مجلة حكمة
أين الدليل

أين الدليل – مايكل انتوني / ترجمة: عمر المرجان

 


كتب هيوم مرّة, ’’الرجل الحكيم يقدّر إيمانه وفق الدليل.‘‘ هذه صياغة للـدليليّة evidentialismالرأي بأنّه يكون معتقد ما عقلانيّاً أو مُبَرَّراً إذا وفقط إذا كان مدعوم بدليل الشخص. الشكّ وترك الحكم, صيغة أكثر عموميّة للدليليّة تغطّي الإيمان بدرجات مختلفة من الثقة, بالإضافة لـ’مواقف اعتقاديّة‘ أخرى كالكفر.[1] هو يفيد أنّ الموقف العقلاني أو المُبَرَّر الذي ينبغي تبنِّيه فيما يتعلّق بدعوى أو قضيّة ما هو الموقف الذي يناسب دليل الشخص. رغم أنّ الدليليّة أصعب بكثير لتوضيحها والدفاع عنها ممّا قد تبدو, لا تُنْكَر منطقيّتها التي تُرى لأوّل وهلة.

تلعب الدليليّة دوراً أساسيّاً في الهجمات ضدّ الاعتقاد الدِّيني من قِبل الملحدين الجدد, كما كانت لـهيوم. الإيمان بوجود الله أو حقائق مقدّسة أخرى يُنْتَقَد على أساس أنّه ليس هناك دليل جيّد له. بتكرار قول كارل ساغان ولابلاس قبله, أُخْبِرْنا بأنّ ’’الدعاوى الاستثنائيّة تتطلّب دليلاً استثنائيّاً,‘‘ ويُضْمَن لنا أنّه ليس هناك شيء كهذا عندما يتعلّق الأمر بالمقدّس. النتيجة هي أنّ الاعتقاد الدِّيني لا بدّ أن يُحْكَم عليه بأنّه غير عقلاني, غير مُبَرّر ابِستيميّاً, أو جائز فكريّاً, وينبغي رفضه. كما عُرِف عن كرستُفر هتشنز قوله, ’’ما يمكن الجزم به دون دليل يمكن رفضه بلا دليل أيضاً.‘‘

لكن ماذا عن إلحاد الملحدين الجدد – إيمانهم بأنّه ليس هناك إله أو حقيقة مقدّسة أخرى؟ وفقاً للـدليليّة, ذلك الإيمان (بأيّ درجة من الثقة يُعْتَقد به) يتطلّب دليلاً كذلك كي يصبح عقلانيّاً. لكن, يميل الملحدون الجدد ألّا يقلقوا كثيراً حول تقديم أدلّة. مع أنّهم في بعض الأحيان يقدّمون حججاً – ’مشكلة الشرّ‘, حجّة دوكنز ’مناورة البوينغ 747 التامّة‘ في The God Delusion, وحجج أخرى – بصورة مجملة, تلك الحجج تلعب دوراً ضئيلاً في هجماتهم. إصرارهم المتكرّر أنّ كون الاعتقاد الدِّيني يفتقر للأدلّة هو أكثر مركزيّة, يكون غير عقلانيّ ولذا ينبغي تركه.

السّؤال الذي أتمنّى طرحه هو هذا: كيف يمكن للملحدين الجدد أن يوظّفوا مبادئهم الدليليّة للاحتجاج بأنّ الاعتقاد الدّيني غير عقلاني إن كانوا لا يرغبون بتطبيق تلك المبادئ نفسها على الإلحاد؟ إذا لم يكن إلحاد الملحدين الجدد, كما يوحي هتشنز في الاقتباس السابق, ألا تستلزم الدليليّة أنّ الإلحاد نفسه غير عقلاني أو غير مُبَرّر ابِستيميّاً؟ الإجابة هي ’نعم‘؛ إن كان يتمّ تفسير الدليليّة بالطريقة المعياريّة. فيبدو أنّ الملحدين الجدد يحتاجون بعض التعديل للدليليّة – شكل من ’توصيلة نظريّة‘ – يُجَوِّز إلحادهم في غياب الدليل. يبدون على دراية بهذا أيضاً, لأنّهم يقدِّمون عدّة أسباب لِما لا يتطلّب الإلحاد دعماً دليليّاً. سأُناقش خمسة من الأسباب المُقَدَّمة بشكل معتاد, وأحتجّ بأنّه لم ينجح ولا واحد منها. عند النهاية سأُشِير نحو ما أعتقد أنّها الطريقة الصحيحة لعرض الأمور.

 

  1. الإلحاد ليس اعتقاداً

غالباً يقول الملاحدة أنّ الإلحاد ليس موقفاً إيجابيّاً إطلاقاً – إيمان أو رأي سائد – لكنّه جحود الإيمان فحسب, رفض قبول ما يعتقده المؤمن, وعلى هذا, ليس هناك إيمان أو موقف لكي يكون هناك دليل له. الأدلّة غير مطلوبة لما هي ’ليست مواقف‘.

بينما تمّ استخدام الكلمة ’إلحاد atheism‘ في شيء مثل هذا المعنى (انظر على سبيل المثال مقال انتوني فلو  Antony Flew’الافتراض المُسْبَق للإلحاد The Presumption of Atheism‘) هو استخدام غير معتاد جدّاً. إن فُهِمَت هكذا, سيتضمّن الإلحاد اللّاأدريّة, لأنّ اللّأدريّين ليسوا ألوهيّين. لكن, وفق الفهم المعتاد للإلحاد – لا يوجد أيّ حقيقة إلهيّة من أيّ شكل – الإلحاد واللّاأدريّة غير متقاطعين. يصرّ البعض أنّ هذا المعنى الغير معتاد للـ’إلحاد‘ هو المعنى الممكن الوحيد, لأنّ الإلحاد يعني لا إيمان.[2] لكن لو كانت تلك حجّة جيّدة, لكان المكوّك الفضائي سيّارة, لأنّها تتحرّك بنفسها. […][3] مثل الكلاب والقطط.

مع ذلك لا شيء من ذلك يهمّ حقيقةً, لأنّه حتّى المعنى الغير معتاد للـ’إلحاد‘ لا يقوم بشيء لإبطال طلب الدليليّة لأدلّة. كما نرى, تنطبق الدليليّة على كلّ المواقف ’العقديّة‘ نحو قضيّة ما ب: تصديق ب, تصديق ليس-ب, تعليق الحكم على ب, إلخ. إذاً فالدليليّة تقول, فيما يتعلّق بالقضيّة الله موجود, بأنّ أيّ موقف نحوها سيكون عقلانيّ أو مُبَرَّر إذا وفقط إذا ناسَب أدلّة الشخص. نعم صحيح أنّه إذا لم يكن لشخص ما موقف أيّاً كان بخصوص القضيّة الله موجود (ربما لأنّ الشخص لم يُشْغِل فكره), لن يُشْتَرَط أدلّة لذلك اللا-موقف. لكنّ الملحدين الجدد كلّهم يعتقدون أنّه لا وجود لله أو حقيقة إلهيّة أخرى (ربما). وأنّه يجب أن يكون الاعتقاد مبنيّاً على الدليل إذا أُرِيد أن يُعْتَقد به عقلانيّاً, وفقاً للدليليّة. فالإصرار بأنّ الإلحاد ليس اعتقاداً لا يُساعد. فيما يلي سأستخدم ’الإلحاد atheism‘ باستعمالها الاعتيادي.

 

  1. لا يمكنك إثبات سلبي

دعوى أخرى معتادة للملحدين الجدد هي أنّك ’لا تستطيع إثبات سلبي ما‘ – حيث ما هو مقصود عادة هو دعوى وجود سلبي من الصورة ’س غير موجودة‘. بشكل بلاغي, هذه الدعوى تعمل كي تجيز الفكرة بأنّه لا يجب تقديم الأدلّة على عدم وجود الله. ففي النهاية, إذا الأدلّة لا يمكن تقديمها اقضيّة ما سيكون من غير المنطقي أن ننتظر من الشخص أن يقدِّم دليلاً ما, فمن المنطقي الاعتقاد بأنّ الأدلّة غير مطلوبة. لكن الدّعوى بأنّك لا تستطيع إثبات صورة سلبيّة لا تساعد الملحد. ذلك لأنّه, بطريقتَيْن ممكنتَيْن لتفسير ما يعنيه ’إثبات‘ شيء ما, هو خطأ عموماً أنّك لا تستطيع إثبات سلبي ما (وغالباً صحيح أنّك لا تستطيع إثبات إيجابي ما).

خذ أوّلاً, البراهِين التي تجلب اليقين, كما في الرياضيّات أو علم المنطق. مثل هذه البراهين هي ممكنة أحياناً لدعاوى وجود سلبيّة, كالدّعوى بأنّه ليس هناك عدد أوّلي أكبر. يمكن للشخص أيضاً الإثبات بيقين أنّه ليس هناك أيّ س متى ما أمكن إثبات أن يكون المفهوم س متهافت (مثل المفاهيم مربّع دائري, أو السّاعة الثالثة مساءً على الشّمس). بالطبع, صحيح أنّه لا يمكن إثبات عدّة دعاوى وجود سلبيّة بيقين مطلق, لكن الشيء نفسه ينطبق على دعاوى الوجود الإيجابيّة, مثال ذلك, من العلم أو الفطرة السّليمة, مثل أنّ هناك إلكترونات أو طاولات وكراسي. فليس هناك شيء خاص هنا حول دعاوى الوجود السلبيّة.

انْتَقِل تالياً إلى البراهين التي تهدف لتؤسّس الحقيقة المُحْتَمَلة فقط لنتائجهم. هذه هي الأشكال من البراهين التي تنتج من بحوث علميّة وأخرى تجريبيّة ناجحة. في هذا المعنى للـ’برهان‘, من السّهل إثبات اللّاوجود لأشياء عديدة: مثال ذلك, أن ليس هناك رمّانة في يدي, أو لا وجود لجبال مغطّاة بالثّلوج في الصّحارى. بينما قد يكون من الصّعب أو المستحيل حتّى في هذا المعنى الأضعف إثبات اللاوجود لأشياء عديدة – الغِيلان, قلنسوة في مجرّة القلانِس – نفس الشيء ينطبق على عدّة دعاوى وجود إيجابيّة – أنّ أرسطو عَطَس في يوم ميلاده العشرين؛ أنّ هناك كيان متعال؛ أنّ هناك قلنسوة في مكان ما من مجرّة القلانس. فمن جديد, ليس هناك شيء مميّز حول دعاوى الوجود السلبيّة. ينبغي رفض القول البائس بأنّ الشخص لا يمكنه إثبات سلبي ما.

 

  1. عبء البرهان هو على المؤمن

للملاحدة خطّة معروفة أخرى بالإصرار على أنّ عبء البرهان يقع على المؤمن. لو كان ذلك صحيح, قد يتيح للملحدين الجدد أن يتجنّبوا متطلّبات الدليليّة, وتبقي بشكل عقلاني الإلحاد دون أدلّة. لكن هل هي صحيحة؟

مفهوم ’عبء البرهان‘ (باللاتينيّة, onus probandi) يعود أصلاً إلى القانون الرّومي التقليدي, ويبقى ذو أهمِّيَّة في النظريّة القانونيّة. الذي عليه عبء برهان, وما يتركّب منه, يُحَدّد بواسطة حَكَم ما أو بقواعد مُؤَسَّسة تتفاوت عبر الأنظمة القانونيّة. الشيء نفسه صحيح للمناظرات الرسميّة التي تنشأ في مجموعة من الصِّيَغ. فكرة ’عبء البرهان‘ كذلك لها استخدام في إطارات غير رسميّة؛ مثال ذلك, في الخلافات الأكادِميّة أو الخصومات العامّة. لكن, بدون حَكَم أو قواعد ما للتحديد من الذي عليه العبء وكيف ينبغي عزله, يصير غير واضح كيف ينبغي تطبيق المفهوم, أو حتّى ما إذا كان له استخدام واضح.

مع ذلك رغم أنّ مفهوم عبء البرهان في الإطارات الغير رسميّة يُساء فهمه, ذلك لا يوقف العديد من الإعلان بثقة كيف ينبغي تعيين عبء البرهان. الخطأ الأكثر فظاعة هو الاعتقاد أنّها مسألة منطق. بدل ذلك, عبء البرهان هو مفهوم إجرائي أو منهجي. إنّه, في كلمات نِكُولَس رِشر, ’’مبدأ تنظيمي من العقلانيّة في سياق الحِجاج, قاعدة أساسيّة, كما كان, لعمليّة الخِصام العقلاني‘‘ (Dialectics, 1977). خطأ آخر هو الافتراض أنّ العبء يقع على مَن يطرح العبارة الإيجابيّة نَحويّاً. لكن, العبارات الإيجابيّة يمكن في غالب الأحيان أن يتم ترجمتها عقلانيّاً بشكل مستقيم إلى عبارات سلبيّة, والعكس صحيح: العبارة ’كلّ شيء يحدث لسبب‘ يمكن التعبير عنها بأنّها ’ليست هناك أيّ صُدَف‘, و’ليس هناك شيء خارق للطبيعة‘ يمكن إعادة التعبير عنها بأنّها ’الواقع طبيعي تماماً‘. مشكلة ثالثة هي أنّه كي تؤخَذ بجدِّيَّة العديد من العبارات السلبيّة – ’ليست هناك أيّ ذرّات‘, ’ليست هناك أيّ صُدَف‘ – تتطلّب أدلّة, بينما العبارات الإيجابيّة المقابلة لا تتطلّبها.

يقال أحياناً أنّ الشخص يتطلّب عبء برهان ما إذا كانت عبارة الشخص تناقض الرأي المأخوذ, ويبدو بالفعل أنّ عبء البرهان غالباً يقع بهذه الطريقة. لكن هذا العرض به مشاكل أيضاً – أحدها أنّه يمكن بشكل جائز للشخص أن يأخذ عبء الدّفاع عن موقف مُعْتَقَد به على نحو واسع لأولئك الذين يجهلونه أو دفاعه (يفعل المعلّمون هذا, مثلاً). ربما كان أفضل شيء نرجوه هو شيء كالآتي: في الحالات التي يُتوَقّع مِن مشاركِين في نقاش ما لأخذ الدعاوى التي طرحها الأطراف الآخرون بجدِّيَّة, كلّ المشاركِين يحملون عبئاً لتقديم دعم لادّعاءاتهم, إذا سئلوا (انظر الورقة James Carglie, ‘On the Burden of Proof’ في philosophy 72,1977).

مفهوم عبء البرهان في الإطارات الغير رسميّة معقّدة جدّاً لشرحه هنا, لكن لحسن الحظّ, لا يجب علينا هذا, لأنّ سؤال أيّ جانب عليه عبء البرهان في حجّة ما مستقلّ إلى حدّ كبير من سؤال أيّ الأدلّة مطلوبة للتصديق عقلانيّاً بأيّ المواقف. افترض على سبيل المثال أنّ شخصاً ما يدّعي بأنّه ليس هناك إلكترونات, وذلك الشّخص يحمل عبء البرهان. هي ليست قضيّة أنّه طالما أنّ عبئهم لم يتمّ عزله يمكن للناس أن يصدّقوا عقلانيّاً بأنّ الإلكترونات موجودة دون دليل. على العكس, كما تقول الدليليّة, الأدلّة مطلوبة كي يكون الاعتقاد مُبَرّراً حتّى لو لم يكن هناك عبء للدّفاع عن الاعتقاد. هذا يعني أنّه حتّى لو أنّ عبء البرهان لا يقع أبداً على الملحد في خلافاته مع الألوهيين (شيء لم نجد حتّى الآن أيّ سبب لتصديقه), لا يترتّب من تلك الحقيقة أنّ الملحدين يمكنهم الاعتقاد عقلانيّاً بلا دليل أنّه ليس هناك إله أو حقيقة مقدّسة أخرى. في النّهاية, مفهوم عبء البرهان ليس له فائدة للملحدين الجدد أيضاً لتجنّب مَطالب الدليليّة.

 

  1. مُوس اوكَم

ماذا عن مُوس اوكَم, مبدأ البخل المرتبط بفيلسوف وراهب أوسطيّ القرن, ويليام من اوكَم؟ مبدأه مُعَبَّر عنه على أنّه, ’’لا تضاعف الكيانات فوق الضرورة‘‘؟ هل هذا يساعد؟ الفكرة, بشكل مُفْتَرَض, هي أنّه إذا كان تصوّر ما للواقع دون أيّ كيان إلهي يتضمَّن المصادر الضروريّة لتعليل كلّ شيء يحتاج تعليل (قضيّة كان سينفيها اوكَم بشدّة!) إذاً موس اوكَم يرخّص لنا أن نستثني كلّ الإشارات إلى المقدّس في اعتباراتنا التعليليّة. هل لهذه الحيلة أن تبرِّر الإلحاد دون أدلّة؟

لا. المشكلة هي أنّ موس اوكَم له فائدة قليلة في الخلافات عمّا إذا كان كيان ما س موجود. ذلك لأنّه عادة سؤال مفتوح في خلافات كهذه ما إذا كان كلّ شيء يحتاج إلى تعليل يمكن في الحقيقة تعليله دون س. يعتقد الألوهيّون, أو يظنّون على الأقلّ, أنّ هناك خصائص للواقع غير قابلة للتعليل دون اللجوء إلى كيان إلهي: الوجود لكون حادث, الضبط الدّقيق للثوابت الفيزيائيّة, إلخ. علينا أن نتّخذ القرار هنا ما إذا كان كيان إلهي ما مطلوب لتعليل هذه الأشياء: المهمّ فقط هو أنّ الموس بنفسه لا يستطيع اتّخاذ القرار في أمور كهذه. هي تقوم بالعمل فقط بافتراض أنّ تعليلاً كاملاً للظاهرة ذات الصلة ممكن دون س؛ عند نقد ترخّص لنا إبطال س من انطولوجيّتنا. لكن الألوهيّين لن يقبلوا أنّ تعليلاً كاملاً للواقع ممكن دون اللجوء لكيان إلهي ما, طالما أنّه لم تُطْرَح حجّة مقنعة لتلك الدّعوى. إذاً موس اوكَم لا يمكن أن يكون له قوّة مقنعة في هذه المناظرة.

 

  1. عدم الدّليل هو دليل العدم

كي يحفظوا الدليليّة عند غياب الدّليل الأكيد للإلحاد, يبدو أنّ الملحدين الجدد يحتاجون مبدأ يفيد أنّه, في ظلّ غياب أدلّة جيّد للألوهيّة, فالإلحاد مدعوم بشكل دليلي. قد يبدو هذا كالسِّحر, لكن فكرة رئيسيّة لمقال نورود هانسن عام 1967 ’What I Don’t Believe‘, كان, ’’حين لا يكون هناك سبب جيّد للاعتقاد بأنّ دعوى [وجود إيجابيّة] ما صحيحة, ذاك نفسه سبب جيّد للاعتقاد بأنّ الدعوى خاطئة.‘‘ طرح مايكل اسكرفن مبدأً مشابهاً. فتبعاً لـتومَس مورس, سأسمِّ هذا دعوى اسكرفن وهانسن. أو دع-اس-هان[4] هي صيغة للفكرة أنّ عدم الدّليل هو دليل على العدم.

يدافع هانسن عن دع-اس-هان في بعض الطرائق التي رفضناها من قبل. لكن, دفاعه الأكثر تأثيراً بشكل بلاغي يضمّ التنبيه على الأشياء التي لا نملك لها أدلّة جيّدة – رجل الثّلج البغيض,  وحش لوخ نيس, شانغريلا, الغيلان – والتي نعتقد أيضاً أنّها غير موجودة. فكرته هي أنّا نعتقد بأنّ هذه الأشياء غير موجودة لأنّنا لا نملك أدلّة جيّدة عليها. لكن, هو لا يقدِّم أيّ حجّة لهذه الدّعوى الأخيرة. بشكل مفترض الأمثلة يراد لها أن تثبت فقط أنّا نستنتج  حسب دع-اس-هان.

استخدم الملحدون الجدد مؤخّراً أمثلة مثل هانسن ليدافعوا عن الإلحاد, نسمع الآن عن زَيْس, جنِّيَّة الأسنان ووحش السّباغتّي الطائرة؛ ثمّ هناك مثال برترند راسل لإبريق صينيّ يدور حول الشّمس بين الأرض والمرّيخ, صغير جدّاً كي يُكْتَشَف بمناظرنا. رغم كوننا لا نقدر على إبطال وجود إبريق كهذا, هذا لا يعني أنّه يجب أن نأخذ وجوده بشكل جدّي. في المقابل, الموقف العقلاني لاتّخاذه هو أنّ الإبريق لا وجود له. ما يريده راسل, وفقاً لدوكنز, ’’هو أنّ عبء البرهان يتحمّله المؤمنون, لا غير المؤمنين‘‘ (The God Delusion).

لتقييم هذا الدفاع عن دع-اس-هان المبنيّ على المثال, أريد أن أُوَضِّح نوعين مُجْمَلَيْن من الدّليل. لنسمِّ الأدلّة لقضيّة ما ب التي لا تكفي عادة لوحدها كي تقنع كافراً بأنّ ب صحيحة, أدلّة ضعيفة. لكن, يمكن للأدلّة الضعيفة أن تتراكم لتكوِّن حجّة مُقْنِعة, ويمكنها أيضاً دعم قضايا مختلفة أو حتّى المُتعارِضة (فكّر في الحقائق في قضيّة جريميّة مذكورة في حجج لنتائج مُتعارضة). في المقابل, الأدلّة القويّة تشمل أساساً كافياً أو مقنعاً لاعتقاد عقلاني, أو على الأقلّ, اعتبارات قويّة يمكن للنظريّات المتنافسة أن تعلِّلها. نحن نريد الأدلّة القويّة حين نسأل, ’’ما أدلّتك على ذلك؟‘‘

هذا الفارق مهمّ لأنّ ’’السبب الجيّد‘‘ في دع-اس-هان لا بدّ أن يُفهَم كدليل قوي إذا أُرِيد لـدع-اس-هان أن تنطبق على حالة الحقيقة الإلهيّة. ذلك لأنّ هناك أدلّة ضعيفة على حقيقة إلهيّة – التجربة الدينيّة, الضّبط الدّقيق للقوانين والثّوابت الفيزيائيّة, الإمكان الظاهر للكون, إلخ. هذه ونقاط أخرى, مع أنّها بعيدة من أن تكون حاسمة, ومع أنّها قابلة للتّعليل في طرائق أخرى, يمكنها احتمالاً أن تُذْكَر في حجّة مقنعة لوجود كيان إلهيّ ما. إذاً فإنّه, إذا كانت دع-اس-هان هي عن عدم أدلّة ضعيفة, فلا يمكن للشّخص أن يستدلّ من دع-اس-هان أنّه لا وجود لكيان إلهي. فلكي يكون لـدع-اس-هان فرصة ناجحة لتنطبق في حالة الملحد, يجب أن يُفْهَم ’السبب الجيّد‘ على أنّه شيء قريب من الأدلّة القويّة.

يمكننا الآن أن نرى لِما الـدع-اس-هان خاطئة. خذ الدّعوى بأنّ ديدان الأرض لها صورة بدائيّة من الوعي. هناك أدلّة قليلة على هذا, بالتأكيد لا أدلّة قويّة. ومع ذلك, العديد من باحثي الوعي يعتقدونها (بدرجات متفاوتة من الثقة). أو خذ القضيّة أنّ الواقع المادّي أكثر ثراءً وأكثر إلغازاً ممّا تمثّله نظريّاتنا الفيزيائيّة الحاليّة. ليس هناك أيّ أدلّة قويّة على هذا أيضاً, لكنّ العديد يعتقد بها (أحدهم, مارتن رِيس عالم الفيزياء الفلكيّة). أو خذ نظريّة الوتر. من جديد, ليس هناك شيء يمكن أن يُسَمّى أدلّة قويّة عليها, مع ذلك يعتقد بها العديد من الفيزيائيّين. مثل هذه الأمثلة يمكن مُضاعَفَتها. مع ذلك لو أردنا أخذ دع-اس-هان بشكل جدّي, نظراً لأنّه ليس هناك أدلّة قويّة لأيّ من القضايا المذكورة, سيكون علينا أن نستنتج عقلانيّاً أنّ نقيضات القضايا صحيحة: أنّ ديدان الأرض ليست واعية, أنّ الفيزياء ليست بعيدة عن الاكتمال, وأنّ نظريّة الوتر خاطئة. لكن ذاك سخيف! هذه النتائج السلبيّة يمكن تصديقها – بالطبع, العديد من الناس يصدّقونها – لكن ليس هناك سبب للافتراض أنّه يجب أن تُصَدّق.

وتزداد سوءاً. لأنّه متى ما كانت نقيضات القضايا كتلك السّابقة يمكن إعادة صياغتها على أنّها عبارات وجود إيجابيّة تفتقر لأدلّة قويّة, ستشير علينا الـدع-اس-هان كي نصدّق التناقضات. مثال ذلك, العبارة ’ديدان الأرض غير واعية‘ يمكن تحويلها إلى ’الحدّ بين المخلوقات الواعية واللاواعية هو فوق مستوى ديدان الأرض‘. لأنّه ليس هناك أدلّة قويّة على تلك, حسب دع-اس-هان ينبغي أن نصدّق بأنّه ليس هناك مثل هذا الحدّ – ما يعني الاعتقاد بأنّ ديدان الأرض واعية! إذاً, حسب دع-اس-هان, كي نكون عقلانيّون ينبغي أن نعتقد بأنّ ديدان الأرض واعية وغير واعية. هذا برهان خلف لـدع-اس-هان.

من السّهل الآن رؤية أين يقع هانسن والملاحدة الجدد في الخطأ بالدّفاع المبني على المثال لـدع-اس-هان: يختارون أمثلة تناسب الـدع-اس-هان ويتجاهلون الحالات من الشّكل الذي قدّم للتوّ التي تتعارض معها. هذا لا ينتج الانطباع الخاطئ بأنّ الـدع-اس-هان صحيحة, هي تشير إلى أنّ الإيمان الدّيني, لأنّه يفتقر إلى أدلّة قويّة, يجب الحكم عليه بأنّه سخيف تماماً مثل جنِّيَّة الأسنان أو الغيلان. لكن نظراً لأنّ هناك عدد من الاعتقادات الغير سخيفة التي تفتقر للأدلّة القويّة, يبقى أنّ الإيمان بحقيقة إلهيّة ما هي مثل تلك أكثر من الاعتقادات السخيفة. بالتأكيد لا هانسن ولا الملاحدة الجدد قالوا أيّ شيء ليحتجّوا لشيء آخر. علاوة على ذلك, من الواضح أنّه ليس لهم أيّ حجّة بأنّ الاعتقاد الدّيني ’تافه‘: إن فعلوا, لن تكون لهم حاجة ليبرّروا الإلحاد دون دليل – ستكون الحجّة نفسها هي الدليل. هنا قد يُعْتَرَض بأنّه ليس للمؤمنين حجّة أنّ الاعتقاد الدّيني جادّ بدلاً من تافه أيضاً. ربما يكون ذلك صحيح, لكنّه ليس ذا صلة. ما أعنيه فقط هو أنّ, بتقديم أمثلة سخيفة وتجاهل الأمثلة الغير سخيفة, يصنع هانسن والملحدون الجدد انطباعاً مضلِّلاً بأنّ حماقة الاعتقاد الدّيني هو نتيجة لاستنتاجهم بدلاً من مُسَلَّمة غير مدعومة.

 

النتيجة

عاينّا طرائق خمسة يحاول بها الملحدون الجدد أن يعذروا أنفسهم من مطالب الدليليّة بينما ينتقدون الاعتقاد الدّيني لفشله بتحقيق تلك المطالب, ورأينا أنّها كلّها تفشل. إذاً, في الأمور المتعلّقة بالأدلّة والتبرير, ليس للملاحدة الجدد سبب جيّد ليُعاملوا إلحادهم بشكل مختلف عن كيفيّة تعاملهم مع الإيمان بالإله.

كيف يستطيع الملحدون الجدد أن يردّوا على هذه النتيجة؟ أحد الخيارات هو قبول أنّ المبادئ الدليليّة تنطبق على الإلحاد أيضاً. وآخر هو رفض الدليليّة. لأنّه لا يمكننا أن نعاين تلك الخيارات هنا بأيّ تفصيل, دعوني أختم بمُخَطّط وجيز لكيف أعرض الحالة. أنا أعتقد أنّ الخلاف بين المؤمنين, الملحدين واللّاأدريّين يمكن نمذجتها على الخلافات في العلم, الفلسفة ومجالات أخرى حيث هناك أدلّة غير كافية لتفضيل أيّ موقف بوضوح. في العديد من مثل هذه الخلافات, كلّ المواقف لها شكل من الشرعيّة الفكريّة (التي لا تحبط الخلافات, بلا شكّ). فكّر في المجموعة من المواقف الجائزة التي يمكن أن تُتَّخَذ في سؤال نظريّة الوتر, أو فيما إذا كانت ديدان الأرض واعية. قول ما الذي تساويه ’الشرعيّة الفكريّة‘, وعلامَ تعتمد, هي مهمّة صعبة. قد تنقص التبرير الابستيمي, وبدل ذلك تتضمّن شكلاً من العقلانيّة العمليّة أو الوسيليّة. قد تعتمد أيضاً على المستفسرين أن يدركوا القيمة المميّزة للدليل القوي والمقنع, وأن يقبلوا بأنّ أدلّة كهذه يجب أن تكون فيصلاً نهائيّاً على الأسئلة النظريّة. لكن, النقطة الرّئيسيّة التي يجب التشديد عليها هنا هي هذه: المواقف المختلفة التي يمكن أخذها حول وجود كيان إلهي – الألوهيّة, الإلحاد, اللاأدريّة, وأشكال أخرى – هي مبدئيّاً ليست شرعيّة فكريّاً بدرجة أقلّ من مواقف بخلافات في العلوم ومجالات أخرى حيث لا موقف من المواقف يحظى بدعم دليليّ قويّ.

 

 

 


المصدر

[1] تمّ التصرّف بالنصّ هنا بما يناسب الترجمة العربيّة. (المترجم)

[2] المُحَدّد كالكلمات هذه لن يظهر كما كان في الأصل, لاعتماده على ميزات اللغة, وهي: a-theism means without theism. (المترجم)

[3] النصّ هنا كالسّابق يعتمد على ميزات اللغة, وهو: “the Space Shuttle would be an automobile, since it moves on its own (mobile=move, auto=by itself)”  (المترجم)

[4] قمتُ بالتّصرّف هنا بالنصّ كي يناسب التّرجمة حسب ميزات اللغة العربيّة. (المترجم)