مجلة حكمة
آسيا الكبرى: رواية “من بين أنقاض الإمبراطورية” - مشيرا بانكاج / ترجمة: أبرار عبدالله

آسيا الكبرى: رواية “من بين أنقاض الإمبراطورية” – مشيرا بانكاج / ترجمة: أبرار عبدالله

Untitled-0
غلاف الرواية

في عام ٢٠١١، عرض الفنان الصيني، المعارض لسياسة الحكومة الصينية، آي ويوي اثنا عشر تمثال برونزي لرؤوس حيوانات الأبراج الصينية حيث أقيم المعرض في خارج فندق بلازا في منهاتن. حاكت التماثيل المكبرة جملة تماثيل صممها أوروبيان يسوعيان أهديت إلى الإمبراطور تشيان لونغ في القرن الثامن عشر وعرضت في حدائق يوان مينغ يوان في قصر الإمبراطور الصيفي القديم. ولقد اختفى الفنان آي أثناء افتتاح المعرض بسبب اعتقاله في الصين، أثر جدل سياسي حول العمل الفني، الذي سلط الضوء على أكثر قضايا الحكومة الصينية جدلية وعرضت للغرب.

تعد رواية “من بين أنقاض الإمبراطورية” من أكثر الأعمال أهمية في تاريخ آسيا الفكري ردًا على الاحتلال الغربي، التي اقتبس فيها الروائي بانكاج ميشرا مقولة ناهب واصفًا مارأته عينيه في القصر “ عظمة المنظر تقطن أمام أعيننا الذاهلة، مع هذا يجب علي حل عينات ‪جميع أنواع الأحجار الكريمة المعروفة في سائل الذهب ليصبح حبرٍ يعبأ في قلم ألماسي رأسه مرصع بخيالات شاعر شرقي.”

ففي أثناء حرب الأفيون الثانية في عام ١٨٦٠، نهب الجنود الفرنسيون والبريطانيون القصر الصيفي وحرقوه. وكانت رؤوس الأبراج من ضمن المنهوبات التي أختفت لأجيال مديدة في مجموعات الفن الأوروبي.

ومايزال الدمار الذي حلَّ في القصر، الذي قد أصبح نسيًا منسياً لجناته، يثير العار والغضب في أوساط الشعب الصيني، فهو يعتبر رمزٌ تذكيري لوحشية الإمبراطورية الغربية والعواقب الوخيمة التي حلت بسبب ضعف القطاع العسكري الوطني الصيني.

 بيّن الكاتب الهندي ميشرا كيف رد مفكرو آسيا للقرنين العشرين والحادي عشر، كما فعل نظرائهم المفكرين في أوروبا وأمريكا، على مواجهة الاستعمار عن طريق خلق معارضة ثنائية بين الشرق والغرب.  وعانى الكُتاب في مواجهة التجربة المذلة للاستعباد، لتجلي التقنية العالية ومؤسسات القوى الإمبرالية في تركيا العثمانية وفي حقبة ميجي اليابانية. فهل كان يمكن لدخول الاختراعات الجديدة وأنماط الإنتاج المختلفة على البنى الإجتماعية القائمة أن تكون الرد المناسب على مظاهر الاستعمار؟ أم التخلي عن أساليب الحياة المعهودة هو الأنسب ؟

ولايزال السؤال الأزلي حول مايجدر قبوله وتبنيه من الغرب أو رفضه تمامًا، سؤال جوهري في السياسة الآسيوية المعاصرة.

 فلم تكشف الرواية عن سبب محاكاة الفنان الصيني للتماثيل الوطنية المنهوبة التي توجد في مدينة أوروبية فقط، بل بينت أيضًا الركائز الايدلوجية للثورة الإيرانية، وإصرار الهند على الإمتياز في المجال العلمي والتقني.

يروي ميشرا هذه القصة مستعينًا بسير ثلاث مفكرين بارزين، وهم الداعية الرحال ذو المولد الفارسي جمال الدين الأفغاني، والمصلح الصيني ليانغ كيتشاو، والشاعر الحائز على جائزة نوبل للأداب روبندرونات طاغور، الذي يفاخر بتجسيده للحكمة الشرقية التقليدية. أدعى الداعية الأفغاني (٩٧-١٨٣٨) بأنه مسلم سني من أفغانستان إلا أنه في الحقيقة كان شيعي فارسي. سافر إلى الهند وفي عمر ٢٨ عاد إلى كابول حيث كان يحاول التلاعب بالبريطانين ضد الروس في صراع اللعبة الكبرى.

كان رجل ذو ولاء سياسي مرن، مؤمن بالآية القرآنية “إِنَّ الله لا يُغَيَّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغيَّرُوا ما بأنَفُسِهِم”، فأصبح رسول الوحدة الإسلامية، ويتمنى استعادة أصالة الدين الذي يرى أنه عقلاني في جوهره، وهو منفتح على الطرح المتجدد في الدين. وبعد طرده من كابول، تجول في العالم الإسلامي من مساجد القاهرة إلى غرف الرسم في أسطنبول، حيث ألح على السلطان العثماني لبدء حركة مقاومة إسلامية ضد الغرب.

 فيما سعى ليانغ كيتشاو (١٩٢٩-١٨٧٣) إلى إيجاد حل وسط للصين بين التصلب الفكري للبلاط الإمبراطوري تشينغ والانقلاب التدميري الذي اقترفه الشيوعيين. وفي عام ١٨٩٨، حاول الإمبراطور جوانجكسو ذو ٢٦ عامًا وصديقه والمستشار كانغ يوى وى في بدء عملية إصلاح عاجلة استمرت نحو ١٠٠ يوم فقط، وذلك قبل اعتزال الإمبراطورة الأرملة من القصر الصيفي القديم، والتي “عاهدت نفسها على القضاء على ابن أخيها الصغير”. بالكاد تمكن ليانغ من النجاة بحياته. أما الثورة، فكما وصفها ميشرا، أصبح لا مفر منها.

وكان لكلٍ من كانغ وليانغ دور فعال في صياغة جزيئة جديدة حازمة في الخطاب السياسي الصيني تعنى “بالشعب”، فبالعادة، لا تعتبر أراء العامة ذات أهمية. لذا طرحوا اقتراح ينص على أن الدولة بحاجة إلى موافقة المواطنين المتعلمين بشأن الحكم. وآمن كانغ بهذه الإصلاحات التي تسعى إلى إشراك الفئة المتعلمة من الشعب وإجراء الانتخابات الحرة، إذ قد تحقق الفكرة الكونفوشيوسية لمفهوم رن ( إنسانية ) وهي: “رؤية خيالية سامية لمجتمع عالمي أخلاقي بطبعه، حيث تتلاشى فيه الأنانية والطبقية.”

بعد فشل إصلاحات ١٨٩٨، رُحِّل ليانغ إلى اليابان في فترة ميجي إذ كانت حينها مرتعاً للتدبير الثوري العالمي كما حال لندن وباريس، فقد كانت اليابان وسط عالمي يتلاقى فيه الثوار من جميع أرجاء آسيا للحوار والجدال في أجواء ساد فيها مشاعر الاعتزاز الثقافي، والامتعاض السياسي، ورثاء الذات. ونتيجة لذلك، لقد ترجمت كتب هربرت سبنسر، وجون ستيورات ميل، وآدم سميث، وتوم هنري هكسلي إلى الصينية، وقد أصبح للدروينية الاجتماعية خصيصًا تأثير فعال في هذا الوسط.

في ظل تأثير الدروينية، انتقل ليانغ من الكونفوشيوسية العالمية، التي تدور حول ثبات النظام وهدى الإمبراطور، إلى فكرة ثورية تدعو لحراك المجتمع بأكمله. وكتب أن القوة الدافعة للمنافسة العالمية الحديثة تنشأ من “سعي معاناة المواطن للنجاة، فلا يمكن كبحه؛ لتلاقيه مع قوانين الاصطفاء الطبيعي ونجاة الأنسب، لذا فالمنافسات العالمية الحالية ليست أمرًا يخص الدولة فقط، بل تهم الشعب كافة”. والجدير بالذكر تجلي تأثير نظرية ليانغ الواقعية للسلطة في السياسة الصينية المعاصرة. وأشار مشيرا ممتعضًا بأن الديمقراطية الليبرالية “لم تكن بالضرورة معززة للوطنية”.

ويعود الفضل لليانغ لدعوته للشاعر البنغالي روبندرونات طاغور(١٨٦١-١٩٤١)، ليلقي محاضرة في مدينة شانغهاي في عام ١٩٢٤. فقد تبنى مفكرو الهند في نهاية القرن ١٩ موقف في التفوق الروحي، محتقرين فيه الحضارة الحديثة واصفينها بالآلة، كما وصفوا الأوروبيون (كما جاء في كلمات سوامي فيفيكاناندا الخالدة): “ بهائم برية … هائمون بشهواتهم، وغارقون في الخمر من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم”.

تمنى طاغور أن يعتدل الشرق في اعتماده على الآلة في مكوابته للحضارة الحديثة في مقولته “الاستعاضة عن قلب المرء من أجل نفعية باردة”، لكن مع أن موقف طاغور كان نبيلاً، إلا أن الهند قد أصبحت حكاية تحذيرية في أعين الصينين؛ فهي دولة قد أذلها البريطاني واستعبدها. إذ عندما تحدث طاغور في اجتماع عقد في مدينة هانكو (هي مدينة تقع في ووهان عاصمة مقاطعة ووباي حاليًا)، لاقى هتافات وشعارات تستنكر حضوره: “عُد من حيث أتيت، أيها المستعبد من الدولة الضائعة. لانريد ترهات الفلسفة، بل نريد رفاهية المادة.”

لكن يبدو أن الشاعر الرومنسي طاغور غير المعروف، أستطاع أن يرفع من وعي أبناء منطقته بالمقالات، وبالأشعار، والأغاني التي أصبحت الأنشدة الوطنية للهند وبنغلاديش في يومنا هذا. ويعود الفضل أيضًا لمهمة الأفغاني في إصلاح العالم الإسلامي الضائع، ورغبة ليانغ في حشد الإرادة الشعبية لصنع التحول الوطني، اللذان قد شكلا قرن يوافي تطلعات السياسة الآسيوية. يتجلى دهاء مشيرا في سرده لهذا التاريخ المهمل في روايته الماتعة، ليأكد دعواه بأن: “الحدث الأهم في القرن الماضي لأغلبية سكان العالم هو النهضة الفكرية والسياسية في آسيا”.

 

 

المصدر