجمهورية على قوله: جادل كما تستطيع وفيما تشاء، لكن اطع! هذا يكشف لنا عن نمط غريب وغير متوقع في الشؤون البشرية (كتلك التي سنجدها دائماً اذا ما اعتبرناها  في معناها العريض، ان كل شيء تقريباً متناقض). ان درجة اعلى من الحرية المدنية تبدو مفيدة لحرية الشعب الثقافية، ولكنها ايضاً تضع عليها حواجز لا تقهر. وعلى العكس، ان درجة اقل من الحرية المدنية تعطي الحرية الثقافية المساحة الكافية لتأخذ أوسع مداها. لذلك ما ان تتطور الجرثومة التي اوجدتها الطبيعة ليميل الانسان لندائه للتفكير الحر، داخل هذا الهيكل الصلب، حتى تبدأ بالتفاعل تدريجياً مع عقليات الشعب، والذين يصبحون، بالتالي، تدريجياً، قادرين على التصرف بحرية اخيراً، حتى انها تؤثر على مبادئ الحكومات، التي تجد انها، هي ايضاً، قادرة على الاستفادة، من معاملة الإنسان، الذي هو اكثر من آلة، بطريقة تتناسب مع كرامته.

 

 

كوينجسبرج/بروسيا 30 سبتمبر 1784: – إمانويل كانط